بعد عام من احتجاجات حاشدة مناهضة للنخبة الحاكمة في لبنان، اختار الساسة اللبنانيون نفس رئيس الوزراء الذي كان قد استقال آنذاك، ليقود البلاد الآن للخروج من أزمتها.
وسعد الحريري، الذي تولى رئاسة الوزراء ثلاث مرات والوريث لأسرة ثرية، هو أبرز السياسيين السنَّة في لبنان منذ اغتيال والده في عام 2005. وتنحى العام الماضي بعدما خرج مئات الآلاف إلى الشوارع للتظاهر ضد طبقة سياسية يتهمونها باستنزاف الدولة على مدى عقود.
وقال الحريري حينها إن جهوده الرامية لإبرام اتفاق على إصلاحات تحتاجها بلاده بشدة وصلت إلى طريق مسدود، حيث عرقلتها الانقسامات الطائفية والمصالح، ولا يمكن أن يكسر الجمود إلا "الصدمة الكبيرة" الناجمة عن استقالته.
كيف عاد سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة؟
مع تراجع زخم الاحتجاجات تدريجياً في الشارع، أعيد بث الحياة في الطبقة السياسية الحاكمة التي كبّلت حكومة الاختصاصيين التي شكّلها حسان دياب بعد سقوط حكومة الحريري الأخيرة، وأدت إلى اعتذار مصطفى أديب عن عدم تشكيل حكومة رغم الضغوط الدولية.
وفي الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، أعلن الحريري أنه مرشح حكماً لرئاسة الحكومة ضمن ثوابت المبادرة الفرنسية التي تضمنت تشكيل حكومة "بمهمة محددة" تنكبّ على إجراء إصلاحات عاجلة لضمان الحصول على دعم المجتمع الدولي.
ويقدّم الحريري الذي يرأس الحزب السني الأكثر تمثيلاً، نفسه على أنه عرّاب "الفرصة الأخيرة" المتمثلة بالمبادرة الفرنسية. وقال بعد تكليفه إنه يعتزم تشكيل حكومة "اختصاصيين من غير الحزبيين".
يرى نفسه "المرشح الطبيعي" لقيادة لبنان
يقول الحريري إنه "المرشح الطبيعي" لقيادة لبنان. وتعهد أمس الخميس بتشكيل حكومة اختصاصيين "مهمتها تطبيق الإصلاحات الإدارية والاقتصادية والمالية" التي حددها إيمانويل ماكرون، رئيس القوة الاستعمارية السابقة فرنسا، ليحصل لبنان على مساعدات خارجية.
لكن يبدو أن الخلافات التي عرقلت التغيير خلال ولايته السابقة ستظل تلازم جهوده الساعية لتشكيل حكومته الرابعة. فقد رفضت الكتلتان المسيحيتان الرئيسيتان، التيار الوطني الحر بزعامة جبران باسيل صهر الرئيس ومنافسها حزب القوات اللبنانية، تأييد ترشيحه.
وقالت جماعة حزب الله المدججة بالسلاح إنها لم ترشح أحداً لمنصب رئيس الوزراء لكنها ستعمل بشكل "إيجابي" من أجل تشكيل حكومة. وفاز حزب الله المدعوم من إيران وحلفاؤه السياسيون، ومنهم حركة أمل الشيعية والتيار الوطني الحر، بأغلبية مقاعد البرلمان في انتخابات 2018.
ماذا عن الدعم الخليجي؟
بُنيت حياة الحريري المهنية على دعم دول خليجية وإنفاق ثروة عائلته، التي بذل الكثير منها في لبنان لتمويل شبكة سياسية، وأيضاً احترام الكثير من اللبنانيين لوالده رفيق الحريري. وكان أكثر ما ميز السنوات الأولى من مسيرته السياسية تحالفه الوثيق مع السعودية ومواجهات مع الحلفاء اللبنانيين لسوريا وإيران وعلى رأسهم حزب الله.
وأدانت محكمة مدعومة من الأمم المتحدة في أغسطس/آب غيابياً عضواً في حزب الله بالتآمر لاغتيال والده رفيق، وهو رئيس وزراء سابق كان مقرباً من الغرب وحلفاء خليجيين سنة وكان يعتبر تهديداً للنفوذ الإيراني والسوري في لبنان. وينفي حزب الله المشاركة بأي دور في الانفجار الذي أودى بحياته في 2005، وقال سعد الحريري إنه يسعى إلى العدالة وليس الانتقام لمقتل والده.
شكل الحريري أول حكومة ائتلافية له في 2009 بعد فوز الائتلاف المناهض لسوريا وحزب الله الذي كان يتزعمه حينها بأغلبية برلمانية بدعم سعودي. لكن هذا التحالف، تحالف 14 آذار، تفكك تدريجياً خلال السنوات التالية.
وتم إسقاط حكومته في أوائل 2011 عندما استقال حزب الله وحلفاؤه بسبب التوتر المرتبط بالمحكمة التي تنظر في اغتيال رفيق الحريري. وظل سعد معظم الوقت خلال السنوات القليلة التالية خارج لبنان لأسباب أمنية.
ومع تصاعد الحرب في سوريا المجاورة، هيمن على لبنان التوتر بسبب ذلك الصراع. في الوقت نفسه عانى الحريري من ضربة مالية ناجمة عن انهيار نشاط البناء الذي تديره عائلته في السعودية، مما ألحق الضرر بالأوضاع المالية لشبكته السياسية في لبنان.
تنازلات لحزب الله وتضرر للعلاقة مع السعودية
قدم الحريري سلسلة تنازلات سياسية في بلاده نتج عنها في نهاية المطاف دعمه لميشال عون، الحليف المسيحي لحزب الله، ليصبح رئيساً. وأدت الصفقة لتولي الحريري رئاسة الوزراء للمرة الثانية وذلك في 2016. وظل خصماً لحزب الله لكن معظم تركيزه كان على المشاكل الاقتصادية التي تواجه لبنان.
وتضررت علاقات الحريري بالسعودية، الغاضبة من اتساع دور حزب الله في لبنان. ووصلت العلاقات بينهما إلى الحضيض في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 عندما بات من المسلّم به على نطاق واسع أن المملكة أجبرته على الاستقالة واحتجزته لديها. وتنفي السعودية والحريري ذلك علانية، رغم أن ماكرون أكد أن الحريري كان محتجزاً هناك.
ويقول الناشط السياسي وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في بيروت ميشال دويهي لـ"أ ف ب": "يرتاح حزب الله لسعد الحريري، يحتاج الحزب إلى غطاء سني في المنطقة في ظل الصراع السني الشيعي". ويضيف: "الحريري مرشح الثنائي الشيعي ومرشّح الدولة العميقة. هو جزء من المنظومة، يعرف أخبارها ويتلقى ضرباتها. بات منها وفيها والتعاطي معه أسهل"، بحسب تعبيره.
ما الموقف الخارجي من عودة الحريري؟
يقول الباحث والأستاذ الجامعي في بيروت وباريس كريم بيطار، لوكالة الأنباء الفرنسية، إن عودة الحريري مردها أن "الثورة لم تتمكن من إنتاج قيادات وتشكيل جبهة موحدة، فيما تمكّنت القوى السياسية التقليدية من رصّ صفوفها بغض النظر عن التباينات والخلافات بينها حول تقاسم الجبنة".
يقول بيطار: "ربّما يتفهم المجتمع الدولي استياء الشباب اللبناني لعودة الحريري لكنه لا يشاركه الاستياء ذاته لأنهم يعرفون شخصية الحريري وهم معتادون على التعامل معه ويعرفون أن لديه شبكة علاقات".
وبالتالي لن يتردد أحد من المجتمع الدولي في العمل مع سعد الحريري، وإن كان لكل طرف أولوية بحسب بيطار. ففرنسا تريد تشكيل حكومة تتلاءم مع المعايير التي وضعها الرئيس إيمانويل ماكرون، أي حكومة خبراء تنكب على الإصلاحات والتفاوض مع صندوق النقد الدولي، بينما يتوقع الأمريكيون والسعوديون منه "تبني موقف أكثر تشدداً إزاء حزب الله".
وبينما لم تثر تسمية الحريري أي موقف لافت، ركّزت ردود فعل واشنطن والأمم المتحدة على ضرورة أن تنفذ أي حكومة الإصلاحات المطلوبة. ويختصر مصدر دبلوماسي أوروبي المشهد بالقول: "لبنان اخترع التاريخ الذي يعيد نفسه. نعود مجدداً إلى الحريري".
لكن مهمّة الحريري لن تكون بهذه السهولة
أمام الحريري اليوم طريق طويل وصعب في ظل إصراره على تشكيل حكومة لستة أشهر تضمّ اختصاصيين من غير الحزبيين، بينما الصراعات السياسية على النفوذ على حالها.
ويصطدم الحريري بعقبات عدة، أولها مطالبة الأحزاب السياسية الرئيسية بالمشاركة في الحكومة المقبلة، وهو ما أعرب عنه باسيل خلال الاستشارات، عبر تأكيده أن الحريري ليس اختصاصياً.. وبالتالي "أصبحنا أمام حكومة تكنوسياسية".
أما العقبة الثانية فهي تمسّك حزب الله مع بري بتسمية الوزراء الشيعة والاحتفاظ بحقيبة المال. وسبق للحريري أن أعلن رفضه تكريس هذه القاعدة التي حالت دون ولادة حكومة مصطفى أديب.
ويواجه الحريري المتظاهرين الذين يعتبرونه من أركان طبقة سياسية يطالبون برحيلها، رغم أن رد الفعل الأولي على تكليفه اقتصر على تحركات احتجاجية محدودة قابلها مناصرو الحريري بتحركات مؤيدة. وفي حال نجاحه في تأليف الحكومة، سيكون الحريري تحت مجهر المجتمع الدولي الذي "لن يكون مستعداً لتقديم أي ليرة للبنان" وفق دويهي، من دون تغيير حقيقي وإصلاحات.