بدأ دبلوماسيون أمريكيون وعدد من مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية العاملين في الخارج، من ضمنهم العاملون في كوبا والصين، يعانون من نوبات صداع شديدة ودوار وفقدان في الذاكرة، وغيرها من الأعراض المزعجة بدايةً من عام 2016. وتقول مجلة Foreign Policy الأمريكية إن الحكومة الأمريكية تعهدت بالتحقيق لكشف حقيقة الأمر، وكلّفت كبار المحققين والعلماء لكشف غموض ما كان يحدث بالضبط.
لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية عاجزة عن إيجاد إجابات بعد مرور ما يقرب من 4 سنوات. لكن التطورات الجديدة في تلك الحالات المرضية الغامضة سلطت الضوء مجدَّداً على هذه القضية –من بينها تقارير جديدة نشرتها صحيفة The New York Times ومجلة GQ الأمريكية. يشك مسؤولون أمريكيون في أنَّ ما حدث قد يكون جزءاً من "هجوم مُنسّق من إحدى الدول المعادية للولايات المتحدة".
لم يتضح بعد سبب معاناة الدبلوماسيين الأمريكيين من تلك الأعراض. تتراوح النظريات ما بين أسلحة تعمل بطاقة الموجات الدقيقة (المعروفة باسم أسلحة الميكروويف) إلى التسمم إلى الهستيريا الجماعية. لكن ثمة شيء واحد مؤكد يتمثَّل في أنَّ مسؤولين أمريكيين في الخارج قد عانوا من أعراض موهنة ويشعر بعضهم أنَّهم لم يحصلوا على المساعدة اللازمة من حكومة الولايات المتحدة.
هل سبب حدوث تلك الأعراض السالفة الذكر معروف؟
الإجابة: لا. ومع ذلك، يحصر عدد من المسؤولين والعلماء الأمر في بعض النظريات، من ضمنها استخدام أسلحة الموجات الدقيقة. نشر فريق من الأطباء تقريراً في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية عام 2018 خلص إلى أنَّ الدبلوماسيين المصابين في كوبا عانوا من إصابات دماغية مماثلة لتلك الناجمة عن الارتجاج بدون أن يكون قد تعرضوا حديثاً لإصابات في الرأس.
قال دوغلاس سميث، المؤلف الرئيسي للدراسة ومدير مركز "Penn" لإصابات الدماغ بكلية "بيرلمان" للطب في جامعة بنسلفانيا، لصحيفة "New York Times" في وقتٍ لاحق من ذلك العام إنَّ الشكوك تتزايد حول أنَّ أدمغة الدبلوماسيين قد تضررت جراء التعرض لطاقة الموجات الدقيقة.
طوّر الجيش الأمريكي النماذج الأولية الخاصة به لأسلحة الطاقة الموجهة التي يمكنها إطلاق شحنات غير قاتلة. لكن النظام العسكري الأمريكي يشبه الشاحنة، إذ يستغرق ساعات حتى يبدأ في العمل.
نظريات مختلفة
على مدار عقود، كان الاتحاد السوفييتي قد قصف السفارة الأمريكية في موسكو خلال الحرب الباردة بموجات ميكروية باتت تُعرف باسم "إشارة موسكو"
(Moscow signal). لم تكن تلك الموجات تهدف إلى التحكّم بالعقل لكنها كانت وسيلة لتفعيل أجهزة التنصت المزروعة داخل جدران السفارة.
قال ستيفن هول، الرئيس السابق لوحدة العمليات التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في موسكو والذي تقاعد عام 2015، إنَّ "السوفييت، في فترات التوتر السيئة مثل سبعينيات القرن الماضي، كانوا يستخدمون الكثير من الأجهزة عالية الطاقة لتنفيذ عمليات تقنية لجمع المعلومات. لكن اتضح أنَّه في حال إطلاق تلك الموجات الدقيقة بمستوى عالٍ جداً، ستؤدي إلى حدوث آثار سلبية على الصحة. كنت أفترض دائماً أنَّ ما حدث للمسؤولين الأمريكيين في الصين وروسيا وكوبا قد يكون نسخة قريبة من ذلك".
ثمة نظريات أخرى تشمل السموم أو حتى الهستيريا الجماعية. أصيب أيضاً دبلوماسيون كنديون مقيمون في كوبا بإصابات دماغية غامضة في نفس الوقت تقريباً الذي أُصيب فيه نظراؤهم الأمريكيون. أشارت دراسة أجريت بتكليف من الحكومة الكندية إلى وجود آثار جانبية لمواد كيميائية تُستخدم في عمليات التطهير ضد البعوض، لافتة إلى أنَّ الضرر الدماغي حدث في منطقة قابلة للتأثر بالسموم العصبية.
يشتبه آخرون في الإصابة بمرض جماعي نفسي المنشأ، حيث يقنع الأفراد أنفسهم بأنَّهم يعانون من نفس الأعراض التي يعاني منها أقرانهم، وهو ما وصفه أحد الأساتذة لمجلة " Vanity Fair" الأمريكية بأنَّه أحد أشكال "تأثير الدواء الوهمي". ومع ذلك، أشار مؤلفو التقرير الصادر عام 2018 إلى أنَّ بعض الأعراض التي عانى منها الدبلوماسيون لا يمكن اختلاقها أو التوهم بها، وأنَّ أعراض المرض الجماعي نفسي المنشأ تميل إلى الزوال سريعاً.
تقارير لم تعلن نتائجها بعد
قد يكمن أفضل أمل للحصول على إجابة في دراسة أجرتها الأكاديمية الوطنية للعلوم بتكليف من وزارة الخارجية الأمريكية في ربيع العام الماضي. شكّلت الأكاديمية لجنة مكوّنة من أطباء أعصاب وخبراء في الهندسة الكهربائية ومتخصصين في علم السموم والوبائيات.
قدّمت اللجنة تقريرها إلى وزارة الخارجية الأمريكية في أوائل أغسطس/آب، لكن لم يُعلن بعد عما توصلت إليه اللجنة إلى المشرعين أو الرأي العام. قال ديفيد ريلمان، أستاذ الطب بجامعة ستانفورد الذي ترأس اللجنة: "كان الأمر محبطاً للغاية بالنسبة لي ولزملائي في بعض النواحي، لكنه كان مفاجئاً بالتأكيد".
لم يستطع ريلمان مشاركة نتائج التقرير، لكنه قال إنَّ اللجنة فحصت 4 تفسيرات محتملة للأضرار الصحية التي عاني منها الدبلوماسيون ووجدت أنَّ أحدها هو الأكثر منطقية. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن آلية واحدة تفسر الأمر برمته لأنَّه كان معقداً حقاً من الناحية السريرية. لقد انتقل الكثير من هؤلاء الأشخاص المعنيين إلى عدة أماكن متفرقة ومتباعدة بمرور الوقت.
متى بدأ هذا المرض الغامض؟
استحوذ هذا المرض الغامض على اهتمام الرأي العام لأول مرة في عام 2017 عندما أفاد عدد من المسؤولين الأمريكيين بسفارة الولايات المتحدة في كوبا أنَّهم يعانون من ضعف السمع والدوخة والصداع والإرهاق وصعوبة في النوم ومشاكل في الإدراك. في العام التالي، ظهرت على الدبلوماسيين الأمريكيين المقيمين في الصين أعراض قال عنها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للمشرعين إنَّها "متشابهة للغاية ومتسقة تماماً مع الأعراض التي أبلغ عنها الأمريكيون في كوبا".
لكن ثمة حالة واحدة أخرى على الأقل سبقت بشكل كبير الحالات التي ظهرت في كوبا والصين. في عام 2013، قدَّم موظف في وكالة الأمن القومي الأمريكية يُدعى مايك بيك مطالبة بالتعويض إلى وزارة العمل الأمريكية يزعم فيها أنَّ تعرَّضه للموجات الميكروية عندما كان في رحلة إلى إحدى الدول المعادية عام 1996 ربما تسبّب في إصابته بالشلل الارتعاشي (المعروف باسم مرض باركنسون) في عمر الـ46 عاماً.
أصدرت وكالة الأمن القومي ملخصاً لتقييم استخباراتي سري وجد أنَّ الدولة التي ذهب إليها مايك بيك، يُعتقد أنَّها كانت تستخدم "سلاحاً يعمل بنظام الموجات الدقيقة الموجهة عالية الطاقة قد يكون قادراً على إضعاف أو ترهيب أو قتل العدو بمرور الوقت وبدون ترك أدلة". أفادت صحيفة New York Times أنَّ أشخاصاً مطلعين على التقييم الإستخباراتي قالوا إنَّ تلك الدولة المعنية هي روسيا. (وكانت وزارة العمل الأمريكية قد رفضت مطالبة مايك بيك).
كيف استجابت الحكومة الأمريكية؟
لم يكن الانتقام من كوبا يُشكّل أي صعوبة، حيث كانت إدارة دونالد ترامب تتطلع بالفعل إلى التراجع عن عملية ذوبان الجليد التي دشنها الرئيس السابق باراك أوباما مع كوبا لاستعادة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين البلدين. قررت الولايات المتحدة طرد 15 دبلوماسياً كوبياً من واشنطن رداً على تعرّض موظفي سفارتها بهافانا لتلك الهجمات الغامضة التي أثّرت سلباً على صحتهم، وأصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تحذيراً لمواطنيها من السفر إلى كوبا.
من جانبها، نفت الحكومة الكوبية مراراً أي تورط لها في تلك الهجمات المفترضة. في المقابل، كانت الاستجابة الأمريكية أكثر خفوتاً في الصين، حيث كان ترامب يحاول تأمين صفقة تجارية مع بكين. قال مارك لينزي، أحد الدبلوماسيين المتضررين، لصحيفة New York Times: "لقد تخلوا عنَّا".
وصف بومبيو، في مؤتمر صحفي يوم الأربعاء 21 أكتوبر/تشرين الأول، الادعاء القائل بأنَّ الاعتبارات السياسية شكّلت استجابة الإدارة الأمريكية في هذه القضية بأنَّه "خاطئ تماماً".
لم يعاني الدبلوماسيون الأمريكيون من تلك الأعراض المرضية الغامضة في الصين فقط. تحدث مارك بوليمر وبولوس، المشرف السابق على عمليات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في أوروبا وآسيا والذي عانى من نفس الأعراض بعد إقامته في موسكو عام 2017، لمجلة "GQ" عن تجربته بعد رفض وكالة الاستخبارات نقله إلى مستشفى "والتر ريد" العسكري لتلقي العلاج.
وقال بوليمر وبولوس لمجلة Foreign Policy الأمريكية إنَّ "الحكومة الأمريكية تعاملت مع هذه القضية على نحو سيئ للغاية. لقد قرّروا دفن رؤوسهم في الرمال".
من يقف وراء هذا؟
دارت الشكوك حول الكرملين، بالنظر إلى تاريخ روسيا في استخدام أسلحة الموجات الدقيقة ضد المسؤولين الأمريكيين ومصلحتها في إبقاء العلاقات الأمريكية مع الصين وكوبا في حالة من الفتور. لقد أثبتت موسكو استعدادها لملاحقة أعدائها في الغرب وأفادت تقارير أنَّها عرضت على مقاتلي حركة طالبان مكافآت مجزية لقتل جنود أمريكيين في أفغانستان. من جانبها، تنفي وزارة الخارجية الروسية أي صلة لها بحادث الدبلوماسيين الأمريكيين في كوبا.
ومع ذلك، ثمة مؤشرات تثبت تورط روسيا في هذا الأمر. وفقاً لمجلة GQ، كشف تحقيق أجرته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية باستخدام بيانات تعقب مواقع الهواتف النقَّالة عن وجود أفراد يُعتقد أنَّهم يعملون لحساب جهاز الأمن الروسي في نفس الوقت الذي بدأ فيه المسؤولون الأمريكيون في تلك الدول يعانون لأول مرة من الأعراض المرضية. لكن وفقاً لصحيفة New York Times، يرغب مسؤولون أمريكيون رفيعو المستوى في رؤية مزيد من الأدلة قبل توجيه أصابع الاتهام إلى موسكو.