عملية ذبح مدرس فرنسي على يد شاب شيشاني بسبب عرضه رسوماً كاريكاتيرية مسيئة للرسول شكلت نفساً جديداً لكل المبادرات الهادفة إلى التضييق على الجاليات المسلمة بفرنسا.
استغلت السلطات العمومية الفرنسية ووسائل الإعلام منذ يوم الجمعة 16 أكتوبر/تشرين الأول صدمة الرأي العام الفرنسي على إثر هذه الواقعة لتشديد الخناق على الجمعيات الخيرية والحقوقية للجالية المسلمة بفرنسا، إضافة إلى تسريع وتيرة إغلاق المساجد والمدارس الخاصة والمحلات التجارية التي تبيع المنتجات الحلال.
انتقاماً من المسلمين أم لتهدئة الرأي العام؟
الحادثة تعود ليوم الجمعة الماضي، حيث ذُبح أستاذ التاريخ والجغرافيا صامويل باتي صاحب الـ47 عاماً على يد شاب شيشاني بعد عرضه رسوماً كاريكاتيرية للنبي محمد على تلاميذه بالصف.
وقد قُطع رأس باتي خارج المدرسة التي يدرس بها بباريس بينما قتلت الشرطة الفرنسية الشاب الشيشاني وأردته قتيلاً بتسع رصاصات.
وقبل الحادثة، بادر أحد أولياء التلاميذ إلى رفع شكوى جنائية ضد الأستاذ ونشر دعوى التمديد بمبادرة صامويل باتي.
هذه الإجراءات وغيرها تفتح الباب أمام استغلال حكومة ماكرون لهذا الحادث من أجل "تصفية حسابات" مع منظمات إسلامية بعيدة عن التطرف.
ويبدو أن تزايد قرارات التضييق على كل ما يمت بصلة للجالية المسلمة إثر هذه الحادثة يتزامن مع إعلان الرئيس ماكرون مؤخراً لمشروع قانون محاربة النزعات الانفصالية أو ما يُعرف بالنزعة الإسلامية المتطرفة الذي من المزمع عرضه على مجلس الوزراء في بداية شهر ديسمبر/ كانون الأول في النصف الأول من 2021.
تأتي كل هذه التحركات في إطار ما تعتبره الطبقة السياسية الفرنسية حماية للجمهورية من إقامة نظام موازٍ يتنكر لمبادئها وثوابتها العلمانية.
مشروع حل جمعية "بركة سيتي ـ BarakaCity"
أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد درمانان الإثنين 19 أكتوبر/تشرين الأول 2020، عبر حسابه على تويتر، عن تقديم اقتراح يهدف إلى حل جمعية "بركة سيتي" باعتبارها، بحسب قوله، امتداداً للإسلام الراديكالي، وكأول قرار بعد حادثة مقتل الأستاذ باتي. وتجدر الإشارة إلى أنه قبل هذه الحادثة، تعرض إدريس سي حمدي رئيس هذه الجمعية، الأسبوع الماضي، لعملية مداهمة لمقر الجمعية، مصحوبة بتعنيفه وتكبيله أمام أطفاله، وإلحاق الضرر بمقر الجمعية.
وبعد التحقيق، وحجز دام 36 ساعة، تم إطلاق سراحه بشروط. وليست هذه أول مرة يتعرض فيها سي حمدي للمتابعة. فقد سبق اتهامه سنة 2015 بالإرهاب لكن دون التوصل إلى أي دليل يدينه هو أو جمعيته.
وللتذكير، فجمعية "بركة سيتي" هي جمعية خيرية تأسست سنة 2008 وترمي إلى تقديم المساعدات الإنسانية بفرنسا والعالم بناءً على المبادئ والقيم الإسلامية للتكافل والتضامن. ومنذ 2010، تمكنت الجمعية من إنجاز عمليات إغاثية بالعديد من الدول كفلسطين، والنيجر، وسوريا، وتوغو، وإفريقيا الوسطى.
وتمكنت الجمعية من جمع تبرعات بقيمة 16 مليون يورو لتمويل مختلف عملياتها الإنسانية عبر ربوع العالم.
مشروع حل جمعية "التجمع ضد الإسلاموفوبيا بفرنسا ـ CCIF"
أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد درمانان كذلك ضمن رزنامة القرارات الحاسمة عقب عملية القتل الأخيرة تقديمَ مقترح يهدف إلى حل جمعية "التجمع ضد الإسلاموفوبيا بفرنسا" لكونها تشكل بؤرة لنشطاء الإسلام المتشددين المعادين لقيم الجمهورية.
تأسس التجمع ضد الإسلاموفوبيا بفرنسا سنة 2003. وهي جمعية حقوقية تقدم الدعم القانوني للأشخاص ضحايا الإسلاموفوبيا.
سنة 2019 نجحت الجمعية في تنظيم مسيرة ضد الإسلاموفوبيا مما أثار حفيظة الطبقة السياسية الفرنسية خاصة اليمين المتطرف الذي يتهم أعضاء الجمعية بالدفاع عن الإسلام السياسي وعلاقته المشبوهة بتنظيم الإخوان المسلمين.
وحسب تعريف الجمعية، فالمقصود بالإسلاموفوبيا كل تصرفات النبذ والتمييز والعنف التي تُمارَس ضد الأشخاص والمؤسسات بسبب انتمائهم المعلن أو المفترض للدين الإسلامي.
وكانت الجمعية نشيطة كذلك في قانون الكومري ـ Elkhomri ـ الصادر سنة 2017 الذي ينص على فرض الحياد الإيديولوجي والديني على الموظفين بالشركات الخاصة والعامة.
إغلاق مساجد ومدارس خاصة ومحلات تجارية
تسعى فرنسا جاهدة، منذ سنوات، للتصدي لكل المبادرات الخاصة والجمعوية الهادفة إلى الحفاظ على هوية الجالية المسلمة على المستوى العقائدي والثقافي والرياضي.
والهدف من هذا التضييق على الجمعيات والمساجد والمدارس الخاصة، هو حسب زعم وزير الداخلية، حماية الجمهورية من الخطر الإسلامي. فيوم الإثنين، إضافة إلى اقتراح حل جمعية "بركة سيتي" و"التجمع من أجل محاربة الإسلاموفوبيا بفرنسا"، أعد جيرالد درمانان قائمة تضم 51 جمعية ومؤسسة إسلامية سيتم اقتراح حلها على مجلس الوزراء بعد القيام بتحريات حول تحركاتها المرتبطة بالإسلام الراديكالي.
ومن جهة أخرى، تم فتح 80 تحقيقاً لمتابعة كل من نشر على الشبكات الاجتماعية رسائل تضامن أو ابتهاج بعملية ذبح المعلم الفرنسي. وبالتوازي مع ذلك، تم اعتقال الإمام عبدالحكيم الصفريوي بسبب إصدار فتوى ضد المعلم القتيل بعد عرضه لرسوم شارلي إيبدو المسيئة للرسول.
ستحمل الأيام المقبلة لا محالة مبادرات أخرى للتضييق على كل ما يمثل الجالية المسلمة التي أصبحت متهمة بشكل يومي بأنها حاضنة للإرهاب ومهددة لأسس الجمهورية العلمانية.
خارطة طريق مشروع قانون محاربة النزعة الإسلامية
إن مختلف القرارات التي اتخذها وزير الداخلية الفرنسي على إثر مقتل أستاذ التاريخ والجغرافيا بباريس تعتبر امتداداً لمبادرة مشروع قانون ماكرون حول النزعة الإسلامية الذي يتضمن ست تدابير مركزية:
ـ إجبارية التمدرس بالمدرسة ابتداء من سن الثالثة.
ـ تقوية سلطات المحافظ أمام العمدة.
ـ التضييق على تعليم اللغات الأجنبية ومن ضمنها اللغة العربية.
ـ توسيع حظر ارتداء الحجاب إلى القطاع الخاص.
ـ تشديد المراقبة على تمويل المساجد والجمعيات الإسلامية.
ـ إقرار المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ـ CFCM ـ كمخاطِب رسمي أوحد للسلطات العمومية.
ـ توسيع حظر ارتداء الحجاب إلى القطاع الخاص.
ولعل كل هذه المؤشرات، سواء المرتبطة بمشروع قانون ماكرون أو قرارات وزير الداخلية، تؤكد أن سنة 2020 ـ 2021 ستشهد مزيداً من التضييق على منظومة الجمعيات الخيرية وأماكن العبادة، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات المحلية والرئاسية وتنافس كل أطياف الطبقة السياسية على وتر الخطر الإسلامي على الحريات وسلامة المجتمع الجمهوري العلماني.
نتائج عكسية للحرب على الإسلام والجالية المسلمة
إن معركة فرنسا على أعداء الجمهورية ليست وليدة حادثة ضرب عنق أستاذ التاريخ والجغرافيا بباريس. ما فتئت الحكومات الفرنسية المتعاقبة، منذ ثلاثين سنة تتحجج بحماية مبادئ العلمانية، استهداف المسلمين ووصمهم بالعار بسبب دينهم الذي يروج، على حد زعمهم، للأصولية والإرهاب. حتى إن مجرد اقتناء كتاب "رياض الصالحين" للإمام النووي، يعتبر في العديد من القضايا من أسباب إخضاع الشخص للإقامة الجبرية أو البحث الإداري بل حتى إغلاق بعض المساجد.
وكانت سنة 2015، بلا شك، نقطة مفصلية في حرب فرنسا على الإسلام، وذلك عقب الهجوم على مجلة شارلي إيبدو، وهجمات باريس، في ظل حالة الطوارئ التي أعلنتها الحكومة آنذاك، والتي دامت حتى نهاية 2017.
إن المقاربة الفرنسية، بالمقارنة مع نظيراتها الأوروبية، أفرزت نموذجاً علمانياً متطرفاً لا يفصل بين الدولة والدين فحسب، بل بين الدين والدولة، والدليل على ذلك تواتر القرارات والأحكام الرامية إلى كيل المزيد من العداء للمسلمين ومحاربة ثقافتهم وخصوصيتهم الدينية. إن هذه السياسة التمييزية أفرزت رداً عكسياً، حيث تزايدت وتيرة العمليات المنسوبة إلى "المتطرفين" الذين نشأوا بضواحي المدن الفقيرة والهامشية. فقد ساهم الخطاب الرسمي نفسه حول محاربة التطرف الإسلامي في صناعة التطرف، ذلك أن التضييق على المسلمين لم يفرز جمعيات وقيادات تحظى برضا المسلمين وليست مفروضة كما هو الحال الآن من طرف المؤسسات الحكومية. والحال أن الدول الأوروبية الأخرى استطاعت في تعاملها مع هذه الجالية، استيعاب التنوع الديني بشكل سمح بعزل التيارات والرموز المتطرفة دون السقوط في فخ شيطنة مواطنيها المسلمين. أما فرنسا، فعلى العكس، فهي إذ تنهج نموذجاً استئصالياً تجاه جاليتها المسلمة، أصبحت على سبيل المثال، لا الحصر، أكبر مزود لداعش إذ تشير التقديرات إلى أن 1700 مواطن فرنسي انضم إلى التنظيم الإرهابي من مجموع 5000 مواطن من دول غرب أوروبا انضموا للتنظيم بسوريا والعراق.
إن إحكام الخناق على الجالية المسلمة شكل كذلك فرصة انتهزتها كل الأطياف السياسية. فبسبب اقتراب الاستحقاقات الانتخابية المحلية والرئاسية لسنة 2021-2022، يسعى كل الفرقاء السياسيين إلى استمالة الناخب عبر تخويفه بـ"التطرف الإسلامي" خاصةً اليمين المتطرف الذي ما انفك حضوره يتقوى على مر الاستحقاقات الانتخابية منذ تسعينيات القرن الماضي.
على المدى القريب، ليس من المنتظر تغيير الاتجاه العام للسياسة الفرنسية تجاه الجالية المسلمة. كل المؤشرات تؤكد تقوي الاتجاه الاستئصالي في محاربة الإسلام رغم كل محاولات المسلمين إثبات براءتهم من العمليات الإرهابية الفردية التي يقترفها مواطنون فرنسيون مسلمون، والتي يستغلها الإعلام والسياسيون لشيطنة الإسلام والمسلمين.