هاجمت السلطة الفلسطينية مراراً، ومن خلفها القوى السياسية الفلسطينية الأخرى، اتفاقات التطبيع الخليجية مع إسرائيل أو التقارب معها على حساب القضية الفلسطينية، فبعد أن وقّع الثلاثاء 15 سبتمبر/أيلول 2020، اتفاق تطبيع ثلاثي بين الإمارات والبحرين من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بواشنطن، أكد الرئاسة الفلسطينية أنها لم ولن تفوض أحداً بالحديث باسم الشعب الفلسطيني، مشددة على أن هذا الاتفاق "لن يحقق السلام في المنطقة".
تصريحات الرئاسة الفلسطينية جاءت رداً على ما اعتبره وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد، ونظيره البحريني عبداللطيف الزياني، أن تطبيع بلادهما مع إسرائيل فرصة لـ"استقرار المنطقة"، وأن "هذه المعاهدة ستمكننا من الوقوف أكثر إلى جانب الشعب الفلسطيني وتحقيق أمله في تحقيق دولة مستقلة ضمن منطقة مستقرة ومزدهرة"، على حد تعبيرهما.
ومع تأزم العلاقة بين الفلسطينيين وبعض الحكومات الخليجية على خلفية اتفاقات التطبيع التي أكد ترامب أنها لن تتوقف عند هذا الحد، تطرح تساؤلات حول مستقبل الدعم الخليجي للقضية الفلسطينية، وهل يكون مصير المساعدات الخليجية للسلطة الفلسطينية التوقف التام، بعد توتر العلاقة وسحب الأخيرة لسفرائها من الدول المطبّعة مع إسرائيل؟
"الإمارات تقاطع السلطة منذ 10 سنوات"
أمين سر اللجنة المركزية لحركة "فتح" جبريل الرجوب، كشف عن أن دولة الإمارات تقاطع فلسطين منذ 2010، وأنها منذ ذلك الحين، لم تدع سفير فلسطين بأبوظبي لأي مناسبة رسمية. وقال الرجوب، لتلفزيون فلسطين الرسمي، الثلاثاء: "منذ 2010 سفيرنا في الإمارات لم يتعامل (الإماراتيون) معه، وفي أعيادهم الوطنية كانوا يبعثون دعوة يقولون فيها: يدعى كافة السفراء ما عدا سفير فلسطين"، حسب وصفه. وبحسب الرجوب، فإن الدول العربية "أوقفت مساعداتها والاستحقاقات التي (كانت) تدفعها بموجب قرارات القمم العربية (السابقة)".
وأشار إلى أن مستشار الرئيس الأمريكي وصهره جاريد كوشنر نفذ في آخر عامين جولة على العرب وطلب منهم وقف مساعدة الشعب الفلسطيني، "كمقدمة لكسر إرادتهم وقبولهم بحل تصفوي لقضيتهم كقضية سياسية واختزالها في قضايا معيشية". وقال الرجوب: "لن نسمح له (وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد) ولغيره بعد اليوم أن يستخدم الورقة الفلسطينية لتغطية خيانتهم وتواطؤهم".
من جهته، قال أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات، الثلاثاء، إن "ما جرى في البيت الأبيض مخطط له منذ عام 2011". وأضاف عريقات، لتلفزيون فلسطين: "منذ 2011 لا تتحدثون معنا (في إشارة للدول الخليجية المطبعة)، ومخطط للوصول لهذه اللحظة، مقاطعة الشعب الفلسطيني حتى تصلوا للحظة التوقيع".
ما هو وضع المساعدات العربية والخليجية للسلطة الفلسطينية؟
منذ نشأة السلطة قبل 26 عاماً وهي تعتمد على المساعدات والمنحِ العربية والدولية، كالتزام وتلقّت حتى يومنا هذا 18 مليار دولار منحاً وقروضاً ومساعدات، لكن خلال الفترة الأخيرة انخفضت هذه المساعدات لأكثر من النصف، بعد المرور بعدد من المراحل والتغيرات خلال العقدين الماضين، نسردها في الفقرات التالية. وأتى ذلك بعد 10 أعوام من إقرار الالتزام العربي في البيان الختامي لاجتماع جامعة الدول العربية بدعم الموازنة الفلسطينية في القمة العربية المنعقدة بدولة الكويت عام 2010 بتفعيل شبكة أمان مالية بمبلغ 100 مليون دولار أمريكي شهرياً، لمواجهة الضغوط السياسية والمالية التي تتعرض لها القضية.
إلا أن الموقف العربي تغيّر ولم تعد الدول العربية تفي بالتزاماتها نحو السلطة الفلسطينية كما سبق، ما دفع السلطة إلى أن تنتقد موقف الدول العربية وتتهمها بالتقصير. فقد شن قبل نحو شهرين، وزير الشؤون الاجتماعية الفلسطيني، أحمد مجدلاني، هجوماً على الدول العربية بسبب رفض الاستجابة لطلب السلطة الفلسطينية بتفعيل شبكة الأمان المالية، ووصف موقف الدول العربية بأنه اتساق خطير مع الضغوط الإسرائيلية والأمريكية التي تمارس على السلطة لإجبارها على القبول بصفقة القرن.
وتزامن هجوم السلطة الفلسطينية آنذاك على التقصير العربي، مع ما كشفته صحيفة "إسرائيل اليوم" المقربة من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأن بعض الدول العربية على رأسها السعودية والإمارات أعطوا موافقة ضمنية للمسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين بتطبيق خطة الضم على أجزاء من الضفة الغربية، وهو ما اعتبرته السلطة تنصلاً واضحاً من الدول العربية تجاه الفلسطينيين، وتركهم وحدهم في هذه المواجهة.
وكانت السعودية قد أوقفت تمويلها للسلطة خلال عام 2016 ولمدة 9 أشهر بعد خلافات بينها وبين محمود عباس لرغبتها في عودة القيادي المفصول محمد دحلان إلى حركة فتح، وهو ما رفضته السلطة الفلسطينية، وتكررت الضغوط مرة أخرى عام 2018 حينما أوقفت السعودية تمويلها للموازنة الفلسطينية لمدة 3 أشهر بعد أن رفضت السلطة الفلسطينية طلب السعودية القبول بالرؤية الأمريكية للسلام.
وإجمالاً تتصدر السعودية قائمة الدول العربية كأكثر المانحين للسلطة الفلسطينية منذ تأسيسها في عام 1993 حتى عام 2019، بقيمة 3.2 مليار دولار، تليها الإمارات بقيمة 937 مليون دولار، والجزائر بقيمة 800 مليون دولار، والكويت 485 مليون دولار، وقطر 225 مليون دولار، والعراق 108 ملايين دولار.
ويقول المحلل الاقتصادي محمد خبيصة لـ"عربي بوست" إن "ما وصل السلطة من الدول العربية في إطار دعم الموازنة منذ بداية عام 2020 هو 30 مليون دولار من السعودية، و6 ملايين دولار من قطر، حيث تتصدر السعودية قائمة الدول العربية بدعم موازنة السلطة خلال السنوات الخمس الأخيرة بمتوسط 65 مليون دولار سنوياً، تليها الجزائر 27 مليون دولار وقطر بـ20 مليون دولار ومصر بـ1.5 مليون دولار"، مشيراً إلى أن "نفقات السلطة الشهرية تقدر بـ1.2 مليار شيكل (350 مليون دولار)، وفي ظل تبعات أزمة كورونا، وما خلفته من خسائر اقتصادية أثرت على تحصيل الإيرادات الداخلية فإن تفعيل الدول العربية لشبكة الأمان قد لا يكون كافياً أمام السلطة للإيفاء بمتطلباتها، وسيظل عجز الموازنة متجاوزاً لقيمة 600 مليون شيكل شهرياً (170 مليون دولار)".
"دول الخليج ضاقت ذرعاً بالسلطة الفلسطينية"
في السياق، يقول يويل غوزانسكي الباحث الإسرائيلي في معهد دراسات الأمن القومي (INSS) بجامعة تل أبيب، إن كلاً من السعودية والإمارات والبحرين وغيرها من الدول في المنطقة، لطالما شعروا بــ"خيبة أمل في القيادة الفلسطينية خلال السنوات القليلة الماضية".
وبحسب غوزانسكي الذي نشر مقالته في معهد واشنطن للدراسات مؤخراً، فإن السخط في أوساط الخليجيين بات يتنامى مؤخراً بسبب ما يصفونه "عدم وقوع استجابة" فلسطينية لدعواتهم إلى مرونة أكبر في المفاوضات مع إسرائيل منذ توقيع "اتفاقات أوسلو" عام 1993، مضيفاً: "تعكس صفقة التطبيع الجديدة بين الإمارات وإسرائيل بشكل صارخ هذه التحولات في المواقف الآن".
ويضيف الباحث الإسرائيلي أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان اتهم عند لقائه قادة المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة عام 2018، بشكل علني القيادة الفلسطينية بـ"بتفويتها فرصة" إبرام سلام مع إسرائيل. وكان ولي العهد قد استقبل أيضًا الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال تشرين الثاني/نوفمبر 2017 قبل إطلاق خطة ترامب للسلام. وفي اللقاء، مارس من دون شك ضغوطًا غير دبلوماسية على عباس – بما في ذلك تهديدات صريحةً حسبما تردد – من أجل القبول بالخطة، رغم أن مساعيه باءت بالفشل.
فضلًا عن ذلك، وفي حين تلتزم دول مجلس التعاون الخليجي معاً وإلى حدّ ما بالقضية الفلسطينية، غالباً من خلال مساعدة مالية كبيرة، فإن المصالح المتباينة لهذه الدول تدفع بعمليات المساعدة التي تقدّمها في اتجاهات مختلفة.
ربما كان الانقسام بين الإمارات والسلطة الفلسطينية هو الأكثر وضوحاً، حتى قبل اتفاق التطبيع المعلن وإقالة أبومازن للمبعوث الفلسطيني في الإمارات. في الموازاة، كانت الإمارات تهيئ لسنوات محمد دحلان، أحد منافسي رئيس "السلطة الفلسطينية" محمود عباس، ويُظهر الدعم المقدم إلى دحلان ضمنياً عدم رضا الإمارات عن مساعدة قطر لحركة "حماس" كي تملأ الفراغ الذي خلفته السعودية وسياسات عباس على حدّ سواء، ولا سيما عدم استعداده لتحضير الساحة الفلسطينية "لما بعد" رحيله عنها. غير أنه من خلال قيامها بذلك، خسرت الإمارات الكثير من نفوذها في الساحة الفلسطينية، داعمةً دحلان كمنافس لكل من "فتح" في الضفة الغربية و"حماس" في غزة.
تحديات كبرى تواجه السلطة الفلسطينية
ويرافق هذا الاستياء من القيادة الفلسطينية بعيداً عن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، اهتماماً كبيراً في الخليج بفتح أسواق جديدة وتوسعة نفوذ الدول الخليجية والتمتع بشرعية أوسع نطاقاً من خلال الاستفادة من ثرواتها الطائلة. فبالنسبة للسعودية والإمارات، تُعتبر إسرائيل إحدى الوسائل لتعزيز هذا النفوذ الدولي.
وتسلّط هذه الديناميكية الضوء على واقع مهم للصراع: تحتفظ القيادة الفلسطينية بمفتاح شرعنة التطبيع مع إسرائيل الذي ترغب به دول الخليج العربي. وبالتالي، تعتبر القيادة الفلسطينية أي خطوة باتجاه التطبيع بمثابة خيانة واعتداء على القضية الفلسطينية. وهي تُضعف موقف الفلسطينيين وتعزّز اختلال ميزان القوى الذي يميل أساسًا لصالح إسرائيل.
في النهاية، من المرجح أن يواجه الفلسطينيون الآن أحد أكبر التحديات منذ نشأة السلطة الفلسطينية قبل 27 عاماً، حيث يتوجب عليهم البحث عن سبل جديدة للدعم بعد انقطاع الدعم الخليجي، وكذلك منع المزيد من التآكل في موقف العالم العربي تجاه القضية الفلسطينية، وخاصة في كيفية إقناع القادة العرب الآخرين، وخاصة دول الخليج الأخرى، بعدم اتباع خطوات الإمارات وتطبيع العلاقات مع إسرائيل.