بالقرب من نهاية العام الماضي، أرسل واحد من المسؤولين التنفيذيين المخضرمين بفيسبوك رسالة صادمة للموظفين: فيسبوك كان سبب وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
في مذكرة كتبها نائب رئيس فيسبوك، أندرو بوزوورث، وشاركها مع الشبكة الداخلية للشركة، حيا مساعد مارك زوكربيرغ الموثوق به موقع فيسبوك باعتباره مفتاح نجاح ترامب في 2016. وقال بوزوورث: "لقد انتخبنا زوكربيرغ لأنه أدار أفضل حملة إعلانات رقمية رأيتها من أي جهة إعلانية. بكل تأكيد".
كانت التعليقات تذكرة صادمة بالقوة التي تمتعت بها شركة فيسبوك على الحوار السياسي في الولايات المتحدة، والضغوط التي تواجهها في الأسابيع الأخيرة المؤدية إلى الانتخابات الرئاسية الساخنة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، حسبما ورد في تقرير لموقع Business Insider الأمريكي.
فيسبوك كان سبب وصول ترامب إلى البيت الأبيض.. كيف تحول من موقع للتعارف إلى آلة دعاية يمينية؟
في الأشهر الأخيرة، خرجت منشورات وصفحات تحمل معلومات مضللة عن التصويت بالبريد، وادعاءات مهيجة ضد السياسيين، ومنشورات تروج للميليشيات اليمينية المسلحة والرموز النازية، وحققت انتشاراً واسعاً في الشبكة الاجتماعية، وفي بعض الأحيان جمعت ملايين المشاهدات.
وأي شخص زار الموقع في أعوامه الأولى الأكثر براءةً ربما تصدمه النبرة الجديدة لفيسبوك ومستخدميه.
في أغلب فترة وجود الموقع، البالغة 16 عاماً، اشتهر الموقع بقدرته على أن يعرفك بأصدقائك القدامى في المدرسة، وأن يستخرج كاتالوجاً محرجاً لصورك القديمة، ولم يشتهر بأي تأثير سياسي ضخم أو جدليات مجتمعية.
إذن كيف صار فيسبوك جزءاً أساسياً في الآلة اليمينية الحديثة بالولايات المتحدة؟
أخبار فيسبوك بدأت بسبب الغيرة من تويتر
في الفترة المؤدية إلى الانتخابات الأمريكية في 2012، انشغل فيسبوك بإقناع السياسيين بإنشاء صفحات عامة على موقعها، واحتمالية أن تصدر لجنة الاتصالات الفيدرالية قراراً بمنع الإعلانات السياسية على فيسبوك. وجاء هذا على حساب صحة المعلومات في إعلانات السياسيين على الموقع، وفقاً لموظف سابق بفريق وضع السياسات بالموقع.
لكن زوكربيرغ يشتهر بتنافسيته المحمومة. وفي 2013، كان موقع تويتر لا يزال ينمو بسرعة كبيرة ويهيمن على المحادثات الدائرة حول الأخبار، وأرادت فيسبوك أن تدخل ذلك المجال. لذا، أعلنت الشركة أنها ستجري أكبر تعديل على قسم آخر الأخبار News Feed منذ إنشائه، وستحوله إلى "صحيفة مخصصة" تعطي الأولوية للناشرين والشخصيات العامة، إلى جانب صور الأصدقاء والأطفال التقليدية.
وبالمثل، جاء زر المشاركة Share للأجهزة المحمولة في 2012 ليعتبره الكثيرون محاولة للمنافسة مع زر إعادة التغريد Retweet الشهير في تويتر، ليفتح الباب واسعاً أمام انتشار الأخبار والصور الساخرة، والمعلومات المضللة في نهاية المطاف.
حقق التحول للمقالات الإخبارية والشخصيات العامة نجاحاً باهراً، وجعل فيسبوك مركز الخطاب السياسي على شبكة الإنترنت بلا منازع. لكنه فتح أيضاً صندوق بندورا الذي سيُغرق زوكربيرغ في عاصفة سياسية هوجاء تفاداها لأعوام طوال.
زوكربيرغ غضب من تعهد ترامب بمنع المسلمين، ولكن لماذا ترك تصريحه؟
من أوائل الاختبارات الكبرى التي مر بها الموقع ما حدث في ديسمبر/كانون الأول 2015، حين نشر المرشح الرئاسي حينها دونالد ترامب على فيسبوك اعتزامه حظر دخول كافة المسلمين إلى الولايات المتحدة. أدت تعليقاته إلى غضب عارم داخل الشركة، وأغضبت زوكربيرغ نفسه المناصر لإصلاح أنظمة الهجرة، ونقلت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أنه "اشمأز من تعليقات ترامب ورغب في إزالتها".
لكنه لم يفعل، وبدلاً من ذلك تناقش مع مستشاريه المقربين، ومن بينهم جويل كابلان، أحد رجال إدارة بوش وانضم إلى فيسبوك في 2011. أقنع كابلان زوكربيرغ بأن يبقي المنشور، وفقاً لواشنطن بوست، باعتباره استثناءً "إخبارياً" لقاعدة فيسبوك بخصوص المحتوى المقبول نشره.
مزاعم الانحياز لليبراليين تضع فيسبوك في خانة الدفاع
مع احتدام موسم الانتخابات في 2016، كانت فيسبوك متعطشة لمساعدة الحزبين في استغلال الشبكة الاجتماعية، وتقديم الموقع باعتباره الساحة العامة المركزية والحيادية للحوار السياسي.
لكن هذا تغير في التاسع من مايو/أيار 2016، حين نشر موقع Gizmodo قصة مدوية تزعم أن العاملين بصفحة الأخبار المتداولة Trending يكتبون المقالات التي تتناول موضوعاتٍ محافظة. هذه المزاعم التي أنكرتها فيسبوك فوراً، عززت من شكوك اليمينيين في النفوذ الضخم الذي تتمتع به صناعة التكنولوجيا الليبرالية على الاتصالات عبر شبكة الإنترنت، ليُولد شبحٌ يخيف فيسبوك لم تتمكن الشركة من الفكاك منه حتى يومنا هذا.
وفي رسالة إلى أحد أعضاء مجلس الشيوخ في الشهر نفسه، قالت فيسبوك إن تحقيقاً داخلياً أجرته لم يجد أي أدلة على الانحياز، وأن الموضوعات الأكثر انتشاراً على صفحة Trending كانت دونالد ترامب و#GOPDebate.
لكن زوكربيرغ على كل حال أبدى تفهمه لمزاعم الانحياز الليبرالي، وتعهد بأن يتحدث شخصياً مع منتقديه المحافظين عما يشغلهم، وأن يتحدث عن "كيفية ضمان استمرار فيسبوك في أن يكون منصة لكل الأفكار في الأطياف السياسية".
وبعد بضعة أشهر، تخلت فيسبوك عن المدققين البشريين في صفحة Trending، لتحل محلهم خوارزميات آلية، وكانت النتيجة فيضان من الأخبار الزائفة التي يروج الكثير منها لسرديات اليمين، وفقاً لتقرير صحيفة الغارديان وقتها.
في الوقت نفسه، عرضت فيسبوك على حملتي ترامب وكلينتون تعيين موظفين بفيسبوك يتعاونون مع العاملين بالحملة لمساعدتهم في استعمال الشبكة الاجتماعية بفعالية. وقد رفضت حملة كلينتون ذلك، وفقاً لمجلة Politico، لكن فريق ترامب قبل العرض بكل سرور. وهكذا لعبت شركة فيسبوك دوراً محورياً في انتصار ترامب، وتم الاحتفاء ببراد بارسكيل باعتباره: "المسؤول عن حملة ترامب الناجحة نجاحاً ساحقاً على فيسبوك".
وفي أعقاب الانتصار المفاجئ لترامب، أشار بعض المنتقدين إلى أن انتشار الأخبار الزائفة والمضللة على فيسبوك كان من عوامل الانتصار المفاجئ لترامب. وأفاد تقرير بموقع BuzzFeed بتفاصيل عن تحقيق الأخبار الزائفة انتشاراً أوسع بصورة منتظمة من الأخبار الحقيقية على الشبكة الاجتماعية في الأشهر الأخيرة من الانتخابات.
وقد قلل زوكربيرغ علناً من فكرة أن المحتوى على موقعه، وبالأخص محتوى "الأخبار الزائفة"، كان له أثره في الانتخابات، وقال عنها "فكرة مجنونة للغاية".
فيض من نظريات المؤامرة
إن كان زوكربيرغ قد اعتقد أن حواره مع المحافظين أو وصول رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض سيقلل من ادعاءات اليمينيين بالانحياز والمعاملة الظالمة لهم، فهذا الاعتقاد سرعان ما تبخر.
فقد انتشر فيض من المحتوى المعيب، من مضامين الجهات الروسية إلى المعلومات الطبية المغلوطة إلى إنكار التغير المناخي، وزاد عليه أنه صار الآن مغلفاً بحساسيات سياسية ينبغي على فيسبوك أخذها في الاعتبار قبل اتخاذ أي قراراتٍ بشأنها. فأي قرار تتخذه فيسبوك بشأن بقاء أو حذف المنشورات صار الآن تحت مجهر الرأي العام.
حتى أي تغيرات في موقعها ومنتجاتها صار المديرون يقيمونها من منظور استفزاز القوى اليمينية. ومن هنا صارت الأبحاث المتعلقة بإيجاد طرق مبتكرة للحد من الروابط الكاذبة الهادفة إلى جمع الزيارات غير مقنعة لقيادات الشركة، ومن بينهم كابلان، وفقاً لوول ستريت جورنال.
اللجوء للذكاء الاصطناعي جاء بنتيجة عكسية
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، عرضت صفحة الأخبار الجديدة News Tab روابط لمقالات من منشورات تقليدية مثل نيويورك تايمز ووول ستريت جورنال، إضافة إلى المنبر الإخباري اليميني بريتبارت، الذي وصفه رئيسه السابق ستيف بانون بـ"منصة اليمين المتطرف".
على مدار عامي 2018 و2019، اتخذ فيسبوك بالفعل بعض التحركات ضد محتوى اليمين المتطرف، وأجرى بعض التغييرات الكبرى التي كان لها تأثير كبير على ما يراه المستخدمون على المنصة، منها التوجه في 2018 إلى تفضيل منشورات الأصدقاء على منشورات جهات النشر، والتركيز المتزايد بعدها بعام على المجموعات Groups، التي يختار المستخدمون الانضمام إليها لنشر المحتوى ومشاركته.
ومن هنا زاد عدد مستخدمي المجموعات، من 100 مليون في 2017 إلى 400 مليون في 2019، ما غير بصورة جذرية طريقة استهلاك الكثير من الناس للمواد الإعلامية، وأسهم في نشر نظريات المؤامرة اليمينية مثل QAnon، التي انتشرت بين النظراء عبر مجموعات على منصات التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات.
بعد عامين، شنت فيسبوك حملة على QAnon. لكن بحلول ذلك الوقت، كان للنظرية ملايين الأتباع على فيسبوك، في أمريكا وفي أنحاء العالم، وهي إشارة إلى استمرار خوارزميات الشبكة الاجتماعية في مكافأة المحتوى المهيج الخالي من الحقائق، لمجرد أن المستخدمين وجدوه جديراً بالتفاعل.
وفي مايو/أيار 2020، ادعى ترامب كذباً على فيسبوك وتويتر أن التصويت عبر البريد من المؤكد أن يكون "مزوراً بدرجة معتبرة" في انتخابات 2020. واتخذ موقع تويتر خطوة غير مسبوقة حين أضاف رابطاً إلى منشور ترامب، لكي "يحصل القراء على حقائق بشأن الأصوات عبر البريد"، ويعرفوا أن "مزاعم ترامب لا دليل عليها".
لكن فيسبوك لم يفعل شيئاً، مع أن الشركة حظرت المحتوى الذي تعتبره "قمعاً للمصوتين"، وأشارت حملة بايدن في رسالة إلى الشركة إلى أن منشورات ترامب تكذب بشأن العملية الانتخابية، وبالتالي تمثل قمعاً لأصوات الناخبين. لكن فيسبوك لم ترَ الأمر على هذا النحو.
وفي يوليو/تموز 2020، خرجت النتائج التي طال انتظارها لتدقيق في التزام فيسبوك بالحقوق المدنية. وانتقد التقرير بشدة القيادات العليا بالشركة، وقال إن الشركة فشلت في فرض قوانينها. فمنشورات ترامب تنشر خطاب الكراهية و"تسهل قمع أصوات الناخبين"، وهي "تنتهك سياسات فيسبوك بوضوح. وفي حين أن القرارات اتُّخذت على أعلى مستوى في الشركة، فإن القيادات لم تطلب مشورة الخبراء بالحقوق المدنية ولم تلتزم بها بالدرجة الكافية، والقرارات الناتجة عن ذلك كارثية".