تتلاحق الأزمات المعيشية في ليبيا بصورة متسارعة ومربكة، وبينما تستعر الحرب العسكرية حوله بطاحونتها التي لم تتوقف بعد، تشتعل حوله حرب جديدة، هي الكهرباء التي تتأزم هذه الأيام في غرب ليبيا وشرقها وجنوبها، إذ يصل انقطاع التيار الكهربائي إلى أكثر من 15 ساعة في بعض المناطق.
كل هذه المشكلات تطرح على الساحة سؤالاً هاماً، هل هي أزمة فنية نابعة من بنية تحتية متهالكة أم أنها أزمة فساد وورقة خدمية تستخدمها الأطراف المتصارعة في الساحة السياسية والعسكرية في ليبيا؟
فقد أضاف هجوم ميليشيات خليفة حفتر على طرابلس في أبريل/نيسان 2019 مشاكل جديدة، ترتب عليها تعرض شبكات نقل التيار ومحطات التحكم والتوليد للتلف أو الدمار. ناهيك عن سرقة المعدات.
إمكانيات هائلة وفشل إداري
محطات توليد الكهرباء في ليبيا كثيرة ومتعددة، تتوزع شرقاً وغرباً وجنوباً، لكنها تواجه تحديات فنية في إصلاحها، خاصة مع تكرار تعرضها للضربات العسكرية التي تنفذها الميليشيات من وقت لآخر.
في غرب ليبيا تعد محطة غرب طرابلس البخارية شبه متوقفة وهي إحدى المحطات العملاقة بكفاءة إنتاجية تصل في الأساس إلى 600 ميغاوات إلا أنها تعمل بـ10% فقط من طاقتها.
هذه المحطة بها 4 توربينات كل واحدة منها بسعة 25 ميغا وات، لكن لا يمكن تشغيل التوربينات الأربعة في الوقت ذاته، وحالياً تعمل المحطة باثنتين منها فقط.
هناك أيضاً محطة جنوب طرابلس، التي تضم 7 توربينات، 3 منها لا تعمل، بسبب القمامة المتراكمة حولها، أما محطة الزاوية التي تضم 6 توربينات غازية، فإحداها لا تعمل بسبب عدم وجود الراوتر الخاص بتشغيلها.
في حين لا تعمل توربينه غازية أخرى بسبب حاجتها للزيت. كما تضم محطة الزاوية 3 توربينات بخارية جميعها متوقفة عن العمل حالياً.
محطات لا تعمل
محطة الرويس هي الأخرى تضم 6 توربينات لتوليد الطاقة، لكن المحطة لا تعمل بكامل طاقتها الإنتاجية نتيجة تهالك خطوط نقل الطاقة إليها، فأغلبها "مقطوعة" منذ عام 2011.
في حين أن محطة الخمس تضم 4 توربينات غازية و4 بخارية وقد أدى انحراف المكبس إلى توقف عمل إحدى التوربينات، فيما توقفت عن العمل أيضاً توربينتان جديدتان بحمولة 250 ميغا.
أما محطة مصراته فتضم توربينتين كبيرتين بحمولة 500 ميغا بالإضافة إلى توربينة بخارية، إلا أنها تعمل حالياً بتوربينة واحدة فقط بقدرة 250 ميغاوات، فيما تفقد الوحدة البخارية ما قيمته 350 ميغا وات.
ومحطة الخليج في مدينة سرت، بها توربينة واحدة تنتج ما مقداره 325 ميغا وات، وهي متوقفة نظراً لتضرر خطوط النقل.
إهمال متعمد
أحال رئيس ديوان المحاسبة بطرابلس، خالد شكشك، يوم الأربعاء الماضي، إلى القائم بأعمال النائب العام، ملفاً بنتائج أسباب ظاهرة انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، مؤكداً أن وراء ذلك إهمالاً مُتعمداً يرقى إلى جرائم جنائية.
وجاء في خطاب شكشك، للقائم بأعمال النائب العام، أنه تبين وجود قصور وإهمال في العمل وسوء إدارة بشكل مُتعمد بالشركة العامة للكهرباء، وأن هذه الأفعال ترقى إلى جرائم جنائية.
وطالب في خطابه، بمنع مسؤولين بالشركة العامة للكهرباء من السفر للخارج، لحين انتهاء التحقيق.
ضبط وإحضار
بناء على الكلف الذي تقدم به رئيس ديوان المحاسبة، أمر رئيس مكتب تحقيقات النائب العام بطرابلس، الصّديق الصور، بضبط وإحضار عدد من المسؤولين في شركة الكهرباء، منهم رئيس مجلس الإدارة السابق عبدالمجيد حمزة، والمدير التنفيذي علي ساسي، على خلفية وجود شُبهة فساد وسوء إدارة تتعلق بقطاع الكهرباء وأيضاً منعهم من السفر.
وأرسل الصور، خطابين أحدهما موجه إلى رئيس مصلحة الجوازات والجنسية وشؤون الأجانب، والآخر موجه إلى كل من رئيس جهاز الأمن الداخلي، ورئيس جهاز المباحث الجنائية، ورئيس جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب، أشار فيهما إلى التحقيقات التي باشرها مكتب النائب العام للوقوف على أسباب أزمة الكهرباء بالبلاد؛ التي استهلت إجراءاتها في 28 أغسطس/آب 2020.
وأوضح أن التحقيقات تمت بناءً على البلاغات الواردة للنيابة العامة على اختلاف اختصاصها المكاني ووقفت على السلبيات التي شابت عمل إدارة الشركة العامة للكهرباء والأضرار الناجمة عن سوء الإدارة، وعلى ما ورد بتقارير الخبرة الفنية التي أعدها أعضاء ديوان المحاسبة التي بينت موطن الخلل في أعمال الإدارة والأعمال الفنية المتصلة بالتشغيل؛ المحالة إلى مكتب النائب العام بتاريخ 23 أغسطس/آب 2020.
وتعاني طرابلس ومدن ليبية أخرى، منذ فترة، من أزمة انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة يومياً تصل إلى 20 ساعة، وهو ما يثقل كاهل الليبيين، خصوصاً مع اشتداد حر الصيف.
سرقات متكررة لأسلاك الكهرباء
تتعرض خطوط نقل الكهرباء في عموم ليبيا لعمليات سطو ممنهجة، إذا تعلن الشركة العامة للكهرباء بصورة شبه يومية عن تعرض خطوط نقل الطاقة الكهربائية لعمليات تخريب والسطو كان آخرها اليوم، حيث قالت الشركة عبر صفحتها الرسمية "إن مجموعة من الخارجين عن القانون سرقوا 400 متر من خط نقل كهرباء في شرق العاصمة طرابلس".
وأشارت الشركة في بيان اليوم الأحد إلى سرقة "الخط الواصل بين محطة الجمعية الزراعية ومحطة المارد العربي التابع لإدارة المرقب في دائرة توزيع القرة بوللي"، منوهة بـ"تغذية المحطة من مصدر آخر".
فيما أعلنت خلال اليومين الماضيين سرقة 1900 متر من أسلاك خط الكهرباء "جهد منخفض" بمحطة أبو رحمة في قصر الأخيار شرق طرابلس.
وأوضحت الشركة أن مجموعة من اللصوص سطوا على أسلاك جهد عال بطول 1500 متر، و400 متر أسلاك ضغط منخفض من الخط، حسب بيان الشركة على صفحتها في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
وأكد المهندس بقسم الصيانة بالشركة العامة للكهرباء "عبدالله علي" أن عصابات منظمة تقوم بالسطو على خطوط نقل الكهرباء بشكل شبه يومي من أجل الحصول على النحاس وبيعه، كما أنها تقوم بسرقة معدات من مخازن الشركة كمفاتيح الضغط العالي وكوابل الضغط العالي وغيرها من المعدات بالسطو على مخازن الشركة.
وتابع عبدالله أن الشركة غير قادرة على إنتاج الطاقة الكهربائية المطلوبة، حيث بلغ عجز محطات التوليد إلى أكثر من 2000 ميغا وات في ظل ارتفاع درجة الحرارة واللجوء إلى سياسة طرح الأحمال بين المناطق والمدن.
مؤكداً عدم التزام بعض المناطق والمدن بسياسة طرح الأحمال العادل، ما يجعل بعض المناطق تتعرض لساعات أطول من انقطاع الكهرباء، وأكثر من المناطق الأخرى تصل إلى 20 ساعة خوفاً من انهيار الشبكة.
وأضاف عبدالله أن مسلحين في بعض المناطق والمدن يقومون بالاعتداء والتهديد لمهندسي لإجبارهم على عدم قطع التيار الكهربائي عنهم أو تقليل ساعات القطع.
السراج يحمل نفسه المسؤولية
أعلن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً، فائز السراج في كلمة متلفزة مسؤولية حكومته عن فشل ملف الكهرباء وعن الانقطاعات المتكررة، مبرراً ذلك بأن الحكومة لم تبسط بعد سيطرتها بالكامل على ليبيا بسبب الظروف الحالية، فضلاً عن وجود أطراف تفتعل الأزمات.
مشيراً إلى ما سماه "أيادٍ سوداء" في بعض محطات الكهرباء لا تلتزم بقواعد الشركة في تخفيف الأحمال لخدمة لمناطقهم، ما يتسبب في انقطاع التيار لساعات طويلة.
وتابع السراج قائلاً: "ليس لدينا عصا سحرية لحل أزمة الكهرباء خاصة أننا حالياً في ذروة فصل الصيف، ونسعى لعدالة توزيع الأحمال الكهربائية وساعات قطع التيار بالتساوي بين المدن والمناطق".
مشيراً إلى تكليف مجلس إدارة جديد لإدارة الشركة، واستكمال العمل بمحطة مصراته وطبرق، وخطة قصيرة تبدأ بصيانة المعدات خلال 4 شهور، كما أن هناك وحدتين ستعودان للعمل في شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
تأمين المحطات
أكد رئيس مجلس إدارة الشركة العامة للكهرباء، وئام العبدلي، أن القوة المشتركة المكلفة بحماية المحطات ما زالت في تواصل وتعاون مع الشركة للقيام بعملها قدر الإمكان، لمنع الاعتداءات المتكررة على الشبكة الكهربائية سواء بسرقة الأسلاك أو اقتحام المحطات لتشغيلها بالقوة.
وذلك لمنع تكرار الاعتداءات المسلحة على مشغلي محطات التوليد والتحويل وغرف التشغيل، ولضمان توزيع الأحمال بالتساوي بين المدن والمناطق.
ونفى العبدلي ما تردد عبر مواقع التواصل الاجتماعي بأن القوة لم تستطع حماية الموظفين المكلفين توزيع الأحمال من التهديدات الأمنية، مؤكداً أن هذا الخبر لا أساس له من الصحة.
وفي ذات السياق، بحث النائب الأول بالمجلس الرئاسي، أحمد معيتيق، مع رئيس ديوان المحاسبة، خالد أحمد شكشك، تسهيل الإجراءات الخاصة بتنفيذ مشروعات البنية الأساسية المحملة على ميزانية الطوارئ للعام 2020.
واتفق خلال اللقاء الذي عقد بمقر ديوان المحاسبة في طرابلس، على تكثيف الجهود لتذليل الصعوبات للانتهاء من اعتماد المشروعات بما يضمن تنفيذها في أسرع وقت وفقا للإجراءات المعمول بها في هذا الشأن.
أزمة الكهرباء مفتعلة
يرى المواطن وليد حسين من مدينة طرابلس أن أزمة الكهرباء مُفتعلة بسبب الفساد الموجود في المؤسسة، أنه برغم الأموال التي صرفت للشركة وكانت بحسب رأيه كفيلة بإنشاء محطات جديدة، إلا أنها أنفقت على صيانة محطات متهالكة عفا عنها الزمن.
إلى جانب ذلك يعتبر حسين أن تدهور الوضع الأمني فاقم الأزمة، خصوصاً في جنوب البلاد حيث تم اختطاف مهندسين أتراك كانوا يعملون على وضع اللمسات الأخيرة لمحطة أوباري.
واتهم حسين الشركة العامة للكهرباء بتعليق فشلها في إنتاج ما يكفي من الطاقة على رفض بعض المدن توزيع الأحمال ما تسبب في إحداث شرخ اجتماعي بين المدن.
موضحاً أن شركة الكهرباء اتبعت نهج 5+5 في بعض المناطق بحيث يقطعون الكهرباء 5 ساعات ويعيدونها 5 ساعات، وفي مناطق أخرى تمتد فترة الانقطاع إلى 10 و15 ساعة.
بنية تحتية متهالكة
وكانت اللجنة العليا لمتابعة بناء الشبكة الكهربائية بالمناطق المتضررة بغرب طرابلس أعلنت في وقت سابق أن البنية التحتية لشبكات النقل والجهد المتوسط والتوزيع دُمرت بالكامل ونحتاج إعادة بناء الشبكة الكهربائية من جديد.
رئيس اللجنة المهندس عياد القنيدي، قال خلال اجتماع اللجنة وقتها: إن الزيارات الميدانية التي قامت بها اللجنة العليا لمتابعة بناء الشبكة الكهربائية، كشفت حجم الأضرار الذي وصل إلى 80% في بعض الشبكات.
فيما قال رئيس المجلس التسييري السابق للشركة العامة للكهرباء، علي ساسي، خلال جولة قام بها لبعض المحطات غرب وجنوب طرابلس بعد تحريرها من ميليشيات حفتر إن شبكة الـ 220 وشبكة الـ 30 الرئيسية والتي تغذي في مناطق غرب وجنوب طرابلس مدمرة بالكامل.
وأن هذه المحطات تحتاج إلى إعادة بناء من جديد بتكلفة قدرها 6 ملايين دينار ليبي مؤكداً أن العمل على تجديدها واعادتها للعمل سوف يستغرق عاماً على الأقل، وحمل المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً مسؤولية تأخر صرف ميزانية البدء في أعمال التجديد والصيانة.
ذروة الطلب على الطاقة الكهربائية تفوق القدرات المتاحة للمحطات الحالية وإدارة القطاع يبدو أنها لا تملك جديداً وتقف عاجزة عن إيجاد الحلول، ليظل شبح انقطاعها مسلسلاً طال أمد أجزائه دون تاريخ لانتهائه ويبقى المتضرر الأول هو المواطن الليبي.