قوارب خشبية محطمة تحمل هياكل عظمية يجرفها التيار على طول ساحل اليابان.. دراسات وأبحاث كشفت قصة مثيرة تبدأ بسفن صيد الحبار لكنها لا تنتهي هناك، والهياكل العظمية لصيادين من كوريا الشمالية أما السفن فهي صينية، فما القصة؟
نشرت هيئة الإذاعة البريطانية BBC تقريراً بعنوان: "منشأ قوارب الأشباح الكورية الشمالية"، تناول قصة سفن الصيد الصينية التي تستحوذ على أكثر من 50% من الحبار عالمياً، لكنّ للقصة أبعاداً عسكرية أيضاً.
قوارب الأشباح والتفسير المنطقي
لم يعرف أحد، لسنوات، السبب وراء انجراف العشرات من "قوارب الأشباح" الخشبية المحطمة -التي غالباً ما تكون مصحوبة بجثث صيادين كوريين شماليين تحولت أجسادهم الجائعة إلى هياكل عظمية- إلى الشاطئ على طول ساحل اليابان بين الحين والآخر.
كشف تحقيق أجرته مؤخراً شبكة NBC News، استناداً إلى بيانات الأقمار الصناعية الجديدة، أن ما يقوله الباحثون في المجال البحري الآن هو التفسير الأكثر ترجيحاً: وهو أن الصين اعتادت إرسال أساطيل غير مرئية من القوارب الصناعية للصيد بشكل غير قانوني في مياه كوريا الشمالية، ما كان يجبر قوارب كوريا الشمالية الأصغر حجماً على الابتعاد، وأدى إلى انخفاض مخزونات سمك الحبار التي كانت وفيرة في السابق بأكثر من 70%، وكان الصيادون الكوريون الشماليون الذين انجرفت جثثهم إلى ساحل اليابان يغامرون على ما يبدو بالتعمق في المياه في بحث يائس عن أسماك الحبار إلا أنهم لقوا حتفهم.
ويبدو أن السفن الصينية -أكثر من 700 منها العام الماضي- تنتهك عقوبات الأمم المتحدة التي تحظر الصيد الأجنبي في مياه كوريا الشمالية، وهذه العقوبات، التي فُرضت عام 2017 بسبب التجارب النووية التي تجريها البلاد، تهدف إلى معاقبة كوريا الشمالية بعدم السماح لها ببيع حقوق الصيد في مياهها مقابل عملات أجنبية ثمينة.
المتحكم الأوحد في إمدادات الحبار
غير أن هذه الاكتشافات الجديدة تلقي الضوء على التساهل في تنظيم إدارة محيطات العالم وتثير أسئلة شائكة حول عواقب دور الصين التوسعي في البحر وعلاقته بالتطلعات الجيوسياسية للبلاد.
وتعد الصين من أكبر الدول المهيمنة على صيد أسماك الحبار، حيث يمثل أسطول البلاد بين 50 و70% من صيد أسماك الحبار في المياه الدولية، ما يجعلها فعلياً المتحكمة في الإمدادات العالمية من المأكولات البحرية الشعبية. ويُصدَّر ما لا يقل عن نصف أسماك الحبار التي يصطادها الصيادون الصينيون من أعالي البحار إلى أوروبا وشمال آسيا والولايات المتحدة.
وعادة ما يستخدم الصيادون الصينيون شباك الجر الممتدة بين سفينتين لصيد أسماك الحبار، وهي ممارسة ينتقدها دعاة الحفاظ على البيئة لأنها تؤدي إلى قتل الكثير من الأسماك عن غير قصد وإهدارها، ويتهم منتقدون الصين أيضاً بقصر أسماك الحبار عالية الجودة على الاستهلاك المحلي وتصدير المنتجات منخفضة الجودة بأسعار أعلى، ويقول منتقدون إن السفن الصينية، فضلاً عن ذلك، تطغى على سفن الدول الأخرى في مناطق تكاثر الحبار الرئيسية وهي في وضع يمكنها من التأثير على المفاوضات الدولية حول الحفاظ على موارد أسماك الحبار العالمية وتوزيعها لمصالحها الخاصة.
ليس مجرد أسطول صيد مدني
ولم يتحول أسطول الصيد الصيني العالمي إلى كيان عملاق حديث من تلقاء نفسه، فمنذ أكثر من عقد من الزمان، تساهم الحكومة الصينية في دفع تكاليف بناء سفن صيد أكبر وأحدث ذات هيكل صلب، بل وترسل سفن طبية إلى مناطق الصيد لتمكين الأسطول من البقاء في البحر لفترة أطول، وتدعم الحكومة الصينية أسطول سمك الحبار على وجه الخصوص من خلال تزويده بالمعلومات حول أماكن العثور على مخزون أسماك الحبار الأكثر ربحاً، باستخدام البيانات المستقاة من الأقمار الصناعية وسفن الأبحاث.
وقد حاولت الصين توسيع نطاق وصولها البحري من خلال المزيد من الوسائل التقليدية أيضاً، إذ تعمل الحكومة على توسيع قوتها البحرية، وترسل أيضاً ما لا يقل عن 12 سفينة بحثية متقدمة للتنقيب عن المعادن والنفط والموارد الطبيعية الأخرى.
لكن المحللين العسكريين الغربيين يصورون أسطول الصيد الصيني أيضاً على أنه طليعة "ميليشيا مدنية" تؤدي دور "قوة غير رسمية وغير مهنية لا تتمتع بالتدريب المناسب وخارج أطر القانون البحري الدولي، أو قواعد الاشتباك العسكرية، أو الآليات متعددة الأطراف التي أنشئت لمنع الحوادث غير الآمنة في البحر"، مثلما كتب غريغ بولينغ، مدير مبادرة الشفافية البحرية الآسيوية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية مؤخراً في مجلة Foreign Policy.
الاستعداد لساعة الحسم
وأسطول الصيد الصيني حاضر بقوة في بحر الصين الجنوبي على وجه الخصوص، الذي يعد من أكثر المناطق المتنازع عليها في العالم، حيث تتنافس عليه الصين وفيتنام والفلبين وماليزيا وبروناي وتايوان وإندونيسيا بدوافع تاريخية وإقليمية وحتى أخلاقية، وبصرف النظر عن حقوق الصيد، تنبع المصالح في هذه المياه من عوامل معقدة من الفخر الوطني ورواسب النفط والغاز المربحة تحت سطح البحر، والرغبة السياسية في السيطرة على منطقة يمر من خلالها ثلث التجارة البحرية العالمية.
وعادة ما تدفع بكين، في تبرير حقوقها في المنطقة، بما يسمى "خط النقاط التسع"، الذي يستند إلى خرائط مناطق الصيد التاريخية التي تشير إلى خط مكون من تسع نقاط يضم الجزء الأكبر من بحر الصين الجنوبي على أنه تابع للصين، غير أن معظم الباحثين القانونيين والمؤرخين يقولون إن حجة خط النقاط التسع لا أساس لها في القانون الدولي، وقد ثبت أنها غير صالحة في حكم محكمة دولية عام 2016.
والاشتباكات حول مناطق الصيد التي يشارك فيها الصينيون لا تقتصر على بحر الصين الجنوبي، إذ يوجد خلاف بين اليابان والصين حول جزر سينكاكو، المعروفة بالصينية باسم جزر دياويو أو جزر "الصيد"، وفي مكان آخر، أطلقت سفينة تابعة لخفر السواحل الأرجنتيني طلقة تحذيرية لوقف هروب سفينة صينية إلى المياه الدولية في مارس/آذار عام 2016. وعندما ردت السفينة الصينية، Lu Yan Yuan Yu، بمحاولة الاصطدام بالسفينة الأرجنتينية، قلبت سفينة خفر السواحل سفينة الصيد، وقد لاذ بعض أفراد الطاقم الصينيين بالفرار بالسباحة إلى سفن صينية أخرى، بينما أنقذ خفر السواحل الآخرين.
من مياه كوريا الشمالية إلى المكسيك وإندونيسيا، تزداد توغلات سفن الصيد الصينية في أعدادها وتصبح أكثر وقاحة وعدوانية، ولا يتطلب الأمر خيالاً واسعاً لتصور كيف لصدام مدني أن يتصاعد بسرعة ليتحول إلى صراع عسكري أكبر، وتثير مثل هذه المواجهات أيضاً مخاوف إنسانية من أن يصبح الصيادون أضراراً جانبية، وقضايا بيئية حول سياسات الحكومة التي تسرع من نضوب المحيطات، لكن الأهم من ذلك أن مدى طموحات الصين وتداعياتها في البحر يسلط الضوء من جديد على أن السعر الحقيقي للأسماك نادراً ما يظهر في قائمة الطعام.