أصبح من الواضح الآن أن فرنسا تسعى لملء الفراغ الناجم عن التراجع التدريجي لنفوذ أمريكا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. هكذا، ومع تولي إيمانويل ماكرون المتهم من خصومه بقلة الخبرة، دفة القيادة، دخلت السياسة الخارجية الفرنسية في خلافات متزايدة مع بعض الحلفاء في الناتو، خاصة تركيا. وجاءت ليبيا لتطرح مثالاً بارزاً على ذلك، حيث أذعنت فرنسا بدرجة خطيرة للإمارات في العديد من مواقف السياسة الخارجية، ما أدى إلى الأزمة الحالية التي تشهدها العلاقات الفرنسية التركية، كما يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
في الوقت نفسه، عملت مواقف باريس وأبوظبي المناهضة لتركيا في الشرق الأوسط على توحيد القوتين واصطفاف كل منهما إلى جانب الآخر. ففي 3 يونيو/حزيران الماضي، عقدت فرنسا والإمارات الدورة الثانية عشرة لاجتماعات الحوار الاستراتيجي الثنائي. وخلال الاجتماع، أعرب مسؤولون رفيعو المستوى من أبوظبي وباريس عن رغبتهم في تعزيز العلاقات الثنائية، وصدّقوا على خارطة طريق مدة تطبيقها 10 سنوات وتهدف إلى "تعميق شراكتهما الاستراتيجية".
الإمارات وفرنسا تجتمعان على عداء تركيا
ترى فرنسا في الإمارات مصدراً مهماً للاستثمار والتجارة والطاقة. وتستضيف الإمارات أول قاعدة عسكرية دائمة لفرنسا في الخليج، ما يسمح لقطاع الدفاع الفرنسي بجني مكاسب هائلة من علاقة باريس مع الإمارات. وفي أعقاب انتفاضات الربيع العربي عام 2011، اكتسبت علاقات فرنسا مع الإمارات زخماً، إذ تشاركت أبوظبي وفرنسا في علاقات تقارب مع أنظمة شرق أوسطية استبدادية وقائمة على حكم سلطويات قوية يمكنها قمع صعود ما تعتبره تلك الدول "قوى إسلامية متطرفة". وفي هذا السياق، ينظر ماكرون إلى أبوظبي والرياض على أنهما شريكان مهمان في مساعيه لـ"مكافحة التطرف".
لكن، من جهة أخرى، يبدو أن العلاقات بين الثنائي الفرنسي والإماراتي من جانب وتركيا من الجانب الآخر قد وصلت إلى الحضيض. ففي البداية، دعمت باريس وأبوظبي اليونان في مواجهتها مع أنقرة حول الترسيم البحري المعقد والمثير للخلافات للمناطق الاقتصادية الخالصة، كما هددت رعاية الثنائي للواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا و"وحدات حماية الشعب" (YPG) الكردية في سوريا المصالحَ التركية في المنطقة.
والآن، من المتوقع أن يؤدي خطاب ماكرون الأخير المثير للجدل حول الإسلام إلى مزيد من الإضرار بالعلاقات بين باريس وأنقرة، خاصة بعد أن أعرب عن تضامنه مع أرمينيا وألقى باللوم على أذربيجان وتركيا في اندلاع الصراع مؤخراً مع أرمينيا.
بدأت باريس وأبوظبي في دعم حفتر في وقت مبكر من عام 2014. وفي إبريل/نيسان 2019، دعمت باريس خفيةً حملة حفتر المسماة "عملية تحرير طرابلس"، والتي هدفت إلى إزاحة حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة. وبينما اشترت الإمارات لحفتر جيشاً من المرتزقة وزودته بالمعدات العسكرية والمدرعات وأنظمة الدفاع والطائرات الهجومية المسيّرة ووفرت له الدعم الجوي، أسهمت فرنسا بالاستخبارات والقوات الخاصة وبعض الأسلحة المتطورة. وفي نهاية عام 2019، أشاد حفتر علناً بالدعم الفرنسي. ومع ذلك، فإن دعم أمراء الحرب الليبيين أدى إلى تأجيج الحرب، وارتكاب مزيدٍ من جرائم الحرب ضد المدنيين.
تهميش تركيا في شرق المتوسط
كانت سياسات الطاقة في شرق المتوسط هي الدافع وراء التدخل التركي في ليبيا. إذ شعرت القيادة التركية بالقلق إزاء احتمال ضياع فرصها في استغلال ثروة الغاز المكتشفة حديثاً في شرق البحر المتوسط. ومن الجدير بالذكر أن مشروع خط أنابيب شرق المتوسط (East Me) المقترح (اتفاقية الغاز الطبيعي لعام 2015 بين إسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا) تتجاوز تركيا وتخرجها من سوق الطاقة في شرق المتوسط. كما أن الاكتشافات الأخيرة للغاز الطبيعي في مصر، وخططها لتحويل نفسها إلى مركز إقليمي للطاقة، كل ذلك يُضعف من تطلعات تركيا لتصبح قوة للطاقة في البحر المتوسط.
في إبريل/نيسان 2019، وافقت قبرص ومصر واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن وفلسطين على إنشاء "منتدى غاز شرق المتوسط"، الذي يقع مقره في القاهرة، واستبعدوا تركيا عمداً. وبعدها بسبعة أشهر، عقدت الإمارات أول اجتماع ثلاثي لها مع اليونان وقبرص، وبعد فترة وجيزة، طلبت فرنسا الانضمام إلى المنتدى بصفة مراقب دائم.
فشل فرنسي وإماراتي
رداً على هذا التحالف الناشئ المناهض لتركيا في شرق المتوسط والجهود المبذولة لعزلها في شريط ساحل رفيع، وقعت أنقرة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، والتي تحتّم مضامينها مشاركة تركيا في مشروع "خط أنابيب شرق المتوسط" EastMed project. وفي المقابل، التزمت تركيا بتقديم دعم قوي لحكومة الوفاق الوطني في معركتها ضد حفتر.
لقد قلب الدعم التركي الحرب الأهلية على نحو حاسم لصالح حكومة الوفاق الوطني، وأبطل فاعلية سنوات من الاستثمار الفرنسي والإماراتي في حفتر، ودفع أبوظبي وباريس إلى تكثيف جهودهما المناهضة لتركيا في شرق المتوسط.
بينما ركزت الإمارات على البنية التحتية (عن طريق عرضها لتشغيل ميناء حيفا الإسرائيلي، ما قد يفتح طريقاً للطاقة يمكن أن يلتف على مضيق هرمز، وإتاحة تمويل خط أنابيب شرق المتوسط باهظ الثمن، وتصدير الغاز الإماراتي، ومن ثم إعاقة طموحات الطاقة التركية)، حشدت فرنسا الاتحاد الأوروبي لتكثيف الجهود المتعلقة بالتأمين البحري تجاه تركيا، تحت راية الدفاع عن حليفها، اليونان.
ومع ذلك، فإن واقع الأمور يشي بأن نداء التضامن الفرنسي للقوى الأوروبية كان محاولة لخنق الدعم التركي لحكومة الوفاق الوطني، وتأييد ضمني لدولة الإمارات، عن طريق السماح للأخيرة بإمداد حفتر بالدعم جواً، في حين تُقطع خطوط الإمداد البحرية التركية لحكومة الوفاق.
على الجانب الآخر، منحت جهود الإمارات وفرنسا المناهضة لتركيا موطئ قدم لروسيا في ليبيا، وهي الدولة التي يرى كثيرون في الغرب أنها تهديد أمني طويل الأمد لأوروبا.
في الختام، على الرغم من أن الثنائي الفرنسي الإماراتي لم ينجح بعد في كبح تحركات تركيا، فإنه أدى إلى مزيد من زعزعة استقرار المنطقة، وتأجيج الصراع الليبي، وزيادة مخاطر اشتعال مواجهات في المنطقة. ومع بقاء الولايات المتحدة ساكنة إلى حد كبير فيما يتعلق بتلك التوترات، يبقى أن ننتظر ونتابع ما إذا كانت سياسات الثنائي، فرنسا وأبوظبي، الإقليمية ستُوهن موقف تركيا وتجبرها على التراجع في المنطقة أم لا.