جاء فوز جاسيندا أرديرن رئيسة وزراء نيوزيلندا بالانتخابات البرلمانية بمثابة ضربة كبيرة لنهج شائع للعديد من القادة الغربيين لتحقيق شعبية عبر إثارة قضايا العداء للإسلام، في مقدمتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
إذ تظهر النتائج أن حزب العمال يسار الوسط بزعامة أرديرن فاز بنسبة تقارب 50% من الأصوات، مما يعني أنه من المرجح أن يسجل حزبها أعلى نتيجة حققها أي حزب منذ إدخال النظام السياسي الحالي للبلاد في عام 1996.
وتعني هذه النتيجة أن حزبها من المتوقع أن يفوز بـ 64 مقعداً من أصل 120 مقعداً برلمانياً، مما يجعله أول حزب قادر على الحكم بمفرده في ظل النظام الحالي. إذ إن الائتلافات هي القاعدة في نيوزيلندا، حيث لم يفز أي حزب بأغلبية الأصوات في السنوات الأربع والعشرين الماضية.
وفاز حزب العمال المعارض الرئيسي، الحزب الوطني يمين الوسط، بحوالي 27% من الأصوات، مما منحه 35 مقعداً – بانخفاض عن الانتخابات الأخيرة بنسبة 44% وهي أسوأ نتيجة للحزب منذ عام 2002.
الدرس الذي تقدمه لترامب وماكرون
وبينما يتخبط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (الذي استهل دخوله عالم السياسة بالتعهد بمنع دخول المسلمين) في أسوأ حملة انتخابية عرفتها أمريكا، ويعاني الرئيس الفرنسي ماكرون من أزمات داخلية وتوتر كبير داخل بلاده أججه بسياسته التي تحاول منع المسلمين من الحفاظ على هويتهم وتقوم على العداء لأحكام الإسلام مثل الحجاب، فإن جاسيندا التي ردت على جريمة مسجدي مدينة كرايستشيرش عام 2019، بمواساة المسلمين بارتداء الحجاب، تحتفل اليوم بفوز تاريخي.
ولم تخجل جاسيندا من إبداء تعاطف واضح مع المسلمين، عبر طرق شتى منها ارتداء الحجاب الذي لا يتوقف ساسة فرنسا التي تضم ملايين المسلمين من الهجوم عليه، غير عابئين باحترام حقوق الإنسان أو أن ما يفعلونه يوتر العلاقة بين مسلمي فرنسا وبلدهم.
هل فازت نتيجة موقفها من المذبحة وارتدائها الحجاب؟
بالتأكيد لم يكن موقف رئيس الوزراء النيوزيلندية من مذبحة المسجدين هو السبب الأول للفوز رغم أنه كان أحد الأسباب.
كانت أبرز أسباب إعادة انتخاب جاسيندا نهجها في التعامل مع فيروس كورونا الذي سمي "اذهب بجد وانطلق مبكراً" الذي ساعد نيوزيلندا على تجنب تفشي المرض المدمر الذي شوهد في أماكن أخرى.
الفضل في تعامل جاسيندا أرديرن الماهر مع تفشي Covid-19 يعود إلى إيمانها الراسخ بالعلوم والخبراء، الأمر الذي أكسبها ثقة النيوزيلنديين، الذين أدلوا بأصواتهم لها بأرقام قياسية.
كانت البلاد من أوائل الدول التي أغلقت حدودها، وأعلنت رئيس وزراء نيوزيلندا إغلاقاً على مستوى البلاد في مارس/آذار 2020 عندما كان لديها 102 حالة فقط.
وأبلغت نيوزيلندا عن أقل من 2000 حالة إصابة و25 حالة وفاة منذ بدء الوباء.
في بداية العام، أشارت استطلاعات الرأي إلى احتمال خوض حزب العمل مع الحزب الوطني المعارض انتخابات شرسة.
آنذاك تمتعت أرديرن بشعبية دولية هائلة، لكن بدا في الوطن أن البعض شعر بخيبة أمل بسبب افتقارها إلى التقدم في تحقيق الوعود الرئيسية، بما في ذلك معالجة أزمة سوق الإسكان.
كافحت الوباء بذكاء
لكن كل هذا تغير خلال الوباء. ارتفع الدعم لأرديرن، حتى مع تسجيل نيوزيلندا لأكبر انخفاض اقتصادي ربع سنوي على الإطلاق، ودفع تفشي المرض الثاني في أوكلاند، أكبر مدن البلاد، رئيس الوزراء لتأجيل الانتخابات لمدة شهر.
ولكن قبل ذلك نالت أرديرن الثناء على تعاملها التعاطف مع الأزمات الكبرى. بعد الهجوم الإرهابي الذي وقع عام 2019 على مسجدين في كرايستشيرش وأسفر عن مقتل 51 شخصاً، أدخلت تعديلات سريعة على قانون الأسلحة وارتدت الحجاب عندما التقت بالمجتمع المسلم المحلي.
بعد ثورة بركان في جزيرة وايت آيلاند، وهي جزيرة بركانية نشطة يتردد عليها السياح، في ديسمبر /كانون الأول الماضي، مما أسفر عن مقتل 21 شخصاً، عادت أرديرن مرة أخرى بسرعة إلى الأرض، وعانقت أول الضحايا.
لكن بينما وعدت بقيادة حكومة "تحول"، يجادل منتقدوها بأنها لم تفعل ما يكفي لمعالجة عدم المساواة وفقر الأطفال وتغير المناخ وسوق الإسكان.
يبدو أن أرديرن مستعدة لمواجهة فترة صعبة أخرى في المستقبل، حيث تحاول معالجة هذه القضايا مع توجيه البلاد خلال التداعيات الاقتصادية لوباء فيروس كورونا. لكن المحللين السياسيين لا يتوقعون سياسات رائدة مبهرجة – وبدلاً من ذلك، يتوقعون أن تستمر أرديرن في إجراء تغييرات تدريجية.
وقالت أرديرن في المناظرة الأخيرة للانتخابات في البلاد يوم الخميس: "التغيير الحقيقي يتطلب خطوات تجلب الناس معنا". "أنا أقف إلى جانب سجلي.. لم أنتهِ بعد".
يمكن أن تنجح دون العداء للإسلام
لا يمكن المبالغة في تأثير نهج أرديرن في التعامل مع مذبحة المسجدين في فوزها، فبالتأكيد أن الناخبين النيوزلنديين لم ينتخبوها لأنها ارتدت الحجاب، ولكن يثبت نهجها أنه يمكن للسياسي الغربي أن يفوز بالانتخابات مع احترامه الإسلام، وأنه ليس بحاجة بالضرورة أن يفتعل معارك مع المسلمين أو المسلمين المتدينين مثلما يفعل الرئيس اليميني دونالد ترامب أو الليبرالي إيمانويل ماكرون.
يشير نهج رئيس وزراء نيوزيلندا إلى أن تكلفة التوتر الناجم عن افتعال معارك مع الإسلام أكبر من المكاسب الانتخابية الرخيصة التي تعود من الإسلاموفوبيا.
الميزة بالنسبة لأرديرن، أنه كان هنا شيء مريح ومطمئن في الطريقة التي قامت بها رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن، بمواساة الجالية المسلمة في بلدها بعد هجوم مسجدي كرايستشيرش، لأنه كان رد فعل بشري طبيعي؛ ليس آلياً أو مبتذلاً، غير مكتوب أو غير صادق. عانقت الرجال المسلمين، مثلها مثل النساء، براحة لا تخلو من أي خجل، حسب حصحيفة The Guardian البريطانية.
عرت القادة الغربيين
تعلق صحيفة The Guardian على ردة فعل أرديرن "لم تأت قوة ردها من احتضانها الجسدي الدافئ للناجيات وعائلات الضحايا فحسب، بل جاءت أيضاً من الإيماءات الرمزية مثل ارتداء الحجاب ورفض استخدام اسم المشتبه به الرئيسي. تم دعم ذلك بالرسائل الصحيحة واتبعه بسرعة بإجراءات عملية، مثل تشريعات الأسلحة الجديدة.
إنه لأعجوبة أن نرى مثل هذه الاستجابة في الغرب، حسب الصحيفة البريطانية.
ولكن الصحيفة ترى أن البعد المؤلم في اتزان أرديرن الوجداني أنه أمر غير مألوف ونادر جداً في الغرب.
تضيف الصحيفة "في الوقت الذي تكون فيه الحكومات في أوروبا والولايات المتحدة إما معادية بوقاحة للمسلمين وكارهة للأجانب، أو في أحسن الأحوال صامتة بشأن مسألة الهجرة والإسلام، فإن ما ينبغي أن يكون هو القاعدة أصبح أمراً استثنائياً. لافتة إلى أن المسلمين يشعرون بالامتنان لتواصل أرديرن، وأن العالم امتدحها لردها الذي ينبغي أن يأتي من قبل أي رئيس دولة غربي".
تجدر الإشارة إلى أنه تم جمع آلاف التوقيعات لترشيح أرديرن لجائزة نوبل للسلام.
واعتبرت الصحيفة البريطانية أن تعاطفها يؤدي إلى التخفيف من أوجه القصور لدى الآخرين، حيث كان أداؤها مثيراً للإعجاب.
في ملاحظة موجهة إلى ترامب عندما واساها على الحادث وعرض المساعدة، طلبت فقط "التعاطف والحب لجميع المجتمعات المسلمة".
وفي نفس الوقت الذي تبرأت فيه من المهاجم المشتبه به، حاولت أيضاً عكس الرواية القائلة بأن المهاجرين، أو الغرباء، هم من يثيرون السكان الأصليين للاضطراب. بدت وكأنها تغطي جميع القضايا التي حذر منها العديد من المسلمين في السر والعلن، والرضا عن خطاب الكراهية على الإنترنت، والتعب عندما يتعلق الأمر بمواجهة الإسلاموفوبيا مباشرة، والجمع بين تقريع المسلمين والعنصرية ومعاداة الهجرة.
تلفت الصحيفة البريطانية إلى أن هذا نهج مرحب به ومؤشر محزن أنه فقط عندما يدافع الآخرون عن المسلمين، يتم سماع مخاوفهم أو تبنيها فبعد صورة أرديرن وهي ترتدي الحجاب، تم التركيز على إنسانية المسلمين.
ومن الواضح أن الغرب ينطبق عليه المثل القائل الناس على دين ملوكهم.
ففي مقابل الاحترام العام للإسلام في نيوزيلندا والذي لعبت أرديرن فيه دوراً مهماً فإن الهجمات المتزايدة على المساجد البريطانية في العقد الماضي، قوبل عدد قليل منهم بنفس التعبئة التي كانت متوقعة إذا كان المهاجمون مسلمين.
حتى في الأسبوع الذي أعقب هجمات كرايستشيرش، زادت جرائم الكراهية ضد المسلمين بنحو 600٪ في المملكة المتحدة. تضمنت الهجمات على مساجد وحادث طعن مزعوم، ومع ذلك لم يكن هناك موقف مطمئن من وزارة الداخلية فقط بعد ضغوط من قادة الجالية المسلمة البريطانية في حفل تذكاري لضحايا كرايستشيرش، تم التمويل الأمني للمساجد في المملكة المتحدة لجعلها تتماشى مع أماكن العبادة اليهودية.
ما يميز أرديرن عن غيرها أنها سياسية أخلاقية في بلد صغير يسمح بقيادة خالية من الرتوش. كان شعارها الانتخابي الجاد هو "دعونا نفعل هذا".
لكنها ما زالت تترأس دولة تتصاعد فيها المشاعر المعادية للمسلمين، ووفقاً للجنة حقوق الإنسان النيوزيلندية، فإن حالات العنصرية المبلغ عنها آخذة في الازدياد أيضاً، مع ثلث جميع الشكاوى المقدمة إلى اللجنة بشأن التمييز العنصري.
حتى ميركل رضخت للموجة
من الواضح أن أرديرن، التي تقود حزب العمل، قد اتخذت قراراً بالوقوف ضد ذلك. وهناك جهد مماثل في كندا وأيرلندا، بينما أغلب القادة الغربيين حتى الذين يدعون الاعتدال قرروا الاستفادة من الموجة مثل ماكرون أو الرضوخ لها مثل ميركل إضافة إلى أن هناك من خلقها مثل ترامب.
فعلى سبيل رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي تجاهلت المسلمين في حادثة حريق جرينفيل وذهبت لإظهار التضامن مع خدمات الطوارئ.
ظهرت Ardern نفسها، في ردها الشامل على مأساة المسجدين، على أنها توبيخ لفشل القادة الغربيين الآخرين، حسب صحيفة The Guardian البريطانية.
واليوم بعدما نالت الامتياز الأخلاقي تأخذ جائزتها المباشرة نصر انتخابي غير مسبوق.
عندما ارتدت الحجاب، رأى البعض أنه كان لفتة رمزية غير مناسبة، لأنه يبدو أنها تفترض أنه التعريف الوحيد للهوية الإسلامية، لكنها قدمت حجة مقنعة لذلك في مقابلة. وأوضحت أنه كان من المفترض أن يظهر التضامن مع أولئك الأكثر وضوحاً وبالتالي الأكثر عرضة للهجوم.
وقالت: "إذا كان ارتدائي للحجاب كما فعلته يمنحهن شعوراً بالأمان لمواصلة ممارسة شعائرهن الدينية، فأنا مسرورة للغاية لأنني فعلت ذلك".
ولكن الأهم من ذلك أنها تجاوزت الإيماءات، وسألت الثكلى عما يمكن أن تفعله حكومتها بدلاً من أن تقرر نيابة عنهم كيفية تخصيص الموارد. قالت لهم: "وقتنا هو أن تقرر".
تفكر في حكومة ائتلافية رغم فوزها الساحق
واليوم بعد فوزها التاريخي تواصل رئيسة وزراء نيوزيلندا نهجها المنفتح، فقد
ألمحت جاسيندا أرديرن إلى إمكانية تشكيل حكومة ائتلافية على الرغم من تحقيق فوز تاريخي في الانتخابات سيمكن حزبها العمالي من الحكم بمفرده.
ولكن الصورة ليست وردية تماماً، في سبتمبر/أيلول الماضي، دخلت نيوزيلندا رسمياً في حالة ركود، نتيجة لعمليات الإغلاق المتعددة والحدود المغلقة. تعرضت صناعة السياحة والتشييد والبستنة لقرعات كبيرة، كما أن أعداد الفقر آخذة في الارتفاع، حيث سجلت قائمة الانتظار للإسكان الحكومي مستويات قياسية.
قال بيتر ويلسون، خبير اقتصادي، إن الناخبين سيحتاجون منها أكثر من التصدي لكورونا. لقد شكرها الناخبون على الحفاظ على البلاد آمنة من Covid-19. ولكن "لن يفعلوا ذلك مرة أخرى". "ستتمحور السنوات الثلاث المقبلة حول الانتعاش الاقتصادي والطريقة التي تتعامل بها الحكومة معها، وهو تحدٍّ مختلف تماماً ويمكن القول إنه أكثر صعوبة".
اقترح العديد من المراقبين أنه على الرغم من كون أرديرن محبوبة لليسار التقدمي، فإن ولايتها الثانية لن يتم تحديدها من خلال التغيير الدرامي الذي وعدت به.
كتب الخبير الاقتصادي شبويل عقاب "سيكون أمام الحكومة الجديدة الكثير، لكن لا تتوقع تغييرات جريئة وواسعة النطاق". جاسيندا أرديرن كرئيسة للوزراء كانت زعيمة براغماتية وسطية. سريعة وجريئة في التصرف في الأزمات، لكن الحذر مع الاضطراب على نطاق واسع.