تطرح الذكرى الثانية لاغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي تساؤلات بشأن العدالة بشكل عام، وهل تسقط جريمة بتلك البشاعة وجهت فيها أصابع الاتهام لأعلى سلطة في المملكة بالتقادم؟ إضافة إلى تساؤلات بشأن حرية الرأي في السعودية وثمنها الباهظ.
جريمة لا تسقط بالتقادم
وفي الذكرى السنوية الثانية للجريمة، أكد حقوقيان لوكالة الأناضول أن قضية قتل خاشقجي التي هزت الرأي العالم العالمي "لن تختفي للأبد، وستظل أصابع الاتهام تشير إلى أشخاص لم تتم محاسبتهم، رغم تواري القضية وتعطيلها".
ويصادف الجمعة 2 أكتوبر/تشرين الأول، ذكرى مرور عامين على جريمة مقتل خاشقجي داخل القنصلية السعودية بمدينة إسطنبول، في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، مع اتهامات تنفيها الرياض بأن ولي العهد محمد بن سلمان هو من أصدر أمر اغتياله.
وفي 7 سبتمبر/أيلول المنصرم، تراجعت المحكمة الجزائية بالرياض، بشكل نهائي، عن أحكام إعدام صدرت بحق مدانين في مقتل خاشقجي، مكتفية بسجن 8 بمدد متفاوتة بين 20 و10 و7 سنوات، ووفق ما نقلته وكالة الأنباء السعودية الرسمية "واس"، قالت المحكمة إنه "بصدور هذه الأحكام النهائية تنقضي معها الدعوى الجزائية بشقيها العام والخاص"، في إشارة إلى غلق مسار القضية داخل البلاد.
الحقوقي أحمد مفرح، المدير التنفيذي لمؤسسة "كوميتي فور جستس" المستقلة، قال إن جريمة قتل خاشقجي "تحولت من مقتل صحفي إلى قضية رأي عام دولي، لذلك لن تدفن أو تطوى صفحاتها"، واعتبر أن "القضية جريمة نظام سياسي يحكم بلداً عربياً، يستغل سلطاته الممنوحة له في القانونين المحلي والدولي لارتكاب جرائم قتل بطرق وحشية بحق معارضيه"، وأضاف أن "ملف القضية لن يدفن، لأنه ببساطة لم يدفن"، في إشارة إلى جثة خاشقجي التي لم تكشف السلطات السعودية عن مصيرها.
وأكد المدير التنفيذي لـ"كوميتي فور جستس" (مقرها جنيف)، أن لذلك "اعتبارات مهمة، منها أنها جريمة قتل خارج إطار القانون لا تسقط بالتقادم، فمهما طال الوقت ستظل القضية حية"، ولفت إلى أن "القضية ستظل حية لأن المسؤولين عن قتله ما زالوا طلقاء لم تتم معاقبتهم"، موضحاً: "أقصد هنا المسؤولين عن عملية القتل والمشاركين فيها، وكذلك من أمروا بها وعلى رأسهم محمد بن سلمان".
ليست جريمة أسرية
وبحسب مفرح فإن "المسلسل الذي قام به النظام السعودي لما سماه تحقيقات ومحاكمات (في القضية) لن ينطلي على أحد، فهو يفتقر إلى أدنى درجات الاستقلالية والشفافية والمهنية"، وتابع: "ناهيك عن أن ما تم في قضية خاشقجي أقرب لمحكمة سرية يخشى القائمون عليها أن تنفضح، فيصبحوا أضحوكة أمام العالم".
وزاد بأن "قضية خاشقجي ليست ملكاً لعائلته، وليسوا هم المعنيين بمنح البراءة أو حتى إصدار الإدانة"، في إشارة إلى إعلان أبنائه عفوهم عن قتلة والدهم "لوجه الله"، بحسب تغريدة لنجله صلاح في 22 مايو/أيار الماضي. "جريمة مقتله منظمة، ارتكبتها قوات تابعة لنظام سياسي في بلد آخر (تركيا) ذي سيادة، وكل طرف يثبت تواصله بأنه كان على علم أو ساعد في ارتكابها، متورط فيها".
وأكد علاء عبدالمنصف، المتخصص في مجال حقوق الإنسان، للأناضول أنه "من الممكن أن تكون قضية خاشقجي توارت قليلاً، لكنها حية وأصابع الاتهام تشير إلى أشخاص لم تتم محاسبتهم"، مشيراً إلى أن "ظروف المحاكمة السرية (في الرياض) تشير إلى أن الأمر برمته سياسي بروتوكولي، لإظهار أن السعودية طبقت القانون وحاكمت المجرمين".
واعتبر أن "العامل الرئيسي المؤثر في القضية هو التدخل الصارخ للسلطات السعودية في المحاكمة، وذلك لاشتراك جهات من الأسرة الحاكمة في الجريمة"، مستنداً إلى ما تؤكده منظمات دولية بهذا الشأن، موضحاً أنه "لولا الضغط الدولي والأمم المتحدة، وشفافية المؤسسات التركية في الملف وعرضه للإعلام والمجتمع الدولي، لدفنت القضية بشكل كامل".
ويذكر هنا أن المقررة الخاصة للأمم المتحدة، المعنية بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء، أغنيس كالامار، تابعت على الدوام مجريات القضية منذ وقوع الجريمة في إسطنبول، وفي مارس/آذار 2020، أصدرت النيابة العامة التركية لائحة اتهام بحق 18 شخصاً مشتبهاً فيه بالقضية، وانطلقت بعدها بنحو أربعة أشهر أولى جلسات القضاء التركي لمحاكمتهم غيابياً.
الوقائع ربما توارت لكنها لا تنسى
ومن المهم تذكر أن وكالات استخبارات غربية كثيرة، بينها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، تحدثت بشكل مباشر عن أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يتحمل المسؤولية كاملة عن اغتيال خاشقجي، لكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يأخذ ذلك على محمل الجد، لاعتبارات تتعلق بعلاقته مع ولي العهد وحاجته إلى إنعاش الاقتصاد الأمريكي باستثمارات وصفقات سعودية.
وفي محاكمات، وصفتها منظمات دولية بأنها "عدالة مثيرة للسخرية"، حاكمت السعودية 11 شخصاً في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وأصدرت أحكاماً على خمسة منهم بالإعدام، وعلى ثلاثة آخرين بالسجن لسنوات عديدة، بينما برأت ثلاثة آخرين.
ورفضت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالات القتل خارج القضاء، أغنيس كالامار، قرارات المحكمة باعتبارها "نقيضاً للعدالة"، حيث إن خاشقجي كان "ضحية إعدام متعمد مع سبق الإصرار"، وكانت الدولة السعودية مسؤولة عنه.
وأدان الاتحاد الدولي للصحفيين تلك الأحكام، معتبراً إياها إجهاضاً للجهود الدولية الساعية إلى إنهاء الإفلات من العقاب في الجرائم والانتهاكات ضد الصحفيين، وتواجه العدالة السعودية انتقادات من منظمات دولية وجمعيات معنية بحقوق الإنسان حول العالم، لتجنبها إدانة كبار المسؤولين عن اغتيال خاشقجي والمسؤولين الذين أصدروا أمر اغتياله.
حرية الرأي في المملكة تحت المنظار
كما تواجه حرية الرأي والتعبير والحقوق المدنية في المملكة انتقادات أوسع، بسبب حملات تضييق واعتقالات لقادة فكر ودعاة ومصلحين وصحفيين وعاملين في مجال حقوق الإنسان ومطالبين بالتغيير والمشاركة بالحكم.
وتفيد تقارير منظمة "مراسلون بلا حدود" بأن نحو 30 صحفياً ومدوناً، مصنفين كسجناء رأي، معتقلون في السجون السعودية، وترفض السلطات المعنية الإفراج عنهم رغم مخاوف تفشي وباء "كورونا" داخل المعتقلات، وهو ما تدركه الحكومة السعودية، التي أمرت في 26 مارس/آذار الماضي، بالإفراج عن 250 محتجزاً أجنبياً بتهم تتعلق بمخالفات قوانين الإقامة.
لكن هذا القرار وغيره لم يشمل الصحفيين وسجناء الرأي، الذين يتعرضون لخطر الإصابة بـ"كورونا"، وفق تقارير تحدثت عن اكتظاظ السجون السعودية واستحالة التباعد الاجتماعي، إضافة إلى أن العديد منهم في حالة صحية متردية، نتيجة التعذيب وسوء المعاملة وحاجتهم إلى رعاية طبية عاجلة.
وفي 19 يوليو/تموز الماضي توفى الصحفي السعودي، صالح الشحي، بسبب المرض، بعد شهرين من الإفراج عنه من سجن سعودي أمضى فيه أكثر من عامين، بعد أن حكم عليه، في فبراير/شباط 2018، بالسجن خمس سنوات، ويُعتقد أن "الشحي" أصيب بـ"كورونا"، لكن السلطات السعودية لم تعلن عن المرض رسمياً، ولم تتحدث عائلته عن ظروف وفاته ولا المرض الذي تسبب بالوفاة.
و"الشحي" كاتب معروف في جريدة "الوطن" السعودية، واعتقل في ديسمبر/كانون الأول 2017، بعد دعوته إلى إجراء نقاشات حول الإصلاحات التي يجريها ولي العهد، وحديثه على قناة تلفزيونية سعودية عن الفساد داخل الديوان الملكي، وأثار الإفراج المفاجئ عنه، قبل إتمام مدة محكوميته، ومن ثم وفاته بعد شهرين، الكثير من الشكوك حول الأسباب التي دعت إلى الإفراج عنه دون غيره.
وتحتل السعودية المرتبة 172 بين 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة العالمي الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود" عام 2019، ويتحدث مراقبون عن أنه كان يوجد هامش من حرية التعبير وانتقاد بعض سياسات الدولة، في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز (2005: 2015)، لكن هذا الهامش لم يعد موجوداً منذ أن تفرد محمد بن سلمان بالقرار، بعد تعيينه ولياً للعهد، في 21 يونيو/حزيران 2017.
ولم يعد هناك من يتجرأ على توجيه أي انتقاد لسياسات ولي العهد، سواء الدور السعودي في حرب اليمن، أو الدعوة إلى المصالحة مع دولة قطر، أو انتقاد تطبيع الإمارات والبحرين مع إسرائيل، والذي يُعتقد أن الغالبية العظمى من الشعب السعودي ترفضه، لكن من دون التصريح بذلك، طالما أن هذه الخطوات التطبيعية تنال رضا ولي العهد، خلافا لسياسات والده الملك سلمان (85 عاماً).
ووظفت الهيئات والمؤسسات المرتبطة بولي العهد السعودي المزيد من القدرات لخلايا منظمة تنشط في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، للإشادة بسياسات ولي العهد وقمع منتقديه والإبلاغ عنهم للجهات المسؤولة.
ملاحقة المعارضين في الداخل والخارج
وبعد اختراق هاتف جيف بيزوس، مالك صحيفة "واشنطن بوست"، التي كان يكتب فيها خاشقجي، تتحدث تقارير غربية عن اهتمام خاص لولي العهد بإنشاء مؤسسات تهتم بشراء أو تطوير برامج تجسس لمراقبة الصحفيين والإعلاميين والمعارضين لسياساته داخل وخارج المملكة.
وتخضع جميع وسائل الإعلام في السعودية لرقابة الحكومة. وتفرض القوانين قيوداً على حرية الصحافة والتعبير عن الرأي، حيث تُلزم وسائل الإعلام والصحف الحصول على ترخيص مزاولة العمل، ضمن نطاق الالتزام بالسياسة الإعلامية التي تحددها وزارة الثقافة والإعلام.
وفي 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، دشن ولي العهد السعودي حملة اعتقالات واسعة لعدد من الأمراء والوزراء وكبار رجال الإعلام والمسؤولين في الدولة، بتهم تتعلق بمكافحة الفساد المالي والإداري.
وأحكم محمد بن سلمان قبضته السلطوية على كافة مراكز القرار الأمني والسياسي، ما خلق أجواء من الخوف لدى معارضيه، بمن فيهم الأمراء في الأسرة الحاكمة الذين تعرض عدد منهم إلى التضييق والاعتقال والإقامة الإجبارية والاستيلاء على جزء من ثرواتهم.
ولا يزال المجتمع الدولي، والولايات المتحدة تحديداً، تنأى بنفسها عن ممارسة ما يكفي من الضغوط على ولي العهد، لتخفيف قبضته الأمنية والإفراج عن المعارضين السياسيين وقادة الرأي ونشطاء المجتمع المدني، لارتباط معظم الدول الفاعلة بمصالح اقتصادية مع الدولة السعودية.
وتدعو المقررة الخاصة للأمم المتحدة، أغنيس كالامار، التي حققت في اغتيال خاشقجي، حكومات دول مجموعة العشرين إلى مقاطعة قمة المجموعة المقررة "افتراضياً" في السعودية، يومي 21 و22 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، برئاسة محمد بن سلمان، على خلفية الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، لكن التوقعات تشير إلى أن الدول المعنية تستجيب للمشاركة في القمة.