يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للفوز في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بأي طريقة، حتى لو كان هذا الإجراء مخالفاً للدستور، ففي الوقت الذي يريد أن يبني دولته العميقة داخل الدوائر الحكومية الأمريكية، سقط منه تصريح مثير للسخرية؛ إذ طالب سكان ولاية نورث كارولاينا بالتصويت مرتين، واحدة عن طريق البريد والأخرى بالحضور إلى مقار الانتخابات مما أثار حالة من الغضب.
وقال ترامب في مقابلة يوم الأربعاء مع تلفزيون (دبليو.إي.سي.تي) في ويلمنغتون بولاية نورث كارولينا "دعوهم يرسلونها ودعوهم يذهبون للتصويت.. وإذا كان النظام جيداً كما يقولون، فمن الواضح أنهم لن يكونوا قادرين على التصويت" شخصياً.
لم يكتف ترامب بهذا التصريح فقط إذ يسعى الرئيس الأمريكي إلى خلق دولة عميقة داخل أروقة المؤسسات الأمريكية يكون ولاؤها للرئيس، رغم انتقادات ترامب المتكررة لهذا الأمر، لكنه يريد اللجوء إليه للفوز بعد شهرين في انتخابات الرئاسة.
فأجهزة الاستخبارات الأمريكية تواجه ضغوطاً متزايدة من إدارة ترامب لعدم تقديم أية معلومات إلا التي ترغب في سماعها.
وعقب تعيين الموالي لإدارة ترامب جون راتكليف على رأس المجتمع الاستخباراتي، سعت الإدارة لتقويض رقابة الكونغرس، وأقالت كذلك مسؤولاً مخضرماً من موقع حساس للأمن القومي في وزارة العدل.
دولة ترامب العميقة، هكذا تفعل
واقترح مسؤول استخباراتي كبير سابق أنَّ ترامب يسعى لخلق الشيء الذي انتقده مراراً في السابق؛ وهو "الدولة العميقة". بينما شبّه مسؤول آخر مساعي ترامب بالمهزلة الاستخباراتية التي سبقت غزو العراق عام 2003.
ويقع التركيز الأكبر في التحديات الحالية على الدور الروسي السري في الحملة الانتخابية. إذ قدّر مجتمع الاستخبارات الأمريكي أنَّ موسكو تقوم بدور نشط مثلما فعلت في عام 2016؛ لإلحاق الضرر بجو بايدن وتعزيز حظوظ ترامب، وذلك من خلال نشر المعلومات المضللة. لكن مسؤولي الإدارة سعوا إلى وقف النقاش العام حول مثل هذا التدخل.
وذكرت قناة ABC News الأمريكية هذا الأسبوع أنَّ مساعد وزير الأمن الداخلي، تشاد وولف، منع إذاعة نشرة إخبارية في يوليو/تموز تُحذِر من الجهود الروسية لإثارة الشكوك حول صحة جو بايدن العقلية، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
وأبلغ راتكليف، المدير الجديد للاستخبارات الوطنية، الكونغرس في نهاية الأسبوع الماضي أنَّ مكتبه سيتوقف عن تقديم إحاطات شخصية حول أمن الانتخابات، لكنه بدلاً من ذلك سيقدم تقارير مكتوبة لا يمكن إجراء استجواب بشأنها من جانب المُشرِّعين المتشككين.
وبرّر تصرفه باتهام الكونغرس بتسريب مواد سرية، لكنه لم يوضح سبب عدم انطباق نفس خطر التسريب على التقارير المكتوبة. وقال جون ماكلولين، النائب السابق لمدير وكالة الاستخبارات المركزية، إنَّ المخاوف من التسريبات يجب ألا تفوق الحاجة إلى الشفافية.
وصرّح ماكلولين، لصحيفة The Guardian البريطانية: "بصراحة، بالنظر إلى أنني قدمت إحاطات أمام الكونغرس مرات عديدة، يمكن الحديث عن أمور حساسة من دون الإفصاح عن المصادر والأدوات".
وأضاف: "من وجهة نظري، يحتاج الناخب الأمريكي إلى معرفة أقصى قدر من المعلومات يمكن الإفصاح به عن هذا الموضوع. ويحتاج لمعرفة ما إذا كانت هناك أية محاولات للتأثير في التصويت أو التلاعب به".
وظهر نبأ يوم الإثنين، 31 أغسطس/آب، أنَّ المدعي العام ويليام بار أقال فجأة مسؤولاً مخضرماً يدير مكتب القانون والسياسة في قسم الأمن القومي بوزارة العدل.
وكان المسؤول براد ويمان محترفاً يحظى بالاحترام على نطاق واسع، وكانت مهامه الوظيفية تشمل تقديم المشورة بشأن الإفصاح علناً عن الأدلة على التدخل في الانتخابات. وعُيِّن بدلاً منه مدع عام أصغر سناً هو كيلين دواير، وهو متخصص في الأمن السيبراني ومحافظ يتمتع بخبرة محدودة للغاية في مجال الأمن القومي.
من جانبها، علّقت كاترينا موليغان، مسؤولة الأمن القومي السابقة التي ساعدت في صياغة السياسة التي يمكن بموجبها لمكتب القانون والسياسة أن يدق ناقوس الخطر بشأن التدخل في الشؤون الداخلية للدولة، قائلة: "لا يزال هذا هو السبيل الوحيد الذي يتعين على [وزارة العدل] به الكشف عن التدخل الأجنبي في ظل غياب الإدانات الجنائية".
وجادلت موليغان: "كما يمكنكم أن تتصوروا، حين يتعلق الأمر بالتدخل الأجنبي تدور أمور يجب أن يعلمها العامة، ولا نرغب بالانتظار حتى ترتيب أوراقنا بالكامل لإصدار لائحة اتهام، قبل الكشف عمّا يحدث للعامة".
هل الصين هي المُتدخِل الأكبر؟
في الوقت الذي تعرضت فيه المزيد من الأصوات للإسكات حول هذه القضية، كان كبار مسؤولي ترامب يوجهون رسالة مختلفة بشأن التدخل في الانتخابات؛ وهي أنَّ الصين -وليست روسيا- هي المُتدخِّل الأكبر في الانتخابات الأمريكية.
وقال راتكليف لشبكة Fox News: "ليس صحيحاً أنَّ روسيا تمثل تهديداً أكبر على الأمن القومي من الصين. بل الصين هي التهديد الأكبر الذي نواجهه".
وفي تصريح أدلى به بار مساء يوم الأربعاء، 2 سبتمبر/أيلول، لشبكة CNN، كرّر المدعي العام هذه المزاعم قائلاً: "أعتقد أنها الصين؛ لأنني اطلعت على التقارير الاستخباراتية، وهذا ما استنتجته".
ولم يُفصِح عمّن تدعم الصين من المرشحين الأمريكيين في تدخلاتها لمحاولة التأثير في الانتخابات، لكنه لم يكن بحاجة لفعل ذلك.
إذ قال ويليام إيفانينا، مدير مركز الأمن الوطني والاستخبارات المضادة: "تستخدم روسيا مجموعة من الإجراءات لتشويه سمعة نائب الرئيس السابق بايدن بشكل أساسي.. وفي تقديرنا، تفضل الصين ألا يفوز الرئيس ترامب -الذي تعتبره بكين غير قابل للتنبؤ- بولاية ثانية".
وقدّم إيفانينا تفاصيل عن الإجراءات الملموسة التي اتخذتها موسكو لإلحاق الضرر ببايدن، لكنه كان أكثر غموضاً بشأن بكين، قائلاً إنها "توسع جهود تأثيرها قبل نوفمبر/تشرين الثاني 2020 لتشكيل البيئة السياسية" من أجل "تشتيت الانتباه والرد على الانتقادات الموجهة للصين".
الصين أخطر أم روسيا؟
اشتكى الديمقراطيون وخبراء الاستخبارات من المساواة الخاطئة بين حجم التهديدين عندما يتعلق الأمر بالتدخل المباشر في الانتخابات.
وقال ماكلولين: "الأدلة الموثقة عن تدخل روسيا هائلة، بينما تلك الخاصة بتدخل الصين ضئيلة -أو على الأقل المعُلَن منها".
وجادل جون سيفر، وهو من المسؤولين المخضرمين في وكالة الاستخبارات المركزية، الذي كان يدير عمليات الوكالة في روسيا ذات مرة، في تعليق لصحيفة The New York Times يوم الثلاثاء، 1 سبتمبر/أيلول، أنَّ نمط تصرفات إدارة ترامب "ينُم عن الأسلوب ذاته الذي استخدمه ترامب لإثارة الغضب بين أتباعه -وهو تشكيل جهاز أمن قومي مُسيّس يمكن أن يُستخدَم كسلاح شخصي للرئيس. بعبارة أخرى: دولة عميقة".
ويتفق في الرأي مع سيفر، ديفيد رود الصحفي والمؤلف الذي نشر كتاباً عن هذا الموضوع بعنوان In Deep: The FBI, the CIA, and the Truth about America's "Deep State" – بالتفصيل: مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية والحقيقة بشأن الدولة العميقة في أمريكا.
وقال رود: "إذا كانت الدولة العميقة عبارة عن مجموعة من المسؤولين الذين يمارسون سراً سلطة الحكومة مع القليل من المساءلة والشفافية، يزداد انطباق هذا التعريف على ترامب وأنصاره. وتحت ستار وقف انقلاب على السلطة غير موجود، يعمل ترامب على تسييس مجتمع الاستخبارات ووزارة العدل ويستخدمهما لتعزيز جهود إعادة انتخابه".
ومن المتوقع أن تشتد المعركة على الاستخبارات مع اقتراب الانتخابات. واختار المدعي العام بار، جون دورهام، لاستجواب المحققين من مكتب التحقيقات الفيدرالي والمستشارين الخاصين الذين نظروا في التدخل الروسي في انتخابات عام 2016. وقال المدعي العام إنه لن يلتزم بالبروتوكول العادي وينتظر حتى بعد الانتخابات لنشر نتائج دورهام، أو على الأقل نسخة من تلك النتائج، وربما يهدف من ذلك إلى خلق انطباع بأنَّ ترامب كان ضحية مؤامرة لتقويض رئاسته.
من جانبها، وصفت سوزان هينيسي، المدعية السابقة في وكالة الأمن القومي الأمريكية، تكتيكات ترامب في التلاعب بالمخابرات الأمريكية بأنها تمثل تهديداً تاريخياً، ومن المحتمل أن تلقي بظلالها على الفشل الذريع الذي أدى إلى غزو العراق عام 2003.
وأضافت سوزان، وهي الآن زميلة قديمة في معهد بروكينغز: "ما نراه الآن هو، من بعض النواحي، أسوأ من الإخفاقات الاستخباراتية المحيطة بأسلحة الدمار الشامل. من الواضح أنَّ ما حدث في العراق كانت له تبعات هائلة ويعكس سبب ضرورة الاحتراس من التأثير السياسي الخفي في التقارير الاستخباراتية. لكن التسييس هنا فج ومنحاز بطبيعته بشكل صريح".