ربط الإدارة الأمريكية رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بتطبيع الخرطوم علاقاتها مع تل أبيب مسألة معلنة من جانب الأطراف الثلاثة، فهل تراجع دونالد ترامب عن شرطه الأصلي واستبدله بشرط دفع التعويضات؟
تغريدة ترامب الانتخابية
"أخبار عظيمة! حكومة السودان الجديدة، التي تحرز تقدماً عظيماً، وافقت على دفع 335 مليون دولار لأسر وضحايا الإرهاب. بمجرد تحويل المبلغ، سأرفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. أخيراً، تحققت العدالة للأمريكيين وخطوة كبيرة للسودان!".
هكذا غرَّد الرئيس الأمريكي مساء الإثنين 19 أكتوبر/تشرين الأول معلناً عن قرب رفع اسم السودان من تلك القائمة الأمريكية السوداء، وهو ما سعت إليه الإدارة الانتقالية في الخرطوم منذ توليها المسؤولية في أعقاب الإطاحة بعمر البشير، وهو ما طرح تساؤلات كثيرة بشأن قضية التطبيع السوداني مع إسرائيل والتي كانت شرطاً رئيسياً لإدارة ترامب حتى توافق على رفع السودان من القائمة السوداء.
وبحسب مسار الأحداث منذ طرح ترامب صفقة القرن، يتضح أن الغرض الرئيسي للرئيس الأمريكي هو تحقيق انتصار له في السياسة الخارجية يساعده في الفوز بفترة رئاسية ثانية، ومع تفشي وباء كورونا في الولايات المتحدة وانهيار الاقتصاد هناك وتراجع فرص ترامب في البقاء فترة أخرى في البيت الأبيض، أصبح التطبيع مع إسرائيل طوقَ نجاةٍ أساسياً في حملته الانتخابية.
وفي هذا السياق، جاء التطبيع الإماراتي والبحريني في 15 سبتمبر/أيلول الماضي وهو ما بدأ عبر تغريدة مفاجئة لترامب يوم 13 أغسطس/آب أعلن فيها عن التطبيع الإماراتي وبشَّر بانضمام المزيد من الدول العربية لقطار التطبيع، وكان السودان إحدى تلك الدول المستهدفة.
ومع صعوبات إقدام السودان على تلك الخطوة رسمياً، لأسباب سنتناولها لاحقاً، واقتراب موعد التصويت في 3 نوفمبر/تشرين الثاني –أي بعد أقل من أسبوعين فقط– أراد ترامب إنجازاً في السياسة الخارجية يستخدمه للتغطية على ملفي الوباء والاقتصاد، وهكذا وافق على رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب في السياق الذي أعلنه في تغريدته، وهو أن موافقة السودان على دفع مبلغ التعويضات يمثل انتصاراً لإدارته وتحقيقاً للعدالة التي انتظرها طويلاً ضحايا الإرهاب وعائلاتهم.
هل هذا يعني إنتهاء التطبيع رسمياً؟
قُبيل تغريدة ترامب، توقع مسؤولون إسرائيليون أن يعلن ترامب "خلال أيام" عن تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسودان، بحسب هيئة البث الإسرائيلية الرسمية، دون الكشف عن هوية هؤلاء المسؤولين، وبالتالي يرى بعض المحللين أن الإعلان عن التطبيع في الأيام القليلة المقبلة لا يزال مرجحاً ولم ينتهِ كما يتصور البعض.
وبحسب أصحاب هذا الرأي، فإن إعلان قوى إعلان الحرية والتغيير (الشق المدني في الائتلاف الحاكم) في السودان في نفس اليوم أن مسألة التطبيع مع إسرائيل "منفصلة" عن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، يعتبر تمهيداً للإعلان عن التطبيع مع إسرائيل بعد أن يتم رفع السودان بالفعل من لائحة الإرهاب.
القيادي في "الحرية والتغيير" إبراهيم الشيخ قال في مؤتمر صحفي بمقر وكالة السودان للأنباء "سونا"، في العاصمة الخرطوم، إنه "في فترة ماضية، تم ربط رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، مع قضية التطبيع مع إسرائيل"، مضيفاً: "لكن بعد حوار طويل مع الإدارة الأمريكية، تم فك الارتباط بين التطبيع مع إسرائيل ورفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لأن التطبيع شأن مختلف وليس له علاقة بوجود السودان في القائمة".
واللافت هنا أن "التطبيع شأن مختلف" وليس مرفوضاً ولا يمكن أن تقدم عليه سلطة انتقالية كما عكست تصريحات قوى الحرية والتغيير قبل أقل من شهر، تزامناً مع زيارة رئيس المجلس الانتقالي عبدالفتاح البرهان للإمارات قبل أقل من شهر.
وفي هذا السياق أيضاً يمكن رصد تصريحات نائب رئيس المجلس الانتقالي محمد حمدان دقلو التي دافع فيها بوضوح ودون مواربة عن "قرار التطبيع مع إسرائيل" مبرراً إياه بأن مصلحة السودان هي الأهم وأن التطبيع يصب في مصلحة السودانيين، ولا يجب أن يكون هناك أي اعتبار آخر وراء القرار، وهو ما يعتبر أبرز تمهيد وتبرير لقرار التطبيع الذي يمكن القول بأنه تم اتخاذه بالفعل منذ لقاء البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سراً مطلع العام وما تلاه من فتح الأجواء السودانية أمام الطيران الإسرائيلي.
لماذا تأخر التطبيع رسمياً إذن؟
لابد هنا من أخذ عدة حقائق في الاعتبار؛ أولى تلك الحقائق هي أن الشعب السوداني خارج لتوه من ثورة شعبية قدم فيها تضحيات كثيرة أطاحت بحكم عمر البشير الذي دام ثلاثة عقود، ونجحت القوى المدنية التي قادت تلك الثورة في أن تكون شريكاً في الحكم جنباً إلى جنب مع المجلس العسكري، وبالتالي لا يمكن الاستهانة برأي الشارع في قضية بهذه الحساسية، خصوصاً أن الخرطوم تعرف بعاصمة اللاءات الثلاثة "لا سلام مع إسرائيل ولا تفاوض مع إسرائيل ولا اعتراف بإسرائيل قبل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة"، وهو الشعار الذي نتج عن القمة العربية الطارئة التي استضافها السودان في أعقاب هزيمة العرب أمام إسرائيل في حرب يونيو/حزيران 1967.
وهذه الحقيقة هي التي فرضت نفسها طوال الأشهر والأسابيع الماضية وجعلت أصحاب القرار في السلطة الانتقالية غير قادرين على اتخاذ قرار على الأرجح سيؤدي إلى انتفاضة شعبية لا أحد يعرف إلى أين يمكن أن تؤدي، وهذا هو السبب الوحيد – بحسب كثير من المراقبين – الذي دفع ترامب لأن يقدم على خطوة رفع السودان من قائمة الإرهاب دون ربطها بالتطبيع.
أما عما قاله ترامب من موافقة السودان على دفع التعويضات فهو ما يمكن وصفه بواحد من تصريحات الرئيس التي لا تراعي الدقة أو الحقيقة، فقد أعلن السودان على لسان رئيس الوزراء عبدالله حمدوك عن موافقة الخرطوم على دفع مبلغ التعويضات منذ العام الماضي، وذلك في سياق جولة خارجية كان هدفها بالأساس رفع السودان من تلك القائمة حتى يتمكن من الحصول على مساعدات وقروض يحتاجها بشدة.
كيف يمكن تمرير التطبيع إذن؟
قراءة ما يحدث في السودان حالياً ومتابعة تصريحات المسؤولين تشير بوضوح إلى أن ورقة الاقتصاد هي حصان طروادة الذي يتم من خلاله التمهيد للتطبيع الرسمي مع إسرائيل، وهذا بالضبط ما عكسته تصريحات محمد حمدان دقلو "حميدتي" مطلع الشهر الجاري.
نائب رئيس مجلس السيادة في السودان قال نصاً: "نريد أن نقيم علاقات لا تطبيع مع إسرائيل. إزالة السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسير في إقامة علاقات مع إسرائيل. لقد لبَّينا كل شروط واشنطن بالفعل ولم يوافقوا على رفع اسم السودان من القائمة"، وأضاف حميدتي متحدياً أن "السودان يحتاج إلى إسرائيل وسيستمر في المفاوضات حول هذا الأمر"، وهاجم رافضي التطبيع قائلاً: "مَن فوَّضهم بالرفض؟".
القصة واضحة إذن وما حدث هو أن ترامب يحتاج لذلك الإعلان الآن ولا يملك الوقت انتظاراً لنجاح خطة التمهيد للتطبيع بين السودانيين ومن ثم أقدم على تلك الخطوة "رفع السودان من القائمة السوداء مقابل دفع التعويضات"، بينما تستمر قضية التطبيع في مسارها المعلن، وربما يتم الإعلان عنها رسمياً بالفعل "خلال أيام".
وما يؤيد هذا السيناريو هو أن السلطات الانتقالية التي تحكم السودان الآن يمكنها – ما أن يتم رفع السودان بالفعل من قائمة الإرهاب – أن تعلن عن البدء رسمياً في مفاوضات إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، على أساس أن ذلك قرار سيادي تم اتخاذه لمصلحة السودانيين دون "ضغوط خارجية"، وهو ما يرجحه كثير من المحللين الآن.
فالطوابير أمام محطات الوقود وأفران الخبز وغيرها من الحاجات الأساسية للسودانيين أصبحت الآن مشهداً معتاداً في ظل أزمة اقتصادية خانقة ودين خارجي بلغ 60 مليار دولار كما أعلن حمدوك الإثنين في معرض حديثه عن تحويل مبلغ 335 مليون دولار لأحد حسابات الحكومة الأمريكية تمهيداً لرفع السودان رسمياً من قائمة الإرهاب، كلها مؤشرات على أن التطبيع مع إسرائيل أصبح بالفعل حقيقة تنتظر الوقت المناسب للإعلان عنها.