حين نشرت نجمة الدراما التركية إسراء بيلجيك، البالغة من العمر 27 عاماً وبطلة المسلسل التركي قيامة أرطغرل، صورةً لها مرتدية حمالة صدر وفوقها سترة، لم تكن تتوقع بكل تأكيد التوبيخ الذي ستتلقاه.
تلعب بيلجيك دور السلطانة حليمو، الأميرة السلجوقية المتزوجة من الغازي أرطغرل ووالدة عثمان مؤسس الإمبراطورية العثمانية.
تلقت بيلجيك آلاف التعليقات، من بينهما تعليقات من قطاع من معجبيها المغتمين لرؤيتها على هذا الحال. سألها أحد المعلقين: "أين السلطانة حليمة التي رأيتها بالأمس؟ ماذا ستفعلين حين يسألك الله عن وقفتك هذه؟ بارك الله فيكِ. خالص المحبة من باكستان".
اليوم، تحتل الدراما التليفزيونية التركية المركز الثاني من حيث التوزيع العالمي، لا تسبقها سوى الدراما الأمريكية. واللغة التركية هي ثاني اللغات الأجنبية الأكثر مشاهدة في أنحاء العالم، متغلبة على الفرنسية والإسبانية والماندارين الصينية. ومسلسل أرطغرل، الذي بدأ تصويره في 2014، يشاهده الكثيرون على نتفليكس، وتم منح تراخيص عرضه في 72 بلداً، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
أمتان شقيقتان
ليست باكستان هي البلد الأولى التي تنغمس في هستيريا أرطغرل، فالأوردو هي اللغة الرابعة التي تمت دبلجة المسلسل لها، بعد العربية والإسبانية والروسية. لكن للأمر في باكستان أبعاد جيوسياسية أوسع. فتركيا وباكستان لطالما أعربتا عن احترامهما لبعضهما، باعتبارهما دولتان "شقيقتان". تركيا كانت من أوائل الدول التي اعترفت بباكستان بعد تأسيسها في 1947، وأيدت انضمامها إلى الأمم المتحدة.
وحتى قبل استقلال باكستان، انضم الكثير من مسلمي الراج البريطاني إلى حركة الخلافة دعماً للإمبراطورية العثمانية. كانت الخلافة رمزاً لوحدة المسلمين، ومع أن الحركة انحلت بعد الإطاحة بمحمد السادس على يد مصطفى كمال أتاتورك، أرسل المسلمون الهنود دعماً مالياً بهدف إنقاذ الإمبراطورية في آخر لحظاتها.
المسلسل التركي قيامة أرطغرل يخاطب جانباً حساساً لدى الباكستانيين
ومع أن العلاقات الثنائية بين باكستان وتركيا ركزت على التعاون السياسي والعسكري والاقتصادي، يعمق البلدان علاقاتهما الثقافية الآن.
إلا إن شعبية أرطغرل لها وضع مختلف عن أعمال درامية تركية أخرى، منها حريم السلطان والعشق الممنوع. فقد شاهد 55 مليون شخصاً الحلقة الأخيرة من العشق الممنوع، أي ربع سكان باكستان، وهذه أعلى مشاهدة حققها مسلسل أجنبي في تاريخ باكستان.
لكن شعبية أرطغرل لها أهمية سياسية أعمق. فمع أنها أعجبت الباكستانيين للأسباب المألوفة نفسها -الإنتاج الضخم والتوتر الدرامي والرسائل المحافظة التي يمكن للعائلة كلها أن تستمع بها- إلا أن الشعبية الواسعة لمسلسل الغازي أرطغرل تنبع من الوضع الحساس لباكستان في هذه الآونة.
يقول شهريار مرزا، منتج منفذ بقناة TRT World إن باكستان تجد نفسها اليوم في وضع غير معتاد بصفتها ساحة معركة ثقافية وسياسية بين تركيا وإيران والسعودية وجهات أخرى. "إن الغرب له الأثر الثقافي الأضخم على باكستان. وباكستان منذ نشأتها وحتى هذه اللحظة تتأرجح في اتجاهات متباينة للغاية".
والتليفزيون الرسمي عرضه بطلب من رئيس الوزراء، ومهاتير وأردوغان بطلاه المفضلان
بدأ التليفزيون الباكستاني الرسمي في إذاعة الموسم الأول من أرطغرل هذا العام في شهر رمضان، بعد طلب من رئيس الوزراء عمران خان. يشير خان كثيراً إلى المسلسل في خطاباته ومواعظه. وقد اشتكى كثيراً من ثقافة هوليوود وبوليوود التي تغزو باكستان. وقال خان: "نحن لدينا ثقافة تتناول الرومانسية والتاريخ أيضاً. لكنها مليئة بالقيم الإسلامية". وقد أهدت شبكة TRT مسلسل أرطغرل إلى باكستان مجاناً، في إشارة مودة آتت أُكُلها بكل تأكيد.
تود باكستان لو كانت من الدول البارزة في العالم الإسلامي، لكنها تعاني من ضعف شديدٍ بسبب الحكومات الفاسدة والمؤسسات عديمة الكفاءة والإرهاب. وفوق كل ذلك، للمؤسسة العسكرية الكلمة العليا في مسار الدولة، بغض النظر عن توجهات رئيس الوزراء أو رغبات الشعب. ومع اعتمادها على قروض مذلة من صندوق النقد الدولي ومساعدات الولايات المتحدة، يرى خان القدوة في تركيا وماليزيا. وقد قال خان عن أردوغان، ورئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد، إنهما من أبطاله الشخصيين.
ولا يبدو أن محاولات السعودية الصارمة ستنجح في زحزحة تركيا عن عرش المنتصر في المعارك الثقافية بالقرن الواحد والعشرين. في أغسطس/آب، بعد مرور سنة على قطع الإنترنت عن كشمير الهندية، في أطول قطعٍ لخدمات الإنترنت يحدث في أي بلد ديمقراطي، طالبت حكومة خان السعودية بدعم موقف باكستان من كشمير، وإلا ستضطر باكستان إلى طلب المساعدة من دول أخرى في منظمة التعاون الإسلامي. وكان رد الرياض سريعاً، إذ إنها طالبت إسلام آباد بدفع مليار دولار مقابل شحنات النفط، وأنهت اتفاقيات القروض وإمدادات النفط بين البلدين، ما أظهر بوضوح اعتمادية الاقتصاد الباكستاني على الرياض.
ويقال إن السعودية طلبت وقف المسلسل
وتناثرت بعض الأقاويل عن مطالبة السعودية بأن توقف باكستان إذاعة أرطغرل. فقد أنفقت الإمارات والسعودية، في إنتاج مشترك، 40 مليون دولار على مسلسل ممالك النار، الذي يتناول المقاومة العربية للإمبراطورية العثمانية (أو بالأدق المقاومة المملوكية).
وبلغ بالدولتين أن عينتا بيتر ويبر، المخرج البريطاني، لإخراج هذا العمل. كان المسلسل محاولة مكلفة للغاية لمواجهة العثمانية الثقافية الجديدة، لكنها فشلت في ما يبدو. لم يشاهد المسلسل أحد تقريباً.
تعلق المجلة الأمريكية قائلة "تنجح القوة الناعمة فقط في حالة تمتع الجهة بالمصداقية، وتواجه تركيا انتقادات كثيرة من قبل الغرب، لكنها أفضل بكثير إن قورنت بحكومة السعودية، فتركيا لا تقطع رؤوس المراهقين لأنهم يشاركون في التظاهرات، أو تمزق أجساد الصحفيين في قنصلياتها.