في سبعينات القرن الماضي كانت فرنسا وبريطانيا تواجهان موقفاً يكاد يكون متطابقاً بين النزاع الذي تشهده منطقة شرق المتوسط بين تركيا واليونان، والقصة ببساطة تتمثل في وجود جزر تابعة لبريطانيا في بحر المانش تبتعد عن الساحل الفرنسي بأميالٍ قليلة، فكيف تم حل ذلك الصراع؟ وماذا يقول عن موقف فرنسا الحالي الداعم لليونان؟
ما قصة جزر بحر المانش؟
وجزر المانش التي كانت محل نزاع بين بريطانيا وفرنسا هي جزر جيرسي وجويرنسي وألدرني وسارك وهيرم وجيثو وبعض الكتل الصخرية، ويبلغ عدد سكانها نحو 170 ألف نسمة، وهي تحت سيطرة بريطانيا منذ عام 1066، وتبعد أقرب جزيرة من تلك الجزر عن بريطانيا 87 ميلاً، في حين تنخفض المسافة إلى 8 أميال بين جزيرة ألدرني والبر الفرنسي.
وسبب النزاع هو أن بريطانيا كانت تريد أن يكون لتلك الجزر جرف قاري بنفس مساحات الجرف القاري للبر الرئيسي، وهي 12 ميلاً بحرياً كمياه إقليمية إضافة إلى 200 ميل بحري عند عقد اتفاقات مناطق اقتصادية خالصة مع دولة أخرى تتشارك معها في المياه.
لكن وجهة نظر فرنسا تمثلت في أن الجزر لا يمكن أن يكون لها جرف قاري كما البر الرئيسي، ولم يتمكن البلدان من حل الخلاف الذي نشب بينهما بسبب حقول النفط الموجودة في المنطقة، فقررت فرنسا وقتها اللجوء إلى التحكيم الدولي.
وقتها تمثل الطرح الفرنسي في أن الجزر البريطانية القريبة من أراضيها لا يمكن أن يتجاوز جرفها القاري 3 أميال، بينما ادعت بريطانيا في المحكمة أنه لا أهمية لحجم الجزر، وينبغي ترسيم الحدودية البحرية مع فرنسا على هذا الأساس، بينما قالت باريس إن هذا الطرح سيؤدي إلى تقليص الجرف القاري الفرنسي لصالح بريطانيا، وإن ادعاءات لندن غير متناسبة مع حجم الجزر وطول سواحلها.
وكانت بريطانيا تطالب هيئة التحكيم بتطبيق قاعدة الأبعاد المتساوية بين الساحل الفرنسي والجزر البريطانية في بحر المانش، في حين كانت فرنسا تطالب بتطبيق هذه القاعدة من الساحل الفرنسي إلى الساحل البريطاني مع إعطاء الجزر البريطانية ستة أميال بحرية.
وقالت فرنسا إنه يتوجب أن تكون حدود تلك الجزر 6 أميال نصفها مياه إقليمية ونصفها الآخر جرف قاري، وفي 30 يونيو/حزيران 1977، أعلنت المحكمة الدولية قرارها وكان لصالح فرنسا إلى حد كبير، فقد حكمت المحكمة بأن يمر خط الحدود البحرية بين البلدين من منتصف بحر المانش، اعتباراً من سواحل البر الرئيسي للبلدين، مع تحديد الجرف القاري لجزر المانش بـ 12 ميلاً.
وبهذا فقد أكدت المحكمة أن الجرف القاري لتلك الجزر لا يمكن أن يتجاوز 12 ميلاً، وبالتالي فقد حافظت فرنسا على جرفها القاري.
ما وجه الشبه بين نزاع تركيا واليونان؟
يكاد يكون أصل النزاع في منطقة شرق المتوسط بين اليونان وتركيا الآن متطابقاً مع موقف النزاع البريطاني الفرنسي في سبعينات القرن الماضي، فاليونان تطالب بأن يكون لجزيرة ميس جرف قاري كامل على الرغم من أنها تبعد عن الساحل التركي بـ 2 كلم متر فقط، بينما تبتعد عن البر الرئيسي لليونان 582 كلم، وهو ما كانت تطالب به بريطانيا قبل التحكيم الدولي.
وتتبنى تركيا اليوم نفس وجهة النظر التي تبنتها فرنسا في نزاعها مع بريطانيا، فأنقرة ترى أنه لا يمكن معاملة جزيرة صغيرة نفس معاملة البر الرئيسي للدول، وأن ترسيم الحدود البحرية مع أثينا لابد أن يقوم على أساس نقطة خط المنتصف بين البر الرئيسي للبلدين، وهو ما ترفضه اليونان.
ماذا يقول الموقف الفرنسي إذن؟
لكن فرنسا اليوم تتبنى موقفاً داعماً لليونان في طرحها المطالب بأن يمتد جرفها القاري حتى شواطئ تركيا، انطلاقاً من موقع جزيرة ميس، وهو ما يكشف عن التناقض الواضح بين موقف باريس في نزاعها مع بريطانيا والذي كان قائماً على مبدأ الترسيم العادل للحدود البحرية -نفس موقف تركيا الآن- وبين موقفها الحالي.
وبحسب مراقبين ومحللين أوروبيين، لا يساهم الموقف الفرنسي في تخفيف حدة التوتر شرق المتوسط، بل العكس هو الصحيح، ويرون أن موقف باريس نابع بالأساس من محاولات الرئيس إيمانويل ماكرون في استعادة الدور الفرنسي على الساحة الإقليمية والدولية كما كان أيام مؤسس الجمهورية الرابعة شارل ديغول.
وفي هذا السياق يفسر الكثيرون الموقف الفرنسي المتناقض في النزاع البحري بين عضوي الناتو تركيا واليونان بأنه أحد أبرز السمات التي تميز سياسات ماكرون سواء داخلياً أو خارجياً، فالتناقض بين ما يقوله ماكرون وما يفعله هو السبب الرئيسي وراء عدم نجاحه في الملفات الداخلية المتعددة التي أدت إلى احتجاجات "السترات الصفراء"، التي لا تبدو لها نهاية قريبة، كما أن هذا التناقض نفسه هو السبب وراء فشله في جميع ملفات السياسة الخارجية حتى الآن رغم الجهود والتحركات الكثيرة التي يبذلها.