يبدو أن التطبيع السوداني مع إسرائيل قد يتحول إلى أزمة للمجلس العسكري الحاكم بدلاً من أن يفتح الباب أمام تحسُّن وضع البلاد الاقتصادي والسياسي.
كما تظهر مؤشرات أيضاً إلى أن التطبيع قد يتحول إلى أداة في يد العسكريين لتعزيز سيطرتهم على السلطة والنكوص بالاتفاقات مع القوى الثورية التي أُبرمت بعد الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير.
وأحرق متظاهرون سودانيون علم إسرائيل خلال مشاركتهم في مسيرة "تصحيح مسار الثورة"، بالعاصمة الخرطوم، الأربعاء 21 أكتوبر/تشرين الأول 2020.
ونقلت وسائل إعلام محلية، بينها صحيفة "الانتباهة" الخاصة، أن متظاهرين شاركوا في مواكب 21 أكتوبر/تشرين الأول، أحرقوا العلم الإسرائيلي؛ رفضاً للتطبيع.
وأفادت بأن المتظاهرين رددوا شعارات تندد بدعاوى التطبيع، مطالبين الجهات المطالبة بالتطبيع بالتراجع عن الخطوة.
ونشرت الصحيفة صوراً لإحراق مجموعة من المتظاهرين بالخرطوم العلم الإسرائيلي.
كما تداول ناشطون صوراً وفيديوهات لإحراق العلم الإسرائيلي خلال مسيرات تصحيح المسار بالعاصمة.
ونشرت صحيفة "الهدف" التي يصدرها حزب البعث العربي الاشتراكي، على صفحتها بـ"فيسبوك"، صوراً وفيديوهات لإحراق العلم الإسرائيلي، وكتبت: "ثوار يحرقون علم الكيان الصهيوني بموكب 21 أكتوبر/تشرين الأول بالخرطوم".
وانطلقت الأربعاء، مسيرات في الخرطوم تطالب بإصلاح مسار الثورة، دعا إليها "تجمُّع المهنيين السودانيين"، و"الحزب الشيوعي"، أحد أبرز مكونات قوى إعلان الحرية والتغيير.
التطبيع أقرب مما تظنون.. وفد إسرائيلي بالخرطوم
يأتي ذلك في وقت ذكرت فيه وسائل إعلام إسرائيلية، أن وفداً إسرائيلياً زار العاصمة السودانية الخرطوم، الأربعاء، استعداداً للإعلان عن تطبيع العلاقات بين الدولتين.
وذكرت صحيفة"يسرائيل هيوك"، أنه كان على متن الطائرة وفد إسرائيلي رفيع من جهاز الموساد وديوان رئيس الحكومة. واجتمع الممثلون الإسرائيليون الكبار في الخرطوم مع نظرائهم بالحكومة المؤقتة. وفي نهاية المحادثات تم التوصل إلى موافقة نهائية على اعتراف متبادل بين إسرائيل والسودان.
وقال وزير الاستخبارات الإسرائيلي، إيلي كوهين، الخميس، إن بلاده باتت قريبة جداً من إعلان تطبيع علاقاتها مع السودان.
جاء ذلك في تصريح متلفز لفضائية "13" العبرية، بالتزامن مع إعلان الولايات المتحدة اعتزامها رفع اسم الخرطوم من قائمة ما تعتبرها واشنطن "دولاً راعية للإرهاب".
والإثنين، نقلت هيئة البث الرسمية عن مسؤولين إسرائيليين، لم تسمهم، أنه من المتوقع صدور بيان رسمي حول إقامة علاقات بين تل أبيب والخرطوم "خلال أيام قليلة".
يشار إلى أن رئيس الحكومة الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أوقف جلسة المجلس الوزاري المصغر لشؤون كورونا، الأربعاء؛ لأجل ما وصفه بـ"حاجة قومية مُلحَّة". وعلى ما يبدو كان هذا الأمر لاطلاعه على أمر بشأن مسألة السودان.
ترامب يشرف على العملية
وقال المسؤولون إنه من المنتظر أن يعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن هذه الخطوة، لافتين إلى أن البيان الذي سيعلنه ترامب سوف يصدر في غضون أيام.
وأعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، اعتزامه رفع اسم الخرطوم من قائمة ما تعتبرها واشنطن "دولاً راعية للإرهاب".
ترامب غرد، مساء الإثنين، قائلاً إنه سيتم رفع اسم السودان من هذه القائمة، بعد أن تدفع الخرطوم 335 مليون دولار لــ"ضحايا الإرهاب الأمريكيين وعائلاتهم".
وفي اليوم نفسه، قالت وزيرة المالية السودانية، هبة محمد، إن الخرطوم حوَّلت إلى واشنطن التعويضات المالية المستحقة لضحايا تفجيرات المدمرة "يو إس كول" (2000) والسفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا (1998).
وتتهم واشنطن نظام الرئيس السوداني المعزول، عمر البشير (1989-2019)، بالمسؤولية عن تلك التفجيرات.
وطرحت تغريدة ترامب تساؤلات كثيرة بين السودانيين حول المقابل الذي سيقدمه السودان إلى الولايات المتحدة للخروج من القائمة المدرج عليها منذ 1993، لاستضافته زعيم تنظيم القاعدة آنذاك، أسامة بن لادن.
ويعتبر تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بحسب محللين، هو الشرط الأمريكي الأول أمام السودان مقابل مغادرته القائمة، خاصة في ظل تحركات أمريكية بالمنطقة دفعت الإمارات والبحرين إلى توقيع اتفاقيتين، منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، لتطبيع علاقاتهما مع إسرائيل.
وبات ينظر إلى السودان باعتباره الأقرب إلى التطبيع مع إسرائيل، بحكم حاجة الخرطوم المٌلحّة للخروج من قائمة "الإرهاب" الأمريكية، واللقاء بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، الفريق عبدالفتاح البرهان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأوغندا، في فبراير/شباط الماضي.
وتوقّع وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي، أوفير أكونيس، الأربعاء، أن تعلن دول عربية إضافية تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، قبل الانتخابات الرئاسة الأمريكية، في 3 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بحسب مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي.
إحراج للقوى الثورية
ويمثل التطبيع إحراجاً كبيراً للقوى الثورية السودانية، خاصةً اليسار السوداني والقوميين الذي يعتبرون أنفسهم جزءاً أو مقربين من القوى المدنية الشريكة في الحكم مع المجلس العسكري.
ويُظهر إصرار العسكريين السودانيين على التقدم صوب التطبيع تجاهلاً واضحاً لشركائهم من القوى المدنية.
حيث سبق أن انتقد تجمُّع المهنيين السودانيين لقاء رئيس المجلس العسكري عبدالفتاح البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، معتبراً أن مثل هذه القرارات من سلطة الحكومة المنتخبة وليس من السلطة الانتقالية.
وعلَّق تجمُّع المهنيين السودانيين، على لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان مع نتنياهو قبل عدة أشهر، معتبراً إياه "تجاوزاً خطيراً" للسلطة الانتقالية والوثيقة الدستورية.
وأصدر التجمع بياناً، في 5 فبراير/شباط 2020، شجب فيه هذه الممارسات، وأي مخرجات تمخَّض عنها اللقاء، مؤكداً أن السياسات والعلاقات الخارجية للدولة السودانية من اختصاص السلطة التنفيذية ممثلةً بمجلس الوزراء.
واعتبر أن اللقاء يمثل خرقاً للوثيقة الدستورية، وأضاف البيان أن "اختطاف القرار تحت أي ذريعة واهية يمثل خرقاً للوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية ويهدد عملية الانتقال الديمقراطي وتماسكها".
وشدد على أن "موقف الشعب السوداني ودولته الثابت تاريخياً هو عدم التعامل أو التطبيع مع الكيان الإسرائيلي؛ دعماً للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في بناء دولته ذات السيادة الكاملة".
ولكنَّ هذه أول مرة يتحول فيها رفض التطبيع إلى تحرك على الأرض، في وقت بدا واضحاً محدودية سلطة رئيس الحكومة عبدالله حمدوك والقوى المدنية الشريكة للعسكر على القرار السوداني بالتوجه للتطبيع.
وفي 26 سبتمبر/أيلول الماضي، قال رئيس الحكومة السودانية الانتقالية عبدالله حمدوك، إن بلاده ترفض ربط حذف اسمها من قائمة الإرهاب، بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وأضاف أن الأمر بحاجة إلى نقاش عميق في المجتمع السوداني.
وفي تصريحات مماثلة تالية، أكد حمدوك أن حكومته "لا تملك تفويضاً" لاتخاذ قرار التطبيع مع إسرائيل، "وهذا الأمر يتم التقرير فيه بعد إكمال أجهزة الحكم الانتقالي".
وفي أعقاب الإطاحة بالبشير، بدأت في السودان، يوم 21 أغسطس/آب 2019، فترة انتقالية تستمر 39 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات أواخر 2022، ويتقاسم السلطة حالياً الجيش وائتلاف الحرية والتغيير، قائد الاحتجاجات الشعبية.
هل يكون التطبيع السوداني مع إسرائيل أداة العسكر لتثبيت سيطرتهم على السلطة؟
وقال السفير السوداني السابق إدريس سليمان، لـ"الأناضولا، إن "التطبيع غير نافع، والسودان لا يحتاجه، فهو يزيد من أزمات السودان.. وبعض الأطراف في الحكومة تحاول من خلاله تثبيت موقعها في السلطة".
وأضاف: "محاولة الاستقواء بالأجنبي، إسرائيل وأمريكا، ذِلَّةٌ وخضوع من الحكومة، ولن يرضى الشعب عن ذلك.. الحكومة ضعيفة ويستغلها نتنياهو وترامب لمصالحهما الانتخابية".
ورأى أن "التطبيع هو أحد الشروط الأمريكية لرفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، فواشنطن وجدت الحكومة ضعيفة وقابلة للابتزاز، لذلك فرضت عليها التطبيع".
وأردف أن "التطبيع شرط من شروط اجتماعات أبوظبي، وهي تشمل أيضاً استغلال موانئ البحر الأحمر وتعديل قوانين".
وأضاف سليمان أن "الرأي العام السوداني رافض للتطبيع وكذلك الحاضنة السياسية.. قوى (إعلان) الحرية والتغيير فيها أجسام ترفض التطبيع.. مجلسا الوزراء والسيادة يتنافسان ويناوران بهذا الملف الذي يناقض أخلاق وقيم السودانيين".
وحسب الاتفاق الذي ينظم المرحلة الانتقالية في السودان، يستمر اقتسام السلطة بين العسكريين والقوى الثورية لمدة 39 شهراً، تتولى شخصية عسكرية رئاسة مجلس السيادة لمدة 21 شهراً، ثم تترأسه شخصية مدنية لمدة الأشهر الـ18 الباقية.
وقد يكون هذا الخلاف والضغط الأمريكي والخليجي في اتجاه التطبيع السوداني مع إسرائيل، مؤشراً واضحاً على أن العسكريين قد ينالون التأييد الأمريكي وقد يحاولون استغلاله للبقاء في السلطة، وعدم تسليم رئاسة مجلس السيادة الحاكم إلى القوى السياسية في منتصف الفترة الانتقالية كما ينص اتفاق تسليم السلطة بين الجانبين.
فمع اكتساب العسكريين تأييد الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية والإمارات ومصر، يمكن تخيُّل أنهم قد يكونون قادرين على التلكؤ في تسليم السلطة، خاصةً أن مخالفة بنود الاتفاق عبر التطبيع قد تكون مقدمة لمخالفة البنود الخاصة بتسليم السلطة لشخصية مدنية لترؤّس مجلس السيادة الذي أظهر أنه الحاكم الفعلي للبلاد وليس الحكومة.
هل هناك بديل لحل أزمات السودان؟
رأى رئيس تحرير صحيفة "الجماهير" (خاصة)، عباس محمد إبراهيم، أن "النظر إلى التطبيع على أنه سيحل أزمات السودان نظر قاصر، فالأزمات الحالية يمكن تجاوزها بأكثر من طريق، لتوفير القمح والوقود وغيره".
ويعاني السودان أزمات متجددة في الخبز والطحين والوقود وغاز الطهي؛ بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه في السوق غير الرسمية إلى أرقام قياسية.
وأضاف إبراهيم لـ"الأناضول": "علينا النظر إلى خارطة تحالفات المنطقة، لإيجاد سياق لمناقشة قضية التطبيع مع إسرائيل، فالتطبيع محل نقاش داخل المكونات الفلسطينية نفسها".
وتابع: "الولايات المتحدة تعمل على إعادة تشكيل تحالفاتها في المنطقة، بما يُعرف بالمسار الجديد، وهو تحالف موجَّه لمحاصرة إيران ووقف النفوذ الصيني والروسي في إفريقيا".
واستطرد: "وموقع السودان الجيوسياسي يؤهله ليكون لاعباً مهماً في هذا التحالف، الذي يهدف حالياً إلى إعادة ترتيب محاور المنطقة، ما يعني أن السودان، وفي حال أدار الأمر بشكل جيد، سيجني مكاسب، أهمها استقرار الانتقال الحالي".
وقال إبراهيم: "في الحوار الأخير بين واشنطن والخرطوم، ورغم أن المُحاور الأمريكي وضع ورقة التطبيع على الطاولة، فإن الخلاصات تقول بوضوح، إن الخرطوم اليوم تختلف عن خرطوم الأمس القابلة للابتزاز".
وتابع: "بالرجوع إلى أجندة حكومة عبدالله حمدوك نجد أن إزالة اسم البلاد من قائمة الدول المساندة للإرهاب موضوعة في أعلى الأجندة، وهو ما تحقق اليوم. رغم الضغوط الخارجية بربط الملف مع التطبيع، فإن الدبلوماسية السودانية حققت ما تريد ولم تخضع لابتزاز ربط الملفين".
وأردف: "التطبيع من حيث المبدأ غير مرفوض، لكنه ليس قراراً، والخرطوم تنظر إلى القضية على أنها عملية يمكن التباحث حولها، وهو ما يجري خلف الكواليس (…) أما الحديث عن رفض شعبي، فهذا تعميم غير دقيق، يمكن أن نصف ما يجري بأنه تباين في الرأي العام".
واستطرد: "الطرفان يتحدثان عن الفوائد (من التطبيع)، فخرطوم 2020 تختلف كثيراً عن 1967 (خرطوم اللاءات الثلاثة: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع إسرائيل)".
وزاد أن "السواد الأعظم من السودانيين اليوم شباب عاشوا خذلان الأنظمة العربية لهم خلال سنوات كفاحهم للخروج من الديكتاتورية، وأصبحت لغتهم للعلاقات الخارجية تقوم على مبدأ المصالح".
الديون والبحر الأحمر
اعتبر أستاذ العلوم بالجامعات السودانية، الدكتور حاج حمد حمد، أن "الحكومة السودانية متفهمة لترتيب الأولويات، لذلك وضعت إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب أولاً، وبشكل منفصل عن الطرح الأمريكي لقضية التطبيع".
وتابع حمد أن "اللوبي الصهيوني في أمريكا حاول أن يُقحم موضوع إسرائيل في التفاوض بشأن رفع السودان من القائمة، لكنه لم ينجح".
ورأى أن "التطبيع مع إسرائيل ليس بالأمر السهل، إذ يجب أولاً أن نجاوب عن سؤال: ما مصلحة السودان في التطبيع؟ وما مصلحة إسرائيل؟".
وأردف مجيباً بأن "إسرائيل تبحث عن أمنها القومي في البحر الأحمر من أجل مصالحها، ولكن لا فائدة السودان".
واستطرد: "لا مصلحة للسودان في التطبيع مع إسرائيل إلا من خلال سيطرتها على بيوت وصناديق مالية يمكن أن تساهم في تخفيف ديون السودان (60 مليار دولار)".
واختتم حمد حديثه بالتشديد على أنه "لا مصلحة للسودان في التطبيع مع إسرائيل، وهي دولة مجرمة في نظر العالم جميعاً".
ورجَّح المسؤولون الإسرائيليون أن يتم الإعلان بعد "انتهاء المشاورات بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان بشأن الجدول الزمني المتوقع للقضية".