لا تزال تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن الإسلام تثير الغضب والاستنكار، لكن اعتراف وزير الداخلية الألماني بشأن تغلغل ناشطين من اليمين المتطرف في صفوف الشرطة والجيش في البلاد يفتح نقاشاً أكثر عمقاً بشأن مكافحة الإرهاب بشكل عام على مستوى العالم، ومدى جدية تلك الجهود وحياديتها، فما القصة؟
اعتراف غير مسبوق
أمس الثلاثاء 6 أكتوبر/تشرين الأول، عرض وزير الداخلية الألماني هورست زيوهوفر تقريراً بعدد الناشطين المتطرفين في الشرطة وأجهزة الاستخبارات وجهاز مكافحة التجسس في الجيش، جاء فيه أن هناك 319 حالة من حالات التطرف اليميني المشتبه بها في الأجهزة الأمنية للولايات الألمانية في الفترة الممتدة بين عام 2017 ونهاية مارس/آذار 2020، إضافة إلى 58 حالة تطرف مشتبه بها في أجهزة الأمن الاتحادية و44 حالة تطرف مشتبه بها في صفوف الشرطة الاتحادية، وست حالات في الدائرة الاتحادية للتحقيقات الجنائية (BKA) وحالات فردية أخرى في صفوف الجمارك وشرطة البرلمان وهيئة حماية الدستور (الاستخبارات الداخلية، وجهاز المخابرات الخارجية)، بحسب موقع دويتش فيله.
الأرقام التي وردت في تقرير الوزير جاءت بناء على طلب منه لأفراد تلك القوات، البالغ عددها 300 ألف عنصر، ملء استمارات حول حالات محتملة تشمل زملاء لهم دون أن يكشف العنصر عن اسمه أو بياناته، في محاولة منه لاختراق جدار الصمت المهيمن على تلك الأجهزة بشأن تغلغل ناشطين من اليمين المتطرف بين صفوفها.
ولم تتحرك الحكومة في ذلك الاتجاه إلا بعد نشر صحيفة دي فيلت في سبتمبر/أيلول الماضي أرقاماً أولية بشأن تلك العناصر المتطرفة تغطي الفترة من بداية 2017 وحتى مارس/آذار 2020 ذكرت وجود "أكثر من 350 حالة مشبوهة".
وبالتالي فإن اعترافات زيهوفر ونشره تلك الأرقام يمثل تحولاً في موقف الحكومة الألمانية الرافض إجراء تحقيق شامل، مبررة ذلك بأن مثل ذلك التحقيق قد يؤثر سلباً على صورة كل عناصر الأجهزة الأمنية في البلاد، وكانت تعتمد أسلوب التعامل مع كل حالة تطرف على حدة.
وبالعودة إلى شهر يوليو/تموز الماضي فقط، نجد أن زيهوفر نفسه رفض فكرة التحقيق الشامل قائلاً: "وكالاتنا الأمنية كنز فعلي"، نافياً أن يكون التدقيق بحسب الوجوه معتمداً، لكنه غيَّر كلامه تماماً في الأول من أكتوبر/تشرين الأول وقال إن "الحكومة لا تخفي شيئاً".
ما سبب ذلك التحوُّل؟
وهنا لابد من التساؤل حول أسباب هذا التحول في تعامل الحكومة الألمانية مع اليمين المتطرف في البلاد، فنجد أن الضغوط تزايدت بشدة منذ مطلع الشهر الجاري حتى من جانب الحزب الاشتراكي الديمقراطي، شريك المحافظين في حكومة أنجيلا ميركل الائتلافية لتسليط الضوء على الحجم الحقيقي لمجموعات اليمين المتطرف في البلاد.
وتزامنت اعترافات وزير الداخلية مع إعلان إدارة الشرطة في مدينة دريسدن شرق ألمانيا عن وقف شرطي عن العمل بسبب تصريحات يمينية متطرفة، موضحة أن محتويات معادية للدستور في مواقع للدردشة تسببت في لفت الانتباه للرجل، ومشيرة إلى أن هناك إجراء تأديبياً يجري حالياً بحق الشرطي (38 عاماً)، وكان شرطي آخر في دريسدن أيضاً قد تم استبعاده من الخدمة في أيلول/سبتمبر الماضي بسبب تعليقات عنصرية ويمينية متطرفة في موقع دردشة.
لكن إرهاب اليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وكندا ضد المسلمين بصفة خاصة والمهاجرين بصفة عامة لا يمكن اعتباره أمراً حديثاً أو حوادث فردية، فالتهديد الذي يمثله اليمين المتطرف والجرائم والمذابح التي ارتكبها على مدار السنوات الماضية كان يقابله صمت أو تجاهل من السياسيين في تلك البلاد في ظل تنامي تيار اليمين بشكل عام وعدم رغبة هؤلاء السياسيين في الاصطدام مع تيار لديه أصوات انتخابية.
وأدى ذلك إلى تنامي ذلك التيار بصورة لافتة وحصول أحزاب تمثله على نسب تمثيل متصاعدة داخل الحكومات، بل ووصل سياسيون ينتمون لذلك التيار لمناصب القيادة وأبرزهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون وماتيو سالفيني في إيطاليا الذي تولى منصب نائب رئيس الوزراء، ومن قبل غيرهم كثيرون، في مقابل ارتفاع وتيرة العداء للإسلام والمهاجرين بصورة تنذر بالخطر.
تركيز الأمن على المجموعات المتطرفة بين المسلمين
وعندما وقعت مذبحة كرايستشيرش في نيوزيلندا العام الماضي عندما فتح أحد أعضاء جماعات اليمين المتطرف نيران أسلحته على المصلين وبث جريمته عبر فيسبوك، بدأ الحديث أخيراً عن ذلك التهديد الخطير للأبرياء وعدم انتباه أجهزة الأمن والمخابرات ومنصات التواصل الاجتماعي وغيرها لذلك الخطر الإرهابي، بسبب تكريس الجهود لمراقبة الجماعات الإسلامية المتطرفة منذ الهجمات الإرهابية في سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تبناها تنظيم القاعدة، وأصبحت سبباً مباشراً في انتشار الإسلاموفوبيا أو العداء للإسلام في العالم الغربي.
لكن مذبحة نيوزيلندا، على بشاعتها، لم تؤدِّ إلى تغيير حقيقي في التعامل مع إرهاب جماعات اليمين المتطرف، وهو ما أدى لتكرار اعتداءات وجرائم تلك الجماعات بحق المسلمين والمهاجرين في الغرب، وشهدت ألمانيا في فبراير/شباط الماضي القبض على 12 فرداً ينتمون لجماعة يمينية متطرفة كانوا يخططون لشن هجمات على مساجد وسياسيين وطالبي لجوء، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وحقيقة الأمر هي أن أجهزة الأمن في ألمانيا لم تبدأ فعلياً في تضييق الخناق على الجماعات اليمينية المتطرفة إلا في أعقاب مقتل السياسي فالتر لوبكه والهجوم على مجمع يهودي في مدينة هال شرق ألمانيا العام الماضي، رغم تصاعد الدعم لليمين المتطرف بصورة لافتة قبل ذلك بسنوات طويلة.
والحقيقة أيضاً هي أن جرائم واعتداءات اليمين المتطرف بحق المسلمين والمهاجرين في ازدياد ملحوظ في غالبية الدول الغربية التي يفترض أن قوانينها ودساتيرها تضمن حرية الاعتقاد والتعبير عن الرأي وغيرها من الحريات، وأهمها عدم جواز تعرض شخص لاعتداء لفظي أو مادي بسبب الدين أو العرق أو اللون أو لأي سبب آخر، ورغم ذلك لا يتم تصنيف جرائم اليمين المتطرف على أنها إرهاب، وكأن الإرهاب أصبح فجأة محصوراً في الجرائم التي يرتكبها متطرفون إسلاميون.
عن أي أزمة يتحدث الرئيس الفرنسي إذن؟
في هذا السياق، يرى كثير من السياسيين والمراقبين حول العالم أن تصريحات ماكرون بشأن الإسلام عندما قال إن "الإسلام يواجه أزمة في كل مكان" ليست فقط تصريحات تحريضية ضد نحو ملياري مسلم حول العالم، لكنها أيضاً ارتداد خطير إلى مربع يفترض أن البشرية قد تجاوزته منذ قرون وليس عقوداً، والمقصود هنا هو الحروب الدينية بشكل عام.
ففي القرن الماضي شهدت البشرية حربين عالميتين بدأتا في القارة الأوروبية وتلاهما ميلاد نظام عالمي جديد ينادي بالحرية والتعاون والعولمة، وبالتالي من المفترض أن يكون الصراع بين الأديان قد ولَّى زمنه، فالإرهاب ليس مرتبطاً بدين ولا عِرق ولا حتى دولة أو قومية بعينها، فالمسلمون حول العالم يبلغ تعدادهم نحو مليارين أي أكثر من ربع سكان الكوكب، بينما الجماعات المتطرفة لا يزيد عدد المنتمين لها عن الالاف وليس حتى الملايين، وبالتالي فإن الحديث من جانب رئيس دولة يسعى للزعامة وملء الفراغ الذي تركته أمريكا في مناطق الصراع في الشرق الأوسط والقوقاز وشرق المتوسط بتلك الصورة عن الإسلام والمسلمين يعد أمراً غاية في الخطورة يهدد السلم الاجتماعي حول العالم.
ومن المفارقات هنا أن رئيس الدولة التي تتبنى العلمانية وفصل الدين عن السياسة وحرية المعتقد لجميع مواطنيها، تجاهل ملايين المسلمين الفرنسيين الملتزمين بقوانين البلاد والذين لم يصدر منهم أي خرق للقوانين واستغل وجود بعض المتطرفين لكي يعمم ذلك التطرف و"الانعزالية" على جميع المسلمين ليس فقط في فرنسا بل في كل مكان في العالم، في مقابل صمته المطلق عن اليمين المتطرف وجرائمه في فرنسا وغيرها من الدول الغربية، وهو ما يطرح تساؤلات مشروعة تماماً بشأن نواياه الحقيقية.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال قيام صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية بنشر تلك الرسوم الكاريكاتورية الساخرة من النبي محمد، والتي تصوره كإرهابي تحت ذريعة حرية التعبير، وكأن الصحيفة هي الوحيدة في فرنسا وأوروبا والغرب التي تدافع عن حرية التعبير، وكان الأجدر بالرئيس وغيره من السياسيين الشعبويين أن يرفضوا التصرف غير المسؤول للصحيفة من الأصل، كما فعل كثير من الصحفيين والصحف من غير المسلمين حول العالم، بدلاً من تشجيع التطاول على الدين الإسلامي نفسه.
ولا يعني ذلك أن الجريمة البشعة التي ارتكبها متطرفون مسلمون بحق هيئة تحرير الصحيفة لها ما يبررها من الأساس، فالجرائم لا يمكن أن يبررها إنسان طبيعي مهما كانت ديانته، وهذا ينطبق بصورة أكبر على الرئيس الفرنسي بحكم منصبه، حيث إن هجومه على الإسلام بتلك الصورة غير المسبوقة يرفع من درجة تعرض حياة المسلمين لخطر هم معرضون له بالفعل، ويعانون منه على يد متطرفين آخرين ينتمون لليمين المتطرف، فهل الإسلام هو الذي يعاني أزمة أم أن الرئيس الفرنسي وغيره من السياسيين الفاشلين في تحقيق وعودهم الانتخابية -كما قال الرئيس التركي- هم مَن يعانون من أزمة مصداقية؟