لا شك أن تدشين حزب سياسي سعودي معارض بعد 90 عاماً على تأسيس المملكة يحمل كثيراً من الدلالات، حتى وإن كان الإعلان عنه جاء من المنفى، فالمعارضة من الداخل في عهد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان تعد انتحاراً، بعد أن اتخذ من القمع وسيلة لإسكات أي صوت معارض، فماذا تعني تلك الخطوة بالنسبة لحاضر ومستقبل السعودية؟
تغطية عالمية للحدث الفريد من نوعه
الإعلان عن تأسيس الحزب من جانب عدد من المعارضين يعيشون في المنفى خارج السعودية احتل صدارة التغطية الإعلامية حول العالم، وهو ما لم تحظ به احتفالات المملكة باليوم الوطني الـ90، وذلك في ظل تاريخية الحدث، حتى وإن رآه البعض رمزياً.
فالسعودية أكبر مصدر للنفط في العالم، وحليفة الولايات المتحدة، يحكمها نظام ملكي مطلق بلا برلمان منتخب أو أحزاب سياسية، وكانت محاولات سابقة للانتظام في كيانات سياسية داخل المملكة عامي 2007 و2011 قد قوبلت بالقمع، وألقت السلطات القبض على الأعضاء.
ودعا بيان تأسيس "حزب التجمع الوطني" إلى تشكيل "مجلس نيابي منتخب بالكامل… وأن يتم فصل السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية وفق ضوابط دستورية"، كما تحدث الحزب في البيان عن "انسداد الأفق السياسي"، داعياً إلى التغيير السلمي لمواجهة "انتهاج السلطة المستمر لممارسات العنف والقمع"، بحسب تقرير لوكالة رويترز.
وفي تغطيتها للإعلان عن تأسيس الحزب قالت وكالة الأنباء الفرنسية، إن الحزب يرأسه الناشط الحقوقي البارز يحيى عسيري، المقيم في لندن، ويضم في عضويته الأكاديمية مضاوي الرشيد، والباحث سعيد بن ناصر الغامدي، وعمر عبدالعزيز، المقيم في كندا، وعبدالله العودة (نجل الداعية المحبوس سلمان العودة) والناشط عمر الزهراني.
وقال السكرتير العام للحزب للوكالة الفرنسية: "لقد قمنا بالإعلان عن تأسيس هذا الحزب في لحظة حرجة، في محاولة منا لإنقاذ بلدنا، ولتأسيس مستقبل ديمقراطي واستجابة لتطلعات شعبنا".
وكان عسيري ضابطاً طياراً في سلاح الجو السعودي، وهو مؤسس منظمة حقوقية اسمها "القسط"، مقرها لندن، ترصد وتوثق كثيراً من انتهاكات حقوق الإنسان داخل المملكة، بما فيها اعتقال ناشطات وناشطين وأكاديميين ورجال دين وأمراء من الأسرة المالكة.
وأضاف بيان الإعلان عن تأسيس الحزب أن ذلك يأتي في وقت "وصل فيه العمل السياسي إلى طريق مسدود في جميع الاتجاهات. الحكومة تمارس العنف والقمع بشكل مستمر مع تزايد أعداد المعتقلين والمغتالين، واتباع سياسات عدائية تجاه دول الجوار والإقليم، إضافة إلى الاختفاءات القسرية والأعداد المتزايدة من المواطنين الذين يفرون من المملكة نجاةً بحياتهم".
من جانبها، قالت مضاوي الرشيد، المتحدثة باسم الحزب، أن المؤسسين لا يحملون "عداوة شخصية للأسرة المالكة"، لكن في ظل غياب قضاء مستقل، وسيطرة الحكومة المطلقة على وسائل الإعلام المحلية، وتكميم أفواه الرأي العام، أصبح من الحتمي التحرك لتأسيس حزب سياسي معارض.
ربما لا يؤثر فوراً.. ولكن
ولم يصدر أي تعليق رسمي من جانب مكتب الاتصال الحكومي في السعودية على طلبات وكالات الأنباء العالمية للتعقيب على الإعلان عن تأسيس الحزب، بينما قالت مضاوي الرشيد لرويترز إن "التوقيت مهم جداً… مناخ القمع يتزايد"، مضيفة أن الحزب سيعمل مع المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان دون أن يدعو إلى احتجاجات في المملكة.
وربما لا يمثل الإعلان عن تأسيس الحزب ضرراً بالغاً على سلطة الحاكم الفعلي للمملكة محمد بن سلمان، لكنه بالقطع يمثل تحدياً جديداً له في توقيت صعب، من حيث تراجع أسعار النفط وتداعيات وباء كورونا الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى استعدادات المملكة لاستضافة قمة مجموعة العشرين، في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وتزامن إعلان الحزب مع ضغوط من جانب منظمات حقوقية دولية على قادة وزعماء الدول المشاركة في القمة لمقاطعتها، بسبب سِجل ولي العهد السعودي السيئ في قمع معارضيه واعتقالهم وقتلهم أيضاً، وهو ما يشير إلى أن مجرد الإعلان عن الحزب السياسي المعارض في هذا التوقيت يمثل تحدياً آخر على ولي العهد مواجهته.
ليست المرة الأولى، لكن الأمر مختلف
من المهم هنا أن نذكر أن محاولة تأسيس حزب سياسي في السعودية قد حدثت بالفعل عام 2011، عندما أراد معارضون تأسيس حزب سياسي تزامناً مع ثورات الربيع العربي، وتوجهوا بطلب إلى الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، لكنها مختلفة عما تم الإعلان عنه أمس الأربعاء، حيث أرادوا وقتها التعبير عن احتجاجهم على الأوضاع الصعبة في المملكة، في ظل تحكم آل سعود في مقدرات وثروات البلاد بشكل مطلق.
وشهدت المملكة وقتها بالفعل خروج بعض المظاهرات الشعبية بصفة خاصة في المناطق التي تسكنها أغلبية شيعية، لكن السلطات واجهتها بالقمع والاعتقالات، واتخذ الملك عبدالله وقتها قرارات برفع رواتب العاملين في المملكة، وزيادة الإنفاق على الخدمات العامة، وغيرها من الإجراءات التي نجحت إلى حد كبير في استعادة الهدوء بسرعة والسيطرة على الأمور قبل تفاقمها.
أما الآن فالأوضاع مختلفة تماماً في السعودية عما كانت عليه قبل عقد من الزمان، سواء سياسياً أو اقتصادياً، فمع جلوس الملك سلمان على العرش وتولي نجله محمد مقاليد السلطة فعلياً، شهدت المملكة تحولات ضخمة من حيث السماح للمرأة بقيادة السيارة، أو إلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى انفتاح المملكة المحافِظة على مظاهر الترفيه التي كانت محرّمة تماماً داخلهاً، وهو ما أكسبه شعبية لدى الأجيال الشابة في المملكة، بحسب المدافعين عنه.
لكن الصعود الصاروخي لولي العهد وأساليبه في التعامل مع معارضيه أو منتقديه في الداخل أو حتى في الخارج جعلت منه شخصية سيئة السمعة على المستوى الدولي، خصوصاً بعد جريمة اغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي وتقطيع جثته التي لم يعثر على بقاياها حتى اليوم، ثم جاءت القضية التي رفعها مسؤول المخابرات السابق سعد الجبري في واشنطن، لتكشف عن المزيد من أساليب ولي العهد في التنكيل بمعارضيه اعتقالاً أو خطفاً أو ترهيباً أو قتلاً وتقطيعاً.
تحدٍّ غير مسبوق لولي العهد
وفي هذا السياق، يرى بعض المراقبين أن إعلان مجموعة من المعارضين عن تأسيس حزب سياسي في ظل وجود رجل بدموية ولي العهد في التعامل مع معارضيه، يعتبر في حد ذاته مؤشراً على أنه حتى في حالة نجاحه في الجلوس على العرش خلفاً لوالده المسن والمريض لن تكون الأمور مستقرة له كما يتمنى.
ففي بداية ظهوره على الساحة كوزير للدفاع مطلع 2015، نال الأمير الشاب إشادة داخل السعودية وخارجها، بفضل إصلاحاته الجريئة لإخراج المجتمع السعودي من شرنقة الانغلاق، وتنويع الاقتصاد، لكن حرب اليمن ومقتل خاشقجي داخل قنصلية المملكة في إسطنبول عام 2018 غيَّرا تماماً تلك الصورة.
كما أن تزامن الإصلاحات التي أجراها ولي العهد مع اعتقال رجال دين ونشطاء ومفكرين وحملة تطهير سرية لشخصيات في الأسرة الحاكمة وشخصيات سعودية بارزة بسبب اتهامات بالفساد، إلى جانب تنحية منافسين على العرش جانباً، جعل أغلب المراقبين يغيرون رأيهم المبدئي الذي كان متحمساً له.
وفي هذا السياق، يأتي الإعلان ولو من المنفى عن تأسيس حزب "التجمع الوطني" السعودي كنقطة هامة سيكون لها تأثير على حاضر المملكة ومستقبلها، خصوصاً مع تبخر وعود ولي العهد بالرخاء، واتخاذه إجراءات تقشفية لم يعتدها السعوديون من قبل.