في بداية تفشي جائحة فيروس كورونا، ظهرت نظريات تبشر بانتهاء النظام العالمي وبروز عهد جديد، لكن بعد أكثر من 9 أشهر، يبدو أن تلك النظرية حكمتها خرافات وليست حقائق.
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "كوفيد-19 قد لا يغير العالم"، ألقى نظرة تحليلية أكثر عمقاً على الأوضاع العالمية بعد نحو عام من العيش في ظل الجائحة التي أصابت ما يقرب من 38 مليون شخص وأودت بحياة ما يزيد عن مليون و82 ألفاً، ولا يبدو أن لها نهاية قريبة تلوح في الأفق.
الإجابة الأكثر دقة.. لا أحد يعرف
كيف ستُعيد جائحة كوفيد-19 تشكيل النظام العالمي؟ الإجابة الصريحة هي أنه لا أحد يعرف، وأفضل ما يمكن لواضعي السياسات فعله هو تجنب الخرافات التي تعوق تفكيرهم والنظر في البدائل التي تساعدهم في التركيز على الأسئلة الأهم. أحياناً تكون التقديرات خاطئة، لكن من المفيد هيكلة الفكر السياسي بطريقة تتيح للقادة التعلم من أخطائهم ومن نجاحاتهم أيضًا.
حين نحاول تقدير الآثار المترتبة على الجائحة الحالية، ينبغي أن نبدأ بالتواضع في ما يخص ما لا نعرفه. فيروس كورونا مستجد وما زال العلماء يحاولون فهم خصائصه البيولوجية والوبائية، ولا أحد يعرف إلى متى سيبقى، ولا متى سيعود، وبأي صورة، وليس من الواضح ما إذا كانت الأمصال ستكون فعالة ولأي مدى ستبقى آثارها، إن أمكن إنتاجها من الأساس، أو الطرق المناسبة لتوزيعها في أنحاء العالم.
يمكن أن نستدل بالتاريخ في العديد من المواضع، لكنه قد يضللنا أيضًا، وإنها لازمة شائعة القول بأن الأوبئة السابقة مثلت نقاط تحول في التاريخ، ومنها جائحة القرن الرابع عشر التي قتلت ثلث سكان أوروبا على الأقل وأسهمت في إنهاء النظام الإقطاعي.
لكن قبل قرن، قتل وباء الإنفلونزا العظيم ما يقدر بخمسين مليون شخص (من بينهم 600 ألف أمريكي)، وهذا ضعف عدد الوفيات التي تسببت في الحرب العالمية الأولى، والسلالات الفيروسية المتحورة من هذا الوباء مستمرة حتى يومنا هذا، لكن معظم المؤرخين يُعزون التغيرات الجيوسياسية المهمة التي وقعت في العقود التالية، ومنها صعود الشيوعية والفاشية، إلى الحرب وتبعاتها وليس إلى الوباء.
أسهم وباء الإنفلونزا العظيم على الأرجح في التغيرات الثقافية، ومنها انتشار العدمية في عشرينات القرن الماضي لكن قتال الجنود وقتلهم في الخنادق الفرنسية ربما كان أكثر أهمية، ومع أن الوباء قتل عدداً أكبر من الناس، فإن آثاره غطت عليها آثار الحرب، التي شملت التغطية على أعداد القتلى في الوباء، لذلك من المهم أن نتخلص من بعض الخرافات المتعلقة بالجائحة الحالية.
الخرافة الأولى: الأوبئة تغير العالم
الخرافة الأولى هي أن الأوبئة دائماً نقاط تحول كبرى في التاريخ؛ فهي أحياناً تكون كذلك، وأحياناً لا تكون. يميل الناس إلى الاعتقاد أن الأسباب تولد آثاراً ضخمة. لكن مثال وباء 1918 يُظهر أن هذا الاعتقاد بسيط للغاية، إن كوفيد-19 سبب ضخم للغاية، لكن هذا لا يكشف عن حجم أو طبيعة آثاره.
وحتى إن كانت للجائحة آثارٌ ضخمة داخل الولايات المتحدة، فهذا لا يعني أن هذه الآثار ستتسبب في تغيرات جيوسياسية ضخمة. نعم، لقد أثر الفيروس تأثيراً عميقاً على طريقة المعيشة والعمل والانتقال. وعلى الأرجح ستدوم آثاره على الوظائف ومواقع الأنشطة الاقتصادية والتعليم والسلوك الاجتماعي. وقد كشفت عن ضعف أنظمة الرعاية الصحية وغياب المساواة في استعمالها. وإن زادت التغيرات الاجتماعية من الاستقطاب أو الفوضى أو الشلل السياسي، فقد يؤثر هذا على السياسة الخارجية والوضع الجيوسياسي، لكنه قد يؤدي إلى إصلاحات سياسية داخلية في الولايات المتحدة دون أي تغير في السياسة الخارجية الأمريكية.
الخرافة الثانية: نهاية عصر العولمة
والخرافة الثانية التي يمكن أن تعوق التحليل المتأني هي وجهة النظر التي عبر عنها كثيرون بأن كوفيد-19 سيُنهي عصر العولمة الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية. فالعولمة، أي الاعتماد المتبادل بين القارات، نشأ جزئياً بسبب تغيرات في تكنولوجيا النقل والمواصلات، وهذه التغيرات لن تتوقف على الأرجح. ربما تتغير أنواع تلك الوسائل، لكنها لن تتوقف. ربما يتراجع السفر عبر الجو، لكن العالم لن يصبح افتراضياً.
الأرجح عند هذه المرحلة أن بعض سلاسل التوريد الاقتصادية المتعلقة بالأمن القومي ستصبح أكثر إقليمية، وقد تؤدي المخاوف الأمنية بالشركات والحكومات إلى هيكلة مخزونها من أجل أي ظروفٍ طارئة، بدلاً من التركيز على السرعة. لكن بخلاف الحرب، هذه التعديلات الأمنية من غير المرجح أن تؤدي إلى خلخلة سلاسل التوريد العالمية أو التجارة العالمية، وحتى إن فعلت، فهي لن تنهي الاعتماد الإيكولوجي المتبادل بين دول العالم أو توقف تدفق اللاجئين بسبب التغيرات المناخية بفعل الكوارث الطبيعية.
الخرافة الثالثة: نهاية الديمقراطية
الخرافة الثالثة هي وجهة النظر المنتشرة بأن كوفيد-19 سيمثل نهاية الديمقراطية الليبرالية وهيمنة النموذج السياسي السلطوي الذي سيقدر على فرض إجراءات شمولية مرتبطة بالاختبارات والحجر الصحي والعزل. وأحياناً يعزز ذلك المثال نجاح الصين في السيطرة على انتشار الفيروس – بعد بداية كارثية – مقارنةً بفشل الولايات المتحدة. لكن ينبغي التعميم على الأوضاع في بلدين لهما زعيمان فريدان من نوعهما.
والدول الديمقراطية مثل ألمانيا ونيوزيلندا كان أداؤها أفضل من الدول الدكتاتورية مثل روسيا، وبين الديمقراطيات، كان أداءُ الدول التي لها قادة عمليون براغماتيون مثل ألمانيا بقيادة أنجيلا ميركل أفضل من الدول التي يقودها رؤساء بنزعة سلطوية مثل جايير بولسونارو في البرازيل.
وصحيحٌ أن الشعبويين المعادين لليبرالية مثل فيكتور أوربان في المجر استغلوا الأزمة الصحية في تشديد قبضتهم السلطوية، لكن حتى لو لم تأتِ جائحة فيروس كورونا، كان هؤلاء الحكام سيستغلون واقعة أخرى. وبالمثل، يقلق خبراء الخصوصية من أن تطبيقات تتبع الحالات المخالطة تحفز صعود دولة المراقبة، لكن التهديدات الواقعة الخصوصية كانت موجودة قبل الجائحة وستستمر بعدها، فكل ما فعلته الجائحة على الأرجح كان تحفيز توجه قائمٍ بالفعل.
من ناحية أخرى، قد تؤدي خلخلة الاقتصاد في بعض الدول النامية إلى تقويض الشروط اللازمة للحكم الديمقراطي، فبلدان إفريقية منها إثيوبيا وبوروندي استغلت بالفعل كوفيد-19 في تأخير أو التشويش على الانتخابات المقرر عقدها، والتوجه نحو نقص في عدد البلدان الديمقراطية، الذي كان قائماً بالفعل قبل كوفيد-19، ربما زادت منه الجائحة.
الخرافة الرابعة: الصين تقود العالم
أما الخرافة الرابعة، فهي أن الجائحة قد أعطت الصين تفوقاً طويل المدى على الولايات المتحدة من حيث القوة الناعمة. فمع أن البعض يؤمن أن كفاءة الصين وحملتها الناجحة في تكوين سردية إيجابية عن طريق المساعدات الاقتصادية والصحية للبلدان الأخرى أدت إلى تحسين سمعتها، فالصين تبدأ من موقف ضعيف بالفعل.
إذ خلقت بكين عقبات لنفسها عن طريق زيادة النزاعات الإقليمية سوءاً وإصرارها على الحكم القمعي للحزب الواحد، كما يتذكر الجميع إسكات الصين للأطباء في بداية الجائحة.