ينظر الكثيرون إلى فرنسا باعتبارها بلد الحرية والعدالة، ولكن تناقضات القوانين الفرنسية العلمانية تثير شكوكاً في هذا الأمر، بل تجعل العلمانية الفرنسية الوجه الآخر للأصولية السعودية والإيرانية.
في معرض تبرير موقع مونت كارلو الفرنسي لإساءات مجلة شارل إيبدو بحق الرسول، يقول تقرير للموقع: "الحدود الوحيدة التي يجب على الصحفيين (والمواطنين) في فرنسا عدم تجاوزها نهائياً هي الإدلاء بتصريحات تنفي أو تشكك في وقوع المحرقة اليهودية أو تدعو إلى الكراهية أو إلى العنف في حق شخص ما أو فئة ما من الناس (ولا يعني هذا عدم انتقاد أو السخرية من عقيدة من العقائد بشكل عام) أو وصم جماعة معينة بسبب أصولها الدينية أو العرقية أو القومية أو الجنسية".
والحقيقة أنه من منطلق عقلاني وإنساني، فإن هذه القواعد والقوانين تعاني من تناقضات عدة.
أولها أن المسافة بين حرية ازدراء الأديان والسخرية من رموزها، وبين عدم التحريض على كراهية طائفة أو مجموعة دينية، هي مسافة غير موجودة، فبالنسبة لأغلب المسلمين قد يكون الإساءة لرسولهم أسوأ من الحض على كراهية المسلمين.
الأمر الثاني، أن أغلب منتقدي موقف الرئيس إيمانويل ماكرون من الرسوم المسيئة لم يطالبوه بأن يغلق المجلة أو يحاسبها بل أن ينأى بنفسه عنها، فمن ضمن حرية التعبير أن يدينها أو يقول إنها ملائمة أو أنها تثير مشاعر المسلمين.
ولكن الواقع أن ماكرون تجنب هذه الترضيات البسيطة ليس احتراماً للعلمانية، بل حتى لا تطير منه أصوات اليمين المتطرف.
تناقضات القوانين الفرنسية العلمانية.. قدسية الهولوكوست نموذجاً
ولكن التناقض الأبرز في القوانين الفرنسية يظهر في حرية ازدراء الأديان وتجريم إنكار الهولوكوست.
يجب أولاً التأكيد على استغراب أو انتقاد إنكار الهولوكست لا يعني بالضرورة تأييد الأفكار المنكرة لهذه المحرقة أو التي تقلل من بشاعتها.
وتجدر الإشارة إلى أن كتاباً عرباً مرموقين منهم الدكتور عبدالوهاب المسيري الكاتب المحسوب على التيار الإسلامي وأبرز المتخصصين في مجال دراسات اليهود والصهيونية، قد رفض إنكار الهولوكوست، أو التقليل من هذا الجرم، مؤكداً أن المسلم السوي لا يجب أن ينكر الهولوكوست باعتباره جريمة، ولا يجب أن يكون فارقاً في موقفه لأن ضحاياها من اليهود، علماً أن اليهود فروا مراراً من الاضطهاد في أوروبا وتحديداً في إسبانيا إلى الدولة العثمانية.
ولكن السؤال البديهي، لماذا يعتبر إنكار الهولوكوست جريمة رغم أن هناك مذابح أخرى لا ينطبق عليها هذا الأمر علماً بأنها لا تقل سوءاً عنها ومن بينها مذابح قام بها النازيون أيضاً في حق العديد من الشعوب السلافية والأسوأ بحق الغجر؟
بالاضافة بطبيعة الحال إلى المذابح التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في أماكن عديدة على رأسها الجزائر والتي ينكرها أو يقلل منها أغلب الفرنسيين، بل إنهم انتقدوا ماكرون عندما اعترف بها.
كما أن سماح القانون الفرنسي بحرية السخرية من الأديان مقابل تجريم إنكار الهولوكوست، يمثل مخالفة لبديهيات العلم والمنطق.
أولاً: الانتقاد بصرف النظر عن كونه يستند إلى أسس علمية أو غير عملية هو أكثر أهمية للدراسات التاريخية والسياسية من السخرية، رغم أنه لا يمكن إنكار أهمية السخرية في المجالين الثقافي والسياسي.
ولكن انتقاد أي شيء وحتى إنكاره ضروري للتأكد من صحته، فأي دراسة علمية لأي ظاهرة تاريخية أو غير تاريخية، تقوم على فرضية أولية هي أنه هناك احتمالان أن هذه الظاهرة التاريخية وقعت أو لم تقع، ولكي يتسنى التأكد من وقوعها، فإنه يجب اختبار فرضية عدم وقوعها وإذا ثبت أنها فرضية غير صحيحة، فإن هذا يعني إثبات أن هذه الواقعة التاريخية قد حدثت.
ولذا فإن الساخرين من منكري الهولوكوست من العرب وغير العرب، يتجاهلون أن إحاطة الهولوكوست بهذه القداسة لا تغذي فقط نظرية المؤامرة، ولكن يطرح سؤالاً بديهياً، كيف يمكن إقناع المنكرين للمحرقة بوقوعها في ظل عملية الترهيب التي تواجه من يتناولها؟ فإثبات أي شيء يتطلب جواً من الحرية للمتحدثين حوله حتى لو أخطأ بعضهم أو استندوا إلى أساس غير علمي يمكن دحض كلامهم بشكل علمي.
والحقيقة أن تجريم إنكار الهولوكست مماثل تماماً لرفض المحافظين والمتشددين دينياً لتناول عقائدهم بالدراسة، وهو ما يمنع أيضأً التأكد من جذورها وصحتها.
وحتى لو كان أغلب منكري الهولوكوست مؤدلجين ولا يستندون إلى أساس غير علمي، فكم من مسائل أكثر حساسية وأكثر ثبوتاً، لا يتم تجريم إنكارها، ونذكر في هذا الصدد أن هناك من يرفض في الولايات المتحدة تلقي اللقاحات بدعوى أنها مضرة، ونحن في خضم جائحة خطيرة تهدد البشرية، فهل يجب وضعهم في السجون.
فهذا التجريم مخالف للعقلية النقدية التي يفترض أن تميز أي حضارة متقدمة، فتجريم إنكار الشيء هو معناه منع الفرصة المحتملة لإثبات صحة وجود هذا الشيء بشكل موضوعي.
العلمانية للمسلمين فقط
أيضا أحد تناقضات القوانين الفرنسية هو القوانين العلمانية التي تستهدف المسلمين والتي دائماً يتم الترويج أنها تستهدف الجميع ولا تستهدف المسلمين تحديداً، ولكن يجب ملاحظة أن هذه القوانين أغلبها قديم، وفقد أهميته ثم بدأت تتواتر مع ترسيخ الجاليات العربية لوجودها في فرنسا.
بل بالتزامن مع تفعيل هذه القوانين، يتصاعد الحنين للكاثوليكية، وأصبح التعاطف مع الكاثوليكية، أو ما يمكن تسميته بـ"الكاثوليفيليا" (حب الكاثوليكية)، بدأ ينتشر في الأوساط السياسية الفرنسية من اليسار إلى اليمين، إلى حدّ يعود بفرنسا التي تعتبر أحد النماذج العلمانية في العالم، إلى صفتها التاريخية كـ"ابنة بكر للكنيسة".
ومن مظاهر تناقضات القوانين الفرنسية محاولتها للتصدي للتعليم الإسلامي والعربي في فرنسا بدعوى الحفاظ على علمانية الدولة، علماً أن منطقة الإلزاس واللورين تعتبر خارجة عن نطاق العلمانية في فرنسا، خاصة في التعليم، كما يتقاضى رجال الدين من الدولة رواتب في هذه المنطقة، علماً بأن الحكومة الفرنسية رفضت تغيير وضع هذه المنطقة بعد انتقادات وجهت لهذا الوضع بأنه مخالف للعلمانية.
التعليم الديني وسيلة فرنسا لاختراق الشعوب
في إفريقيا كانت البعثات الكاثوليكية في غرب القارة في القرن التاسع عشر تمهد للاستعمار الفرنسي.
ومن مفارقات السياسة الفرنسية أن باريس التي تضطهد المسلمين باسم العلمانية، تعتمد على الإرساليات الكاثوليكية التعليمية لنشر نفوذها في العالم العربي.
وبينما يريد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تقييد حريات المسلمين بدعوى منع التأثيرات الخارجية عليهم، أي لا يريد أن يتأثر مثلاً الفرنسي ذو الأصول الجزائرية بما يحدث في بلده، سواء كانا دينياً أو غير ديني، (وهو مسعى خيالي) فإن باريس تقدم نفسها دوماً على أنها حامية المسيحية في الشرق لاسيما الكاثوليك، وهي أقليات لا تربطها أي صلة مميزة بفرنسا، (سوى الاستغلال الفرنسي لها منذ العهد العثماني)، والأهم أنها أقليات ابنة المنطقة وليست مهاجرة من فرنسا، بل إنها اعتنقت المسيحية قبل أن يوجد شيء اسمه فرنسا.
ولم يقتصر تدخل فرنسا في شئون العالم العربي على المسيحيين، بل إن فرنسا التي قضت على اللغات غير الفرنسية في الداخل الفرنسي ومسحت هوية أقاليمها المتنوعة الإثنية، تسعى لإثارة الخلاف الأمازيغي العربي في المغرب العربي. وفي المشرق، تشجع القوى الكردية الانفصالية في سوريا على السيطرة على الأغلبية العربية لتؤسس دويلة عنصرية قمتها من الأكراد وقاعدتها من العرب.
ففرنسا التي تتحدث عن حقوق الأكراد في سوريا، دأبت على فرض قيود على سكان إقليم بريتاني الذي يبعد بضع مئات من الكيلومترات من باريس في تعلم لغتهم، حتى باتت مهددة بالانقراض.
إذ يبدو أن الحرية في فرنسا تسير في اتجاه واحد استهداف الإسلام والعرب بعدما قضت على التنوع الديني والثقافي داخلها.
هل النموذج الفرنسي مميز؟
والسؤال ما فائدة العلمانية التي تتباهى بها فرنسا؟
أليس هدف العلمانية منع الاضطهاد الديني؟ فها هم المسلمون يشكون من التمييز باعتراف زعيم اليسار الفرنسي الراديكالي جان لوك ميلينشون.
أليس هدف العلمانية الحرية، والتي تعني من ضمن ما تعني حرية الملبس والمأكل؟ ها هو وزير داخلية فرنسا يسعى لمنع أقسام الأكل الحلال في محلات البقالة، والتلاميذ المسلمون سيجبرون على أكل لحم الخنزير في المدارس، والمسلمات محظور عليهن الحجاب في الأماكن العامة.
أليس هدف العلمانية تحقيق التقدم العلمي؟ ولكن الواقع أن فرنسا أقل تقدماً من ألمانيا التي يلعب الدين دوراً كبيراً في حياتها السياسية والاجتماعية ومن المملكة المتحدة التي تترأسها ملكتها الكنيسة، والمصنفة رسمياً كدولة مسيحية، وأقل من الولايات المتحدة التي تعد من أكثر دول العالم التي يلعب الدين دوراً في حياتها السياسية واليومية.
أليس هدف العلمانية المفترض ترسيخ الإنسانية، والحفاظ على الأرواح؟ ولكن الواقع أن الاستعمار الفرنسي هو أسوأ استعمار، وحجم ضحاياه هائل، إضافة إلى أنه لم يترك آثاراً اقتصادية وسياسية إيجابية في البلدان التي احتلها كما فعل الإنجليز في الهند.
وفرنسا العلمانية هي من أهم مصدري السلاح في العالم وأكثرهم تحللاً من القيود الأخلاقية، فلقد تصدت على سبيل المثال لمحاولات ألمانيا لمنع تصدير السلاح، للسعودية بسبب حربها المستمرة منذ أكثر من خمس سنوات في اليمن والتي تسببت بأكبر كارثة إنسانية في العالم، (بينما علقت تصدير السلاح لتركيا بسبب عملية عسكرية في شمال سوريا استمرت عدة أيام ضد القوى الكردية التي يقودها أعضاء سوريون من حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا وأوروبا).
ليس غريباً هذه السياسة الفرنسية لأنها قديمة، ولكن الغريب أنها تجد دفاعاً من قبل بعض المثقفين العرب، رغم أنها تُنتقد من الداخل الفرنسي، بل إن ماكرون انتقد أغلب هذه السياسات قبل أن يصبح رئيساً وطالب بتخفيف صرامة العلمانية، والسماح بمساحة للدين في حياة المسلمين، أما زعيم اليسار الفرنسي الراديكالي جان لوك ميلينشون فقد انتقد سياسات ماكرون حالياً واعتبرها موجهة ضد المسلمين.
هذه السياسات التي تعلي قيمة العلمانية المضادة للإسلام (وفعلياً ليس ضد كل الأديان، كما تقول) على حساب قيم أخرى مثل الحرية والعدالة وقبول الآخر، وقبول التنوع، تمثل شكلاً من أشكال التطرف.
والنتيجة أن فرنسا لا تختلف كثيراً عن إيران والسعودية اللتين تفرضان قيوداً على السيدات غير المحجبات، بينما فرنسا تجبر السيدات المحجبات على خلع حجابهن، فالثلاثة يضطهدون المرأة، والثلاثة يستغل الدين لأسباب سياسية.