تهتم الصحافة الإسرائيلية بأخبار السعودية بصورة لافتة هذه الأيام والسبب بالطبع استعجال التطبيع والبحث في تأخره بعد أن بدا وشيكاً، خصوصاً أن الخلاف بين الملك سلمان ووليّ عهده محمد بن سلمان في ذلك الملف لم يعد خافياً، فما سيناريوهات تحقيق وليّ العهد لحلمه في أسرع وقت ممكن كما يتمنى؟
صحيفة Haaretz الإسرائيلية نشرت تقريراً بعنوان: "رؤوس السعوديين تُحلّق وسط سحاب السلام، وأقدامهم مغروسةٌ في تراب اليمن"، تناول كواليس تأخر قرار تطبيع العلاقات بين المملكة وإسرائيل وأسبابها والسيناريوهات المحتملة.
لا تحبسوا أنفاسكم في انتظار اتفاق تطبيعٍ مع المملكة العربية السعودية. إذ يعزو خبراء العرب والغرب تأخير الاتفاقية إلى خلافٍ بين الملك سلمان ونجله، ولي العهد الأمير محمد، حيال النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي.
تمسك الملك بالمبادرة العربية
ففي خطابٍ نادر ألقاه الأسبوع الجاري، قال سلمان إن السعودية لا تزال ملتزمةً بمبادرة السلام العربية، التي تشرط التطبيع بانسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية. لكن الأمير يرغب في تسريع عملية التطبيع بوصفها جزءاً من رؤيته الاستراتيجية والاقتصادية في المقام الأول.
وسلمان هو ثاني ملوك السعودية الذين خاطبوا الجمعية العامة للأمم المتحدة (بعد الملك سعود عام 1957). إذ أشاد بالمملكة بصفتها مهد الإسلام وخادمة الحرمين الشريفين، وتعهّد بدعم عملية السلام الفلسطيني-الإسرائيلي. لكنّه لم يتطرّق إلى اتفاقيات السلام الإسرائيلية مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين.
فهل كان يُحاول إثبات أنه لا يزال ممسكاً بزمام الأمور في مملكته، وأنّه هو من يضع السياسة الخارجية للبلاد مع كل الاحترام لابنه؟ أم هل هو صراعٌ بين الأجيال، يضع مشروع الابن في مواجهة مواقف والده التقليدية؟
لا شك أن عملية صنع القرار السعودية غامضة، كما هو الحال مع العلاقات بين أفراد العائلة الملكية، واعتبارات السياستين الداخلية والخارجية في المملكة.
فقبل أسابيع قليلة، وبعد وقتٍ قصير من إعلان التطبيع الإماراتي، قال صهر ترامب ومستشاره الخاص جاريد كوشنر إن السعودية ستكون الدولة التالية في مشروع السلام مع إسرائيل، وإن ذلك سيتحقّق قريباً جداً. ومن المفترض أن كوشنر، أقرب المقربين إلى ولي العهد في واشنطن، يعلم ما يُفكّر فيه محمد، ولكن من الواضح أن ولي العهد نفسه لم يتوقّع التأخير.
علاوةً على ذلك، فلم يتضح بعد ما إذا كان التأخير مسألة مبدأ -أي حتى إقامة الدولة الفلسطينية أو استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية على الأقل- كما قال سلمان، أم هو مجرد تأخير مؤقت حتى يتمكن نجله من إقناعه بالأمر.
"صنع السلام" مع واشنطن
والاختلاف في مواقف فردي العائلة المالكة يطرح سؤالاً آخر، حيث وفرت السعودية مظلةً لاتفاقيات السلام الأخيرة. إذ لم تكتفِ بعدم إدانتها، بل أثنت على الإمارات والبحرين لاتّخاذهما الخطوة -التي جاءت بالتنسيق مع ولي العهد- وفتحت مجالها الجوي أمام الرحلات من وإلى إسرائيل.
علاوةً على ذلك، ألقى الشيخ البارز وإمام الحرم المكي عبدالرحمن السديس خطبةً تُشجّع على السياسة الخارجية من خلال الحوار، حتى وإن كان مع اليهود، وبنى حجّته على سياسة النبي محمد تجاه اليهود في شبه الجزيرة العربية.
واعتُبِرَت هذه الخطبة، التي أثارت عاصفةً من الانتقادات على الشبكات الاجتماعية، خطوةً تهدف إلى تهيئة الرأي العام في السعودية والعالم الإسلامي لتحوّلٍ تاريخي في علاقة المملكة بإسرائيل، ومن هنا يظهر التساؤل التالي: هل حدث كل ذلك في تحدٍّ واضح لرغبات الملك سلمان؟
وحل حرب اليمن
وتتضح هنا حاجة الرياض إلى صنع السلام مع واشنطن، سواءً قبل أو بعد توقيع صفقةٍ مع إسرائيل، وموطن النزاع الرئيسي بين البلدين هنا هو الحرب في اليمن، التي بدأت مع تنصيب سلمان ملكاً في عام 2015.
وفي هذه الحرب، تعاملت جيوش السعودية والإمارات بوحشية مع الشعب اليمني، واستخدمت أسلحةً أمريكية لفعل ذلك، ولقي نحو 125 ألف شخصٍ مصرعهم، من بينهم 14 ألفاً قُتلوا في هجماتٍ مُتعمّدة على أهدافٍ مدنية.
ودفعت الضغوط العامة والدولية بسلف ترامب الرئيس باراك أوباما إلى تجميد صفقة الأسلحة مع الرياض عام 2016، في محاولةٍ للضغط على السعوديين من أجل تغيير تكتيكاتهم في اليمن، وبعد عامٍ واحد، ألغى ترامب القرار وفتح الباب على مصراعيه أمام مبيعات الأسلحة للسعوديين.
وفي عام 2018، عادت السعودية من جديد إلى بؤرة نظر مجلس النواب الأمريكي بسبب قتل الصحفي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول. ومنذ ذلك الحين لم يزُر محمد بن سلمان واشنطن، بعد إعلامه بأنه شخصٌ غير مرغوب فيه داخل الكونغرس وأن لا أحد خارج البيت الأبيض سيرغب في لقائه.
وعاودت قضية السعوديين في اليمن الظهور على أجندة واشنطن بسبب تقريرٍ شبه سري عن تورّط الولايات المتحدة في الصراع، من إعداد المفتش العام لوزارة الخارجية. وكشفت الأجزاء غير السرية من التقرير، التي نقلتها وسائل الإعلام الأمريكية، عن حجم جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات السعودية والإماراتية ومرتزقتها، لدرجة أن الولايات المتحدة معرّضة لخطر الملاحقة القضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية.
حكماء الإمارات
بعكس السعودية، أدركت الإمارات مخاطر تورّطها في حرب اليمن وسحبت قواتها، للتغلّب بذلك على حظر بيعها طائرات إف-35 المقاتلة وغيرها من الأسلحة، ومن ثم تغلّبت على العقبة الإسرائيلية بتوقيع اتفاقية سلامٍ معها الشهر الجاري.
ولا يزال محمد بن سلمان، الذي بدأ الحرب في اليمن مع والده، غارقاً في وحل اليمن الذي زاد علاقته بالولايات المتحدة تعقيداً، علاوةً على إخفاقاته الواضحة في إدارة سياسة البلاد الخارجية، مثل: إجبار رئيس الوزراء اللبناني حينها سعد الحريري على الاستقالة، وفرض حصارٍ على قطر، وخوض حربٍ نفطية فاشلة مع روسيا تسبّبت في هبوط أسعار النفط، والتخلّي عن القضية الفلسطينية.
ولم تكُن القضايا الداخلية بأفضل حالاً أيضاً بالنسبة لولي العهد. إذ تتعثّر رؤية 2030 التي وضعها، بينما تُعاني خزانة البلاد من صعوبات في تمويل المشاريع المفعمة بجنون العظمة، مثل مدينة المستقبل التي يُفترض أن تتضمن ثلاث دول (السعودية ومصر والأردن)، وتنويع مصادر دخل المملكة، وتقليل اعتمادها على النفط، وحتى الآن، لا تزال الرؤية مجرد أحلامٍ على ورق.
ولا يسعه الآن سوى أن يحسد صديقه ولي العهد محمد بن زايد، الحاكم الفعلي للإمارات الذي أخرج بلاده من الحرب في اليمن، وصار محبوب واشنطن، لأسبابٍ أخرى تتجاوز اتفاقية السلام مع إسرائيل، وفوق كل ذلك، فهو ليس محاطاً بأقرباء ذوي طباعٍ عدوانية.
لكن محمد بن سلمان -الذي لم يتردّد بحسب أجهزة الاستخبارات الأمريكية في وضع أمه تحت الإقامة الجبرية وإبعادها عن والده خشية أن تعمل ضده- قد يُثبت أنه شخصٌ لا يرى الفضيلة في برّ الوالدين، وربما يستطيع الملك سلمان إلقاء خطابات تدعم الفلسطينيين، ولكن نجله يستطيع بصفته وزيراً للدفاع تنظيم انقلابٍ ضد والده إن رأى أن ذلك سيخدم مصالحه أو أجندته، التي قد تتضمّن السلام مع إسرائيل.