نعم، للسياسة أحكام وهذا ينطبق على العلاقات التي أصبحت قوية للغاية بين الصين وباكستان، والسبب هو التقارب بين الهند وأمريكا، فما طبيعة ذلك الانقلاب في التحالفات، وهل هو مستدام أم مؤقت؟
عدو عدوي صديقي
بديهي أن التوتر الذي وصل لحد الاشتباكات المسلحة بين الصين والهند مؤخراً، يصب في صالح تقوية العلاقات بين الصين وباكستان، لكن الواقع هو أن تلك العلاقات تشهد تقارباً متسارعاً في السنوات القليلة الماضية، والأسباب متعددة، ربما يكون أبرزها وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض، لكنه ليس السبب الوحيد.
وقد نشر موقع The National Interest الأمريكي تقريراً بعنوان "لماذا تمتلك الصين القدرة على تحديد مستقبل باكستان؟"، ألقى الضوء على الطبيعة المتشابكة للعلاقات بين الصين وباكستان من جهة والهند والولايات المتحدة من جهة أخرى، إضافة إلى معطيات الصراع على النفوذ في آسيا والعالم بشكل عام بين بكين وواشنطن.
فقد أبرز التنين أنيابه خلال العام الجاري وبدأ بمحيطه الإقليمي في آسيا، وظهر ذلك جلياً في التوتر الحدودي مع الهند بمنطقة أكساي تشين التي شهدت مواجهة عسكرية بين الجانبين بالفعل قبل نحو ستة عقود؛ وهو ما أدى إلى تدهور العلاقات بين بكين ونيوديلهي بصورة غير مسبوقة منذ انتهاء الحرب بينهما، وفي المقابل استمرت العلاقات بين الصين وباكستان في الازدهار وهو ما انعكس بشكل واضح في وقوف رئيس وزرائها، عمران خان، بصفِّ الصين في أزمة فيروس كورونا، منذ البداية وحتى الآن.
فعندما تعرضت الصين لانتقاد عنيف من الولايات المتحدة وبعض دول العالم الأخرى، بسبب تستر بكين على الوباء في بداية ظهوره على أراضيها وتأخرها في كشف حقيقته، جاء موقف عمران خان متوازناً، لأسباب تتعلق بمليارات الدولارات من الاستثمارات الصينية في بلاده من خلال مشاريع مبادرة الحزام والطريق، لكن ليست هذه كل القصة.
العلاقة إذن بين الصين والهند تسير في اتجاه موازي ومتناقض الاتجاه لعلاقة الأولى مع باكستان؛ فمن تدهور وصل لنقطة الغليان واحتمال مواجهة عسكرية مرعبة إلى مسار مفروش بالتعاون رغم العقبات التي يُفترض أن تعترض طريق ذلك التعاون.
وفي ظل العداء بين الهند وباكستان من جهة ورغبة الهند في أن تلعب دوراً إقليمياً- بتشجيع من واشنطن- من جهة أخرى، تبدو فرص استمرار علاقة التعاون القائمة بين بكين وإسلام آباد كبيرة وربما تصل إلى التحالف الرسمي أيضاً، بحسب مراقبين، رغم الحسابات المعقدة والمتشابكة التي تغلّف تلك العلاقة، لكن في النهاية يبرز القول إن "عدو عدوي صديقي".
ماذا عن قمع الإيغور؟
عندما وقعت الاشتباكات الحدودية بين الصين والهند وسقط فيها عشرات القتلى من الجانبين، في التطور الأخطر منذ 1962، تطورت الأمور على جميع الأصعدة بصورة متسارعة، وأقسم رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، بأن "تضحية جنودنا لن تذهب سدىً"، واتهم وزير خارجيته الصينَ بأن أفعالها في المنطقة الحدودية "مقصودة" وليست مجرد حادث عابر، وتعقدت الأمور أكثر بعد أن قامت الهند بحظر 59 مطبوعة صينية في البلاد، ومع تواصل تصريحات المسؤولين الهنود قام المواطنون بحرق صور الرئيس الصيني شي جين بينغ في الشوارع.
أدى ذلك بالطبع إلى تدهور غير مسبوق في علاقات البلدين، خصوصاً أن النظام الحاكم في دلهي وبكين نظام قومي شعبوي، وأرسلت الصين تعزيزات عسكرية ضخمة لمنطقة الحدود المتوترة ووصلت الأمور لكارثة دبلوماسية خطيرة، وانعكس ذلك على الأجواء العامة في البلدين الملياريتين من حيث عدد السكان، وأصبح التشاؤم سيد الموقف، في ظل امتلاك كل منهما أسلحة نووية، وعلى الرغم من أن الهدوء يسود الآن، فإن ما حدث يظل انتكاسة خطيرة لعلاقات البلدين فيما هو قادم.
وعلى النقيض تماماً من ذلك المشهد المظلم بين الهند والصين، يأتي المشهد بين باكستان والصين مفعماً بالتفاؤل والعلاقات الطيبة، فلا توجد انتقادات للصين بشأن وباء كورونا، وساندت إسلام آباد الصين في ملف هونغ كونغ حتى عندما صدر قانون الأمن القومي المثير للجدل، وحتى قمع الأقلية المسلمة من الإيغور والتي أصبحت قضيتهم حديث العالم أجمع منذ الكشف عن فظاعة الممارسات الصينية بحق المسلمين هناك أواخر العام الماضي، لم يصدر عن باكستان أي تعليقات بهذا الشأن كأن باكستان الدولة المسلمة قد قررت غض البصر عن تصرفات بكين بحق الإيغور، فالاستثمارات الصينية بلغت 60 مليار دولار من خلال الممر الاقتصادي بين البلدين.
دعم صيني تحتاجه باكستان بشدة
والقصة هنا لا تتوقف عند الاستثمارات التي يحتاجها عمران لتقوية مركزه الداخلي فحسب، بل تتخطاها إلى دعم بكين لباكستان كي لا توضع في القائمة السوداء من جانب قوة العمل المالي، وهي مؤسسة دولية معنية بمراقبة حركة غسل الأموال وتمويل الإرهاب حول العالم ولها معايير تصنَّف من خلالها الدول، وتوجد باكستان حالياً في القائمة الرمادية، وتسعى الهند لوضع جارتها اللدودة في القائمة السوداء خلال اجتماع المؤسسة الدوري هذا الشهر.
وسوف تنعقد جلسات مؤسسة قوة العمل المالي الدولية ومقرها باريس، من خلال تقنية الفيدبو كونفرانس (تقنية زمن الوباء)، في الفترة من 21 إلى 23 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وبحسب تقرير نشره موقع The Print تخشى نيودلهي من تصعيد الصين لمساندتها لباكستان ومنع إضافة إسلام آباد للقائمة السوداء.
وقد تم وضع باكستان بالقائمة الرمادية في يونيو/حزيران 2018، مع إيران وكوريا الشمالية، وقدمت المؤسسة الدولية لباكستان خطة عمل من 27 بنداً تتعلق بإجراءات مكافحة تمويل الإرهاب وغسل الأموال، على إسلام آباد تنفيذها، في موعد أقصاه أكتوبر/تشرين الأول 2019، لكن باكستان لم تنفذ سوى 5 بنود من البنود السبعة والعشرين، فتم توجيه تحذير بضمِّها إلى القائمة السوداء إذا لم تنفذ باقي البنود في أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
وتشير المعلومات الواردة في هذا الصدد إلى أن باكستان لم تتمكن من تنفيذ جميع البنود، وهو ما تستغله نيودلهي للضغط على الأعضاء المشاركين في الاجتماعات القادمة، لوضع باكستان بالقائمة السوداء، لكن الصين ترفض ذلك وتضغط من جانبها كي لا يحدث ذلك، فوضع أي بلد في القائمة السوداء لمؤسسة العمل المالي الدولية يقلل من فرص حصول الدولة على قروض أو فرص استثمار فيها، وإن كانت المصادر التي تحدثت لموقع The Print أكدت أن بكين لا تنظر فقط إلى التداعيات الاقتصادية للقرار، لكنها تأخذ في الحسبان التداعيات السياسية ولن تسمح للهند بالانتصار، خصوصاً أن الولايات المتحدة هي الأخرى غير متحمسة لوضع باكستان في القائمة السوداء.
الصراع الإقليمي أكثر تشابكاً
لكنَّ هناك أبعاداً أخرى تمثل عوائق أمام ازدهار مستدامٍ للعلاقة بين الصين وباكستان، أبرزها طبيعة إدارة الصين لتلك العلاقة، فالصين على سبيل المثال أوقفت العمل في الممر الاقتصادي بين البلدين مع تفشي الجائحة، وهو ما وضع عمران خان في مأزق داخلي كبير، ورغم إعلانه عن تمسكه بإتمام المشروع "بأي ثمن"، فقد يواجه مشاكل أكبر في حالة تأخُّر الصين في إكمال المشروع لأسباب تعود لسياستها الخاصة في ترتيب أولوياتها.
النقطة الأخرى هنا تتعلق بطموحات الصين التي أصبحت معلنة وهي فرض هيمنتها في آسيا والعالم؛ وهو ما تسبب في حرب باردة مع الولايات المتحدة- وليس المقصود هنا من تسبب في إشعال تلك الحرب الباردة- لكنَّ سعي الصين لمزاحمة أمريكا على قيادة العالم لم يعد سراً خافياً ولا مجرد فرضية، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة- الحليف التقليدي لباكستان- ستسعى لاستعادة علاقاتها مع إسلام آباد، خصوصاً في حالة خسارة دونالد ترامب وعودة السياسة الخارجية الأمريكية إلى ما كانت عليه قبل وصوله للبيت الأبيض.
وربما يرى البعض أن تلك النقطة تصب في صالح إسلام آباد، حتى لا تجد نفسها خاضعة بشكل تام لإملاءات بكين، لكن القصة أكثر تعقيداً مما يبدو، وهذا ما يدركه جيداً عمران خان، الذي قرر أن يلقي بنفسه وبلاده في أحضان الصين على طول الخط، وهنا تكمن الخطورة، فماذا سيحدث إذا ما تغيرت رياح العلاقات بين نيودلهي وبكين لأي سبب من الأسباب؟ أو ماذا سيفعل عمران خان في حالة تغيُّر السياسة الأمريكية الحالية بعد ترامب؟