تستدعي تصريحات يوسي كوهين، رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية "الموساد"، التي تم الكشف عنها قبل أيام، التوقف طويلاً أمامها، لأنها تكشف النقاب عمّا يمكن اعتبارها استراتيجية محددة الملامح، استهدفت أولاً شيطنة إيران "الشيعية" في أعين الشعوب العربية، والآن يبدو أن الاستراتيجية نفسها يتم تطبيقها مع تركيا "العثمانية، وبما أن كوهين كان يتحدث مع مسؤولين من مصر والسعودية والإمارات، فإن السؤال هنا بشأن طبيعة ذلك الحلف الذي يجمع قيادات تلك الدول مع تل أبيب.
ماذا قال كوهين ومتى؟
صحيفة التايمز البريطانية كانت أول من كشف عن رؤية كوهين، وتقييمه للخطر الذي تمثله تركيا، والذي رآه أكبر بكثير من الخطر الذي تمثله إيران، معتبراً أنه أصبح من الصعب كبح جماح أنقرة عن فعل ما تريد بعد الآن. والسؤال هنا: خطر على من؟
الصحيفة قالت إن أقوال كوهين جاءت خلال مباحثات سرية جرت بينه وبين مسؤولين عرب من مصر والسعودية والإمارات، قبل 20 شهراً، وبما أنه، حسب تقرير الصحيفة المنشور 18 أغسطس/آب الجاري، استخدم تعبير "خطر علينا"، فالمقصود هنا هو أن الخطر التركي ينصبّ على الدول الأربع "إسرائيل ومصر والإمارات والسعودية"، ويمكن أن يرتبها كل قارئ على هواه.
روجر بويس، المحرر السياسي لصحيفة التايمز هو من نشر التقرير، وأعادت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية نشره السبت 22 أغسطس/آب، وقال بويس: "كان مذهلاً أن نسمع هذا الكلام من رئيس جهاز الاستخبارات الذي قاد عملية سرقة أجزاء كبيرة من الأرشيف النووي الإيراني من مستودع وسط طهران"، مضيفاً: "مع ذلك، لم تكن وجهة نظر كوهين أن إيران ستتوقف عن كونها تهديداً يومياً، بل إنها يمكن إيقافها من خلال العقوبات والحظر وتبادل المعلومات الاستخباراتية والعمليات السرية".
هذا الاجتماع "السري" بين كوهين ومسؤولين من مصر والإمارات والسعودية جرى، بحسب الصحيفة، قبل نحو 20 شهراً، وبالنظر إلى الأحداث التي شهدتها تلك الفترة يمكن تفكيك كثير من طلاسم أحداثها، خصوصاً ما يتعلق منها بأطراف ذلك الحلف من ناحية "إسرائيل ومصر والإمارات والسعودية"، وإيران وتركيا من ناحية أخرى، والأخيرتان ليستا حلفاً، لكن جمع بينهما كونهما هدفاً لذلك الحلف.
أين كانت إسرائيل قبل عقد من الزمان؟
قبل الغوص في المشهد الحالي في الشرق الأوسط، من المهم العودة للخلف عقداً واحداً من الزمان أو أقل قليلاً، وبالتحديد مع اندلاع ثورات الربيع العربي من تونس أواخر عام 2010، ثم الثورة المصرية في يناير/كانون الثاني 2011، لنرى كيف كانت الأوضاع شعبياً وسياسياً في المنطقة في ذلك الوقت، الذي يبدو الآن وكأنه من زمن سحيق.
وأبرز مشاهد تلك الفترة هو اقتحام السفارة الإسرائيلية في العاصمة المصرية القاهرة، وهي العاصمة العربية الأولى التي وقّعت اتفاقاً للسلام مع إسرائيل عام 1979، تسبّب وقتها في مقاطعة عربية شاملة لمصر، وتم نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس. مشاهد اقتحام سفارة تل أبيب وإنزال علم إسرائيل ورفع العلمين المصري والفلسطيني فوقها بعد أكثر من 40 عاماً من توقيع اتفاقية السلام، كان رسالة شعبية واضحة لا تقبل التأويل، وهي أن إسرائيل هي العدو الأول للشعوب العربية، رغم أن بعض الأنظمة التي تحكم تلك الشعوب لها رؤية مختلفة.
وإذا كان ذلك هو الموقف الشعبي المصري، فالأمر ذاته كان متطابقاً في جميع العواصم العربية بلا استثناء، لكن اليوم ونحن نقترب من نهاية عام الوباء، تبدو الصورة مختلفة بصورة جذرية، على المستويين الرسمي والدبلوماسي، وإن كان الموقف الشعبي يظل بعيداً عن الصورة، بعد أن نجحت الثورة المضادة في قمع إرادة الشعوب، إلا قليلاً.
وفي ذلك الوقت، أجرى مجلس الشرق الأوسط للسياسة مناقشات مستفيضة، شارك فيها دبلوماسيون سابقون ومحللون سياسيون حول مستقبل إسرائيل في المنطقة، وتأثير الربيع العربي على الدولة العبرية، وكان لافتاً وقتها أن المحللين والساسة في إسرائيل كانوا يتحدثون عن أهمية التركيز على الخطر الذي تمثله إيران على الاستقرار في المنطقة، وشمل ذلك أيضاً التلميح إلى تركيا التي انحازت للتغيير الذي أرادته الشعوب العربية منذ اللحظة الأولى.
وكانت رؤية روبرت ميلي، مدير مجموعة الأزمات الدولة لبرنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وقتها، (هو الآن المدير العام للمجموعة الأممية)، هي أن الطبيعة السلمية للثورات في تونس ومصر والإجماع الشعبي الواضح وقتها فتح الطريق أمام الرغبة في تغيير الأنظمة الفاسدة والديكتاتورية، وهو ما أدى لانتشار تلك الثورات في دول عربية أخرى كسوريا وليبيا واليمن والبحرين، وقال وقتها إن "ذلك عمل عظيم لا يزال في بدايته"، مضيفاً أنه من المهم الانتظار لرؤية أين ستستقر الأمور قبل مواجهة السؤال الخاص بوضع إسرائيل في المنطقة نتيجة لتلك الثورات.
وكم كان لافتاً وقتها أن الحديث في الدوائر البحثية والسياسية في إسرائيل والغرب أيضاً كان منصبّاً على إيران، وكيف أنها خطر يتهدّد الدول العربية وإسرائيل معاً، وضرورة التعاون لمواجهتها، وعلى الأرض كانت الأحداث تجري في إطار متوازٍ بين إجهاض الثورات الشعبية والربط بين الإسلام السياسي والإرهاب من جهة، ومن جهة أخرى التركيز على خطورة "إيران الشيعية" على ممالك الخليج العربي بشكل خاص، والمنطقة العربية ككل بشكل عام.
الخطر الإيراني على إسرائيل "والسنة"
من المهم هنا التوقف عند كيفية نجاح إسرائيل والإمارات بصورة أساسية في تحويل الأنظار نحو الخطر الذي تمثله إيران على المنطقة، بعد أن خرج للعلن حجم وطبيعة التعاون بين تل أبيب وأبوظبي منذ نحو عقد من الزمان، وليس من قبيل المصادفة هذا التزامن بين الربيع العربي وبداية التعاون بين الطرفين كما اتّضح مؤخراً، حيث إن التحركات السياسية والاستخباراتية في الخفاء صاحَبتها حملات إعلامية موجهة، تركز على التدخل الإيراني في شؤون الدول العربية، وهو موجود بالطبع، سواء في العراق أو لبنان أو سوريا واليمن والبحرين، ساهمت بشكل كبير في إبعاد تل أبيب عن الصورة إعلامياً في المرحلة الأولى.
والجزء الثاني من الخطة تم من خلال التركيز على "الإرهاب"، وهو كلمة السر في القصة، حيث تم الربط بين تيار الإسلام السياسي، وبصفة خاصة جماعة الإخوان المسلمين التي تتمتع بشعبية كبيرة ظهرت بوضوح في ثورات الربيع العربي أواخر 2010، وبين الإرهاب بصورة مطاطية لا تفرق بين المعارضة السياسية للنظم الديمقراطية وبين أعمال الإرهاب التي تتبناها الجماعات المتطرفة فكرياً.
وفي هذا الإطار تمّت شيطنة حركات المقاومة لإسرائيل، سواء حماس والجهاد في فلسطين أو حزب الله في لبنان، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تبرئة ساحة تلك الحركات بشكل كامل من المأزق الذي وجدت نفسها فيه، فقد ارتكب قادتها بعض الأخطاء بالفعل، لكن التمويل الإماراتي السخي والعلاقات الإسرائيلية المتشعبة في مجالي الإعلام والمراكز البحثية ساهم في خلق رأي عام يركّز على الدور "التخريبي" الذي تلعبه إيران "وأذرعها" في الدول العربية، بينما إسرائيل أصبحت بمثابة حمامة السلام في المنطقة بعد أن اختفت أخبار جرائمها المتكررة بحق الفلسطينيين من الإعلام العربي بصورة لافتة، وحلّت محلها لقاءات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزرائه مع مسؤولين عرب، كان معظمها يتم في الخفاء، حتى جاءت لحظة الإعلان عن اتفاق التطبيع الإماراتي-الإسرائيلي.
إيران دولة شيعية تسعى لتصدير ثورتها وتشيّعها إلى دول المنطقة السنية، وبالتالي التنافس بينها وبين السعودية قائم وموجود منذ الثورة الإسلامية في طهران عام 1979، لكن الموقف اختلف بصورة جذرية منذ ظهور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الصورة مطلع عام 2015، ومن قبله تولي عبدالفتاح السيسي رئاسة مصر بعد الإطاحة بحكم جماعة الإخوان عام 2013 في انقلاب عسكري، وهو ما أظهر هذا الحلف للعلن بصورة واضحة.
ونتذكر جميعاً وعد السيسي المعروف إعلامياً "بمسافة السكة"، في سياق حديثه عن الاستعداد للتدخل لحماية السعودية والإمارات والبحرين ضد أي تهديد إيراني، وبالتالي فإنّ شيطنة إيران من جانب السعودية مفهوم ضمناً، وبالنسبة للإمارات، ورغم وجود جزر تحتلها طهران، فإن أبوظبي لم تبادر قط بمعاداة إيران علناً، بل اتّخذت دائماً نسقاً أكثر دبلوماسية، وحتى اشتراكها في التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن كان واضحاً أنه لأهداف خاصة، لا تأخذ في الحسبان إنهاء انقلاب الحوثيين المدعومين من إيران، بقدر ما هو تأمين مصالحها الخاصة في جنوب اليمن وبالتحديد عدن.
إسرائيل إذن ترى في إيران خطراً عليها، بسبب البرنامج النووي، والسعودية أسبابها مفهومة لشيطنة إيران، والإمارات بقيادة محمد بن زايد لديها مشروعها الخاص، المتمثل في إجهاض الثورات الشعبية الطامحة للديمقراطية، وبالتالي تولّت قيادة وتدعيم الثورات المضادة، ومصر بقيادة السيسي تدين بالولاء المطلق لداعميها في أبوظبي والرياض، وبالتالي تحدث السيسي عن "السلام الدافئ" مع إسرائيل، وبوصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض وإعلانه صفقة القرن اكتملت الصورة، وحان وقت تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي استغلالاً لنتائج شيطنة إيران ومعها جماعات المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي.
ماذا عن "شيطنة" تركيا؟
تركيا، على الجانب الآخر، دولة مسلمة سنية تتمتع بعلاقات وطيدة مع الدول العربية، وخصوصاً السعودية ومصر وكذلك الإمارات، وفي الوقت نفسه علاقاتها مقطوعة مع إسرائيل منذ الاعتداء على سفينة مرمرة التركية، التي سعت لكسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2010، وبالتالي تتمتع أنقرة بصورة إيجابية متميزة لدى الشعوب العربية، فما الذي حدث، ولماذا أصبحت تركيا فجأة تمثل "خطراً أكبر من إيران" على الحلف الرباعي "إسرائيل ومصر والإمارات والسعودية"؟
الإجابة المباشرة هنا تتعلق بالثورة المضادة في مصر، ورفض تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان للانقلاب الذي قام به وزير الدفاع وقتها عبدالفتاح السيسي، وهو ما أدى إلى قطيعة سياسية ودبلوماسية تحولت إلى حرب إعلامية بين الجانبين، ثم جاءت ملفات غاز شرق المتوسط وليبيا لتزيد الأمور توتراً بصورة ملحوظة.
أما سعودياً، فمن خلال ذلك الاجتماع الذي جمع رئيس الموساد بمسؤولين من الدول الثلاث قبل 20 شهراً، فالقصة هنا مرتبطة بجريمة اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول بأيدي فريق اغتيالات سعودي، وهي القضية التي أدت إلى تدهور العلاقات بين الرياض وأنقرة، بسبب إصرار الجانب التركي على التحقيق بشفافية في الجريمة، التي أشارت أصابع الاتهام فيها لولي العهد السعودي، الذي يصرّ على إنكار إعطائه الأمر أو معرفته الشخصية المسبقة بالجريمة.
اللافت هنا هو الضلع الإماراتي في ذلك التحالف الرباعي، وبصفة خاصة من ناحية الدافع، حيث إنه لا يوجد ما يمكن أن نسميها خصومة مباشرة أو "الدافع المباشر" لوجود عداء -بغضّ النظر عن المتسبب فيه- كما في حالتي مصر السيسي وسعودية بن سلمان، لكن المتابع للموقف يرى دون عناء أن دعم تركيا للربيع العربي مقابل جهود أبوظبي محمد بن زايد الحثيثة لإجهاض ذلك الربيع هو النقطة الرئيسية وراء العداء، ومنها تنطلق مواقف كل طرف في الملفات الإقليمية الأخرى، من سوريا إلى ليبيا وغيرهما.
أما المؤشرات على خطة الشيطنة من جانب الرباعي ضد أنقرة خلال العشرين شهراً الماضية، والتي تلت ذلك الاجتماع، فهي كثيرة؛ فإعلامياً نجد أن القنوات والصحف والمواقع واللجان الإلكترونية في مصر والإمارات والسعودية لا تكفّ عن بثّ الأخبار السلبية عن أنقرة والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل والدينية والثقافية على مدار الساعة، ومن المعلوم أنّ وسائل الإعلام في الدول الثلاث تخضع للسيطرة المطلقة لأنظمة الحكم فيها.
وسياسياً، نجد أن جهود الدول الثلاث ومعها إسرائيل بالطبع، أو بمعنى أدق تقودها إسرائيل، تنصبّ على محاولات حصار تركيا وتقزيم دورها، سواء من خلال دعم اليونان في النزاع البحري مع أنقرة أو من خلال تقديم الدعم لميليشيات شرق ليبيا بقيادة خليفة حفتر، في مواجهة حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً والمدعومة تركياً.
وكان موقف وسائل الإعلام في الدول الأربع من تحويل آيا صوفيا إلى مسجد مؤخراً يتسم بالعداء الشديد والاستنكار والتحريض، ربما بصورة أكثر ضجيجاً من نظيراتها في أوروبا عموماً واليونان خصوصاً، وإذا كان الموقف الإسرائيلي يمكن استيعابه من منظور ديني، فإن موقف الإعلام الرسمي في مصر والإمارات والسعودية كان غريباً على أقل تقدير، لدرجة أثارت استياء شعبياً واضحاً في الدول الثلاث، لكن المتابع للموقف بصورة كلية يجد أن استراتيجية شيطنة تركيا تجعل الأمر منطقياً من وجهة نظر مخططيه.
فزاعة تركيا العثمانية
إذا كان القول بأن إيران دولة شيعية تعلن عن رغبتها في تصدير التشيع إلى المجتمعات العربية السنية قد ساعد في استراتيجية شيطنتها، ووضعها مكان إسرائيل كالعدو الأول للعرب في المنطقة، فإن التركيز على "عثمانية" تركيا هو المدخل لشيطنة أنقرة، وهي النغمة التي تتردد على ألسنة إعلاميين وسياسيين في الدول الثلاث بصورة لافتة على مدى العشرين شهراً الماضية، فهل جاءت الفكرة من الموساد خلال ذلك الاجتماع؟ هذا سؤال لا يملك أحد إجابة قاطعة عنه، لكن بعد الإعلان عن اتفاق التطبيع الإماراتي- الإسرائيلي ربما يأتي ذلك على لسان نتنياهو نفسه كصورة من التباهي، وحتى ظهور معلومات مؤكدة يظل التحليل للمؤشرات هو المتاح.
لكن الصحف الإسرائيلية التي لا تخضع للرقابة لم تترك مجالاً للتحليل أو التوقعات، فقد كانت أكثر انفتاحاً في تحليل ذلك الاجتماع، ونشرت صحيفة Israel Hayom تحليلاً بعنوان "إسرائيل والدول العربية ضد تركيا وإيران"، تحدّث عن رغبة الدول الخليجية في إقامة علاقات مع إسرائيل، وكيف أن ذلك يعكس قوة ومصداقية الدولة اليهودية في أعين الدول العربية، معتبرة ذلك انجازاً إقليمياً درامياً.
تحليل الصحيفة تحدّث بشكل مباشر عن اتفاق تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل، وترحيب مصر به، وكيف أن ذلك الإعلان قد "أثار غضب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان"، ووصف الكاتب الإسرائيلي ذلك الاتفاق مع أبوظبي بأنه "نصر كبير يفتح الباب أمام تشكيل محور استراتيجي يضم مصر وإسرائيل والسعودية والأردن والبحرين وعمان، والإمارات بالطبع" في مواجهة ما سمّاها "الأنظمة الراديكالية" في تركيا وإيران.