كان الرجل الذي يسحب آخر أنفاس سيجارته وسط الحر الشديد أمام متجره الصغير في فوليسوس، القرية الواقعة على جزيرة خيوس اليونانية، واضحاً وضوح الشمس: لا تسوق بدون أقنعة. وعلى الشاطئ لم يكُن النُّدُل بحاجةٍ إلى دعوةٍ لتغطية وجوههم، رغم أنّهم كانوا يرتدون دروع الوجه الواقية على مضض قبلها بيومٍ واحد أثناء تقديم الطعام والشراب لمُكتسبي السُّمرة قبالة مياه بحر إيجة.
لكن شيئاً ما قد حدث في أحد أيام الشهر الماضي، وجعل الجميع أكثر صرامةً بشأن مسألة ارتداء الأقنعة، إذ أُصيب شخصٌ ما على الجزيرة، وكان الجميع يعلم أنّه يعيش في هذه القرية.
تقول ماتينا جريدنيف، مراسلة صحيفة New York Times الأمريكية: كُنت أعلم أنّ الفرار من بروكسل، محل إقامتي الحالي، لزيارة والداي في اليونان سيكون أمراً مختلفاً، وهذا هو المطلوب، وكان الأمر يستحق عناء الرحلة، إذ قضينا ساعات طويلة في كسل على الشواطئ، وقطفنا التين الحلو من الأشجار مباشرةً، وتناولنا السمك الطازج مع الطماطم الحمراء، واستمتعنا برعاية الأجداد للأطفال، ومع ذلك واجهنا الصدمة النفسية للتكيّف مع حياة الجائحة داخل مكانٍ صغيرٍ ومعزول.
إذ إنّ خيوس، بسكانها البالغ عددهم 50 ألفاً وشهرتها بدورها الرائد في صناعة السفن الضخمة باليونان، كانت تستضيف عالماً آخر من كورونا يختلف تماماً عن بروكسل، المقر الرئيسي للاتحاد الأوروبي، وعاصمة بلجيكا التي يقطنها نحو 1.2 مليون نسمة، إذ سجّلت بلجيكا واحدةً من أسوأ أرقام فيروس كورونا حول العالم، مع نحو 100 ألف حالة إصابة و9930 حالة وفاة حتى تاريخه بين سكانها الذين يصل عددهم إلى 11.5 مليون نسمة.
وتتمتّع اليونان بتعداد سكانٍ أصغر بعض الشيء، بنحو 10.4 مليون نسمة، ولكنّها أقل كثافةً سكانية لأنّ الكثير من سكانها يعيشون على جزرٍ مثل خيوس، معزولين طبيعياً، أو مُحاصرين وفقاً لوجهة نظر المرء، فضلاً عن أنّ اليونان بعيدةٌ للغاية عن أخبار الفيروس السيئة مقارنةً ببلجيكا، إذ سجّلت 14 ألف حالة إصابة و316 حالة وفاة فقط.
الخوف من الغرباء
وخيوس نفسها لم تُسجّل سوى 30 حالة مُؤكّدة منذ تفشّي الجائحة، دون أيّ وفيات، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الحياة هنا أكثر سهولة، إذ أدركت أنّ الخوف من العدوى في خيوس كان يرتكز على "الغرباء"، وهو الأمر الذي لم أُصادفه فعلياً في بروكسل، حيث كانت العدوى مجهولةً بقدر سكان المدينة، ووسط مجتمعٍ أكثر عزلةً وخلواً من الإصابات فلا شكّ في أنّ العدوى ستصل من الخارج فقط.
وكانت خيوس في السابق محطةً محورية على طريق الهجرة من تركيا إلى اليونان، لكن عدد اللاجئين الواصلين بات قليلاً، ويرجع ذلك جزئياً إلى سياسات الحدود الحكومية الأكثر صرامة، لذا تحوّل الانتباه إلى قلةٍ من السياح والمهاجرين مثلي، الذين عادوا لزيارة عائلاتهم، والسكان المحليين الذين عادوا بعد قضاء العطلة في أماكن أخرى من البلاد، تحوي عدداً أكبر من المصابين.
الكل يعلم من هم المصابون
وكان هناك تناقضٌ صارخ بين البيئة الحضرية التي لا يعرفك فيها أحد والمجتمع الصغير الذي يعرفك فيه الجميع، لذا حين أعلنت الحكومة اليونانية في أحد أيام شهر أغسطس/آب، أنّ الإحصائيات الرسمية للحالات الإيجابية تضمّنت ثلاثة أشخاصٍ على جزيرة خيوس، خامس أكبر جزر البلاد التي لا تُعَدُّ وجهةً سياحيةً كبرى؛ بدا صوت الثرثرة في المجتمع المحلي أعلى من أزيز حشرة الزيزيات التي تملأ الهواء في الصيف اليوناني الحار.
وكان السؤال الذي يدور على شفاه الغالبية سؤالٌ لن تسمعه مُطلقاً في مدينةٍ كبيرة: من هو المريض؟ وأخبرني الرجل في المتجر الصغير بكل ثقة: "إنّه ذلك الشاب الذي يبلغ من العمر 20 عاماً، فقد ذهب في عطلةٍ إلى جزيرة زاكينثوس"، وهي جزيرةٌ يونانية على الجانب الآخر من البلاد، وتشتهر في أوساط السياح البريطانيين.
والأدهى من معرفة صاحب المتجر الوثيقة بتفاصيل حياة الرجل، هو أنّ كلامه قد ثبتت صحته لاحقاً، إذ أكّدت السلطات رواية صاحب المتجر بشكلٍ غير رسمي، حفاظاً على شيءٍ من الاحترام للخصوصية.
وانتشرت شائعةٌ أخرى بأنّ الحالة الثانية كانت لامرأةٍ في البلدة الرئيسية بالجزيرة، وتعمل والدتها داخل متجر مستحضرات تجميل شهير، وهنا تكمُن المشكلة وفقاً للثرثرة، لأنّ كافة أفراد عائلتها يتعاملون مع العشرات يومياً: فشقيقها يعمل نادلاً في حانةٍ، بينما يعمل والدها في مصلحةٍ حكومية.
ومع انتشار النميمة سريعاً عرفت أنا وجميع من على الجزيرة اسمها بعد 24 ساعةً فقط، واضطر المتجر الذي تعمل به والدتها إلى الإعلان أنّه أجرى عملية تطهير شاملة للتلوّث، ودعا الناس إلى التوقّف عن القيل والقال.
وكتب مُدير المتجر في منشورٍ عام على فيسبوك: "الاعتناء بصحتنا هي مسؤوليةٌ تقع على عاتق الجميع، ويجب أن يتوقّف الناس عن تضخيم المعلومات التي قد تضُر بسبل عيش الآخرين".
مهمة تعقب المصابين أكثر سهولة
ورغم أنّ النميمة وفقدان الخصوصية هي أمورٌ تُضايق سكان الجزيرة، فإن مساحتها الصغيرة وروابطها الاجتماعية والأسرية الوثيقة جعلت من تلك الأمور ضرورةً أساسية في الحد من العدوى بشكلٍ أسهل، عن طريق تتبُّع الاتصال بين المصابين وغير المصابين.
وفي حين أنشأت بعض البلدان مراكز اتصال مجهولة ونائية يُديرها مئات الطلاب والعاملين بدوامٍ جزئي، للاضطلاع بمهمة التعقُّب الشاقة؛ لا تحتاج خيوس إلّا خمسة ضباط شرطة فقط للقيام بهذه المهمة على وجه السرعة. إذ قال بانتيليس كالاندروبولوس، الذي يعمل رئيساً لشرطة المرور على الجزيرة -لكنّه يشغل الآن أيضاً منصب رئيس تتبُّع الاتصال بالفيروس- إنّ تعقُّب كل حالة بالكامل يستغرق ثلاث ساعاتٍ فقط.
ورغم أنّ المساحات المشتركة تُعَدُّ من معاقل انتشار المرض والنميمة على حدٍّ سواء، فإن صالون تجميل Louiza & Kelly وضع سياسةً تمنع النميمة بشأن فيروس كورونا، إلى جانب معايير النظافة الإضافية والإلزام بارتداء الأقنعة.
وبعد ظهر أحد الأيام داخل الصالون، وأثناء حصول السيدات المقنعات على قصات شعر وجلسات كيّ، كان الحديث عن الجائحة شبه غائب بالكامل. فمنذ أعاد الصالون فتح أبوابه أواخر مايو/أيار، طلبت كيلي باترا من موظفيها تجنّب الحديث عن الجائحة، وتغيير الموضوع في حال سؤالهم عن الحالات المحتملة، وتشجيع الزبائن على البحث في مصادر المعلومات الرسمية. وكتبت لهم في رسالةٍ جماعية قبل إعادة الافتتاح مباشرةً: "حاولوا أن تكونوا إيجابيين بشأن الأمور".
ثم قالت في مقابلةٍ أجرتها: "من الخطير للغاية النميمة بشأن أمرٍ كهذا، لأنّ الناس يُصابون بالوصمة الاجتماعية، وهذا يُثير الذعر، وربما يبدأ الناس في السؤال عن المدارس التي يذهب إليها أطفال المصابين، وأين يعمل أزواجهم مثلاً. وعلى المستوى الشخصي لا أرغب في أن يكون صالوني مسرحاً يُساعد في انتشار الذعر بهذه الطريقة".