تحذير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من خطر اندلاع "حرب أهلية في لبنان" يفتح الباب أمام السيناريوهات التي تتجه لها البلاد، في ظل الجمود الذي يبدو أن كارثة تفجير مرفأ بيروت لم تنجح في إحداث هزة فيه بعد مرور نحو شهر، فإلى أين تسير الأمور في البلد العربي الذي شهد حرباً أهلية بالفعل انتهت قبل ثلاثة عقود فقط؟
ماذا قال ماكرون؟
ماكرون، الذي سيقوم بزيارة للبنان مساء الإثنين 31 أغسطس/آب تستغرق 24 ساعة، حذَّر من اندلاع "حرب أهلية في حال تخلينا عنه"، فيما دعا إلى "القيام بإصلاحات لا سيما في مجال النظام المصرفي والسوق العام".
هذه الزيارة هي الثانية للرئيس الفرنسي إلى العاصمة اللبنانية بعد الانفجار الذي وقع بمرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب، بينما يبدأ الرئيس اللبناني ميشال عون، صباح غدٍ الإثنين، استشارات مع الكتل النيابية لتكليف شخصية جديدة تشكيل حكومة، بعد ثلاثة أسابيع من استقالة حكومة حسان دياب تحت ضغط الشارع الذي حمَّلها مسؤولية الانفجار، بسبب الإهمال وفساد المؤسسات.
"إذا تخلينا عن لبنان بالمنطقة وإذا تركناه بطريقة ما في أيدي قوى إقليمية فاسدة، فستندلع حرب أهلية"، وسيؤدي ذلك إلى "تقويض الهوية اللبنانية"، في البلد الذي شهد انفجاراً مدمراً مطلع أغسطس/آب، في مرفأ بيروت، أودى بحياة 181 شخصاً، وأشار ماكرون إلى "القيود التي يفرضها النظام الطائفي" التي "إذا ما أضيفت- لكي نتحدث بتحفظ- إلى المصالح ذات الصلة"، أدت "إلى وضع يكاد لا يوجد فيه أي تجديد (سياسي) وحيث يكاد تكون هناك استحالة لإجراء إصلاحات".
متى بدأ التحذير من الحرب الأهلية؟
بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية بلبنان في السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بأسبوع واحد، جاء التحذير الأول من خطر اندلاع حرب أهلية في البلاد على لسان زعيم حزب الله حسن نصر الله، حيث قال إن لبنان "دخل في دائرة الاستهداف" دولياً وإقليمياً، وعبّر عن خوفه من دفع البلاد إلى أتون "حرب أهلية".
في ذلك الوقت، كانت الاحتجاجات الشعبية في البلاد تتسم بالسلمية التامة وكانت المظاهرات تطالب بإبعاد الطبقة السياسية بأكملها تحت شعار "كلن يعني كلن"، وكان العلم اللبناني هو الوحيد الذي يحمله المتظاهرون، ودوافع تلك الاحتجاجات أو الثورة الشعبية كانت الرغبة في حياةٍ أفضل بعد أن استشرى الفساد "الابن الشرعي" لنظام المحاصصة الطائفية الذي تم إقراره في اتفاق الطائف عام 1989 والذي أنهى الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً.
وعلى الرغم من إشادة نصر الله، في الخطاب نفسه، بشرعية التظاهرات الشعبية ومطالبها، فإنه حذَّر من أن الاحتجاجات قد تدفع البلاد نحو الفوضى والانهيار والحرب الأهلية، رافضاً دعوات استقالة الحكومة والرئيس، ومضيفاً: "لا نقبل بإسقاط العهد، ولا نقبل باستقالة الحكومة، ولا نقبل في ظل هذه الأوضاع بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة".
كيف يمكن تجنب هذا السيناريو المفزع؟
ونجح حزب الله بالفعل في فرض ما أراد، واستمر النظام السياسي كما هو دون تغيير في لبنان، على الرغم من التدهور المأساوي في الأوضاع الاقتصادية ووصول الأمور المعيشية لغالبية اللبنانيين إلى درجة مفزعة من التدني، لدرجة أن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) قالت الأحد 30 أغسطس/آب، إنه قد يتعذَّر على نصف سكان لبنان الوصول إلى احتياجاتهم الغذائية الأساسية بحلول نهاية العام.
تلك النتيجة توصلت إليها "الإسكوا" من خلال دراسةٍ أعدَّتها بعنوان "هل من خطرٍ على الأمن الغذائي في لبنان؟"، واعتبرت اللجنة أن انفجار مرفأ بيروت، وانهيار قيمة عملة لبنان بمقدار 78%، والارتفاع الحاد في معدلات الفقر والبطالة، وتدابير الإقفال التي اتُّخذت لاحتواء جائحة كورونا، أسباب أدّت إلى الوصول لهذه النتيجة.
ورغم ذلك لا يزال الفرقاء السياسيون في لبنان يديرون الأمور بالطريقة نفسها دون تغيير، حيث مرت ثلاثة أسابيع على استقالة حكومة حسان دياب دون أن يحدث أي جديد، وسيبدأ الرئيس عون غداً "المشاورات النيابية" لتشكيل الحكومة والتي قد تستغرق أشهراً أخرى، بينما تزداد معاناة اللبنانيين، وهو ما يهدد بتفجر الأوضاع بصورة ربما تخرج عن السيطرة هذه المرة، خصوصاً في ظل رفع حزب الله راية التحدي في وجه الجميع واعتبار أن أي تحركات شعبية يقف وراءها أعداء الحزب الإقليميون والدوليون بهدف تجريده من السلاح.
من قد يحارب من؟
نظرة إلى خريطة التحالفات الحزبية والطائفية الآن في لبنان، تكشف عن خريطة متشابكة ومعقدة تجعل كابوس الحرب الأهلية يبدو مستبعداً إلى حد كبير، لكن في حالة حدوث الاحتمال الأضعف- أي اندلاع تلك الحرب الأهلية- ستتحول لبنان إلى ساحة لتصفية الحسابات بين قوى إقليمية ودولية، ما يجعلها حرباً بلا نهاية منظورة.
الآن يتحالف حزب الله (شيعي) وحركة أمل (شيعية) مع التيار الوطني الحر (ماروني مسيحي)، في مقابل المعارضة المتمثلة في تيار المستقبل (سني) وحزب القوات اللبنانية (درزي) وتيار مسيحي آخر، ويقول الخبير الأمني شارل أبي نادر، لموقع سبوتنيك الروسي، إن القضية الحالية سياسية بامتياز وإنه لا دخل للطابع المذهبي أو الطائفي بها، حيث هناك تداخل في المواقف المؤيدة لحزب الله من كافة الطوائف، كما أن هناك تداخلاً للمواقف المعارضة لحزب الله، من كافة الطوائف.
وربما تمثل هذه النقطة تحديداً- تداخل التحالفات المحلية- اختلافاً كبيراً عن الظروف التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، إضافة إلى نقطة أخرى وهي تسليح حزب الله الذي وصفه نصر الله نفسه بأنه "في المعادلة الداخلية.. المقاومة (حزب الله) أقوى طرف"، مستدركاً: "أنا ما عم اهدد حدا (أنا لا أهدد أحداً)"، حيث يرى كثير من المراقبين أن ذلك يعتبر رادعاً ضد أي احتراب داخلي.
لكن معادلة الصراع الإقليمي على الأراضي اللبنانية هي السبب الأبرز للقلق؛ فإسرائيل ومعها الولايات المتحدة تضع نزع سلاح حزب الله هدفاً رئيسياً، بينما يرفض الحزب ذلك الطرح رفضاً قاطعاً؛ ومن ثم تتعلق الآمال الآن بالدور الفرنسي في الضغط على عون ونصر الله لتقديم تنازلات داخلية تسمح بتشكيل حكومة لا يهيمن عليها الحزب؛ ومن ثم تحظى بدعم مالي دولي يخفف من وطأة الأوضاع المعيشية للبنانيين ولو قليلاً؛ لتخفيف الاحتقان في الشارع.