يتجه مصرف لبنان المركزي لإعلان توقّفه عن دعم كل السلع، بما فيها المحروقات والأدوية والقمح، ويحذّر القائمون على القطاعات الصحية والمحروقات من نتائج كارثية أكبر من قدرة الناس على تحمّلها، ما يزيد من حدة التوتر والقلق الذي يعيشه المواطن اللبناني في طيات الأزمات المتلاحقة عليه.
وكشفت مصادر خاصة لـ"عربي بوست" عن عزم مصرف لبنان وقف دعم استيراد المواد الأساسية، كالمحروقات والقمح والأدوية، خاصة وأن سعر الصرف الرسمي للدولار في المصرف المركزي 1507 ليرة.
ولم توضح المصادر إذا ما كان المصرف المركزي سوف سيسمح للشركات المستوردة بعد وقف الدعم بالحصول على الدولار لشراء السلع المستوردة عبر المصارف المحلية بالقيمة الرسمية لديها وهي 3900 ليرة للدولار، أم ستتركهم لأسعار السوق السوداء والتي تتجاوز 7500 ليرة للدولار الواحد .
ونقلت مصادر رسمية في البنك المركزي يوم السبت الماضي أنّ مصرف لبنان لن يدعم الوقود والقمح والدواء لأكثر من 3 أشهر قادمة في ظل تناقص احتياطات العملات الأجنبية.
وتشدد المصادر على أنّ هذا الإعلان يحتاج إلى تشاور مسبق مع كافة القطاعات والمؤسسات والوزارات المعنيّة، إلّا أنّ المسؤولين لم يعملوا حتى اليوم ــ رغم يقينهم المسبق أنّ دعم مصرف لبنان للسلع لا يمكن أن يستمرّ إلى الأبد ــ إلى وضع استراتيجية أو آلية بديلة لوقف الدعم على مراحل متتالية أو بشكل تدريجي منظّم بصورة لا تؤثر بشكل مباشر أو بنسبة كبيرة على الأمن الصحي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد.
في هذا الإطار، أكد نقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة أنّ رفع الدعم عن استيراد الدواء هو عملية انتحارية سيكون ضررها على المواطن اللبناني لا يقل عن كارثة انفجار مرفأ بيروت، محذراً من تداعياتها كارثية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، حيث سوف ترتفع أسعار الأدوية بين ليلة وضحاها، 5 الى 6 أضعاف.
وقال جبارة لـ"عربي بوست": "المواطن اللبناني لا قدرة له اليوم على تحمّل ارتفاع اسعار المواد الاساسية أي القمح والمحروقات والدواء، بعد الكوارث التي مرّ بها ومازال يتكبد تداعياتها، بالاضافة إلى زيادة أسعار مختلف السلع الغذائية والاستهلاكية الأخرى التي تشكّل المحروقات جزءاً من كلفة إنتاجها".
رسالة تودد لواشنطن
مصدر قريب لصناعة قرار مصرف لبنان، أكّد أنّ واشنطن طلبت من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة رفع الدعم عن المحروقات وذلك قبل أشهر من موعد تطبيق قانون قيصر، إلاّ أنّ سلامة لم يفعل رغم أنه وعدهم بذلك.
كما كشف المصدر نفسه أنّ الحديث في الأوساط المالية والنقدية يدور اليوم حول "توجه لرفع الولايات المتحدة غطائها عن رياض سلامة".
وأكدت المصادر أنّ دعم المازوت الذي يذهب جزء كبير منه إلى النظام السوري، وربما يستفيد "حزب الله" منه، هو "السبب المباشر لتراجع الدعم السياسي الذي كانت تقدمه واشنطن لسلامة". ويقول المصدر: "لو نفذ سلامة ما تطلبه أمريكا منه، لكان موقفها منه اليوم مغايراً".
ويؤكد المصدر أنّ مصرف لبنان لو أراد الاستمرار بالدعم، فلديه نحو 20 مليار دولار من الاحتياطي، يملك منها قرابة 3 مليارات دولار وبقيتها 17 مليار دولار تخصّ الاحتياطي الإلزامي للمصارف المحلية، يملك الحق في استخدامها أيضاً.
ويشير المصدر إلى أن مصرف لبنان يدعم السلع بنحو 700 مليون دولار شهرياً
ويؤكد أنّ هذا الأمر ليس سراً، فقد سبق لوزير الاقتصاد المستقيل راوول نعمة أن أعلنه في أحد مؤتمراته الصحفية بناء على ما تلقّاه من كشوف مصرف لبنان.
ويضيف المصدر: "احتياطات المصرف المركزي من العملات الأجنبية تسمح له بالاستمرار في دعم الوقود والقمح والدواء لما يمتدّ إلى نحو عامين من الآن"، ويرجح أن هذا القرار رسالة سياسة يحاول سلامة من خلالها استرضاء الأمريكان.
المواطن سيدفع الثمن
وتؤكد رنا سعرتي المتخصصة في مجال الصحافة الاقتصادية أن الوضع يتّجه اقتصادياً ومالياً إلى مزيد من التدهور وسط استنزاف حاد لاحتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية، في ظلّ إبقائه حتى الآن على سياسة دعم استيراد السلع الأساسية على سعر الصرف الرسمي، رغم نضوب التدفقات المالية إلى لبنان.
وقالت رنا إن معهد التمويل الدولي توقع في آخر تقرير له تراجع الاحتياطات الرسمية القابلة للاستخدام بنحو 12 مليار دولار في حلول نهاية العام 2020 من أصل الـ20 مليار الموجودة حالياً.
إلّا أنّ مصادر مصرفية بحسب رنا سعرتي تؤكد أنّ البنك المركزي لن ينتظر حتى تدنّي حجم احتياطه من العملات الأجنبية إلى تلك المستويات، بل من تتوقع أن يتم الإعلان في الفترة المقبلة عن وقف كافة أنواع الدعم التي يقوم بها مصرف لبنان على كافة أنواع السلع المستوردة بما فيها السلع الأساسية، كالمحروقات والقمح والأدوية.
وبالتالي، سيفقد المواطن جزءاً أساسياً إضافياً من قدرته الشرائية، مرتبطاً بأسعار المحروقات، كالبنزين والمازوت وفواتير الكهرباء والمولدات الخاصة والمستحضرات الطبية والأدوية، وصولاً إلى الخبز وكل السلع الغذائية والاستهلاكية الأخرى.
الواقع السياسي وانعكاساته على الاقتصاد
يزيد الوضع سوءاً بتشابك الأزمة السياسية في لبنان، ما تسبب في تأخر تشكيل الحكومة الجديدة، فضلاً عن الإغلاق العام الذي عانت منه البلاد بسبب جائحة كورونا، ثم انفجار المرفأ الذي أضر كثيراً بالاقتصاد.
كلها عوامل تجعل من الأسابيع والأشهر المقبلة مصيرية بالنسبة للبنان، فعدم تشكيل حكومة قادرة على القيام بإصلاحات في وقت قصير جداً، سيؤدّي، بحسب مصادر مطلعة إلى كارثة اجتماعية كبيرة ستؤدّي حتماً إلى اضطرابات اجتماعية ومن خلفها توترات أمنية.
أما تشكيل حكومة في وقت قصير وتكون قادرة على القيام بإصلاحات، سيفتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية والخليجية التي هجرت لبنان منذ بدء الأزمة السورية في العام 2011، حسب تأكيد المصادر.
يعيش لبنان أقسى المراحل في تاريخه المُعاصر حيث يُشبّه بعض المراقبين هذه المرحلة بالأسوأ منذ الاستقلال نظرًاً إلى المخاطر الاقتصادية والاجتماعية والتي ستعيد لبنان في حال لم يتمّ تشكيل حكومة لإجراء الإصلاحات، إلى حدود أزمة المجاعة خلال الحرب العالمية الأولى.
لكن البعض الآخر يخفف من هذه النظرة التشاؤمية ويرجعون ذلك إلى أن الدول العظمى لها مصالح في لبنان، ولا مصلحة لها بأن تنفجر الأوضاع في ظل وجود مليون ونصف المليون نازح سوري، ما يعني أن المساعدات الإنسانية سوف تمنع الانهيار الاجتماعي.