أخذ الموت ملاك حيدر الزبيدي بعد أن تعرّضت لأشد أنواع التعنيف الجسدي واللفظي، ما دفعها لحرق نفسها، فأخذها الموت لإبعادها عن المعاناة التي كانت تعيشها.
ليست هي الحالة الأولى، بل تعاني الكثير من حالات العنف الأسري تحت مبررات عشائرية بزعم غسل العار وجرائم الشرف، وأسباب أخرى تتعلق بالعادات والتقاليد ومشاكل اجتماعية كثيرة، وهذه الحالات تصاعدت في الفترة الأخيرة بسبب فرض الحكومة العراقية لقرارات حظر التجوال بسبب انتشار وباء كورونا في البلاد.
حالات العنف الأسري تتصاعد في العراق، لكن لا صوت ينقل معاناة النساء، وهذا ما جعل ناشطين إاعلاميين وحقوقيين، ومفوضية حقوق الإنسان، وفئات متعددة تطالب بالإسراع لإقرار قانون مكافحة العنف الأسري، الذي لم ير النور في البرلمان حتى هذه اللحظة.
وما زال العنف الأسري يمثل مشكلة كبيرة في العراق، حيث تتعرض واحدة من كل 5 نساء عراقيات للعنف الأسري البدني، بحسب دراسات منظمات حقوق الإنسان، وهذا ما يحظره الدستور العراقي، وينبذ كل أشكال العنف والتعسف في الأسرة، لكن عندما يصطدم الدستور بأعراف العشائر، بالتالي فإنه لا يمكن التصدي لحالات العنف، ما يؤدي إلى اختراق البنود الدولية وينتهك حقوق الإنسان.
طوال السنوات الماضية لم يتمكّن العراق من إقرار قانون العنف الأسري لحماية المرأة والطفل، على الرغم من الحوادث التي تشهدها البلاد من حين إلى آخر، والتي تؤدي إلى مقتل بعض نساء تحت عنوان جرائم الشرف، حيث كانت الأحزاب الدينية أكبر العقبات التي حالت دون تمرير القانون.
إحصاءات للانتهاكات وجرائم شرف
يشير مكتب حقوق الإنسان التابع للمفوضية العليا المستقلة لحقوق الإنسان إلى أنه في العراق غالباً ما تتحمل النساء العبء الأكبر لأزمة فرض حظر التجوال بسبب انتشار وباء كورونا، وتأخذ النساء النصيب الأكبر من العنف الأسري بالضرب الجسدي والشتم اللفظي، بل ووصل الأمر لقتل النساء ودفنهن في مناطق نائية، وقد تواجه السيدات أيضاً صعوبات في الوصول إلى الرعاية الصحية، بسبب المشاكل المتعلقة بقضايا الشرف، والنساء هنّ أكثر تعرُّضاً للعنف داخل منازلهن في ظل غياب القوانين الصارمة لحمايتهن.
وهنا يتحدّث المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية اللواء سعد معن، ويؤكد لـ"عربي بوست" أن وزارة الداخلية العراقية وثَّقت أكثر من 5 آلاف حالة عنف أسري في البلاد خلال النصف الأول من العام الحالي 2020.
ويضيف اللواء معن: "من بين الحالات الموثّقة 3 آلاف و637 حالة اعتداء من الزوج على زوجته، وسُجلت أيضاً 402 حالة اعتداء ما بين الإخوة والأخوات، وهناك حالات فردية للقتل تحت أسباب الشرف وغسل العار".
حالات العنف الأسري التي هزّت الشارع العراقي في الأسابيع الماضية ما هي إلا رأس جبل الجليد، فحالات العنف الأسري المسجلة أو الظاهرة مجرد نسبة ضئيلة جداً، مقارنةً بالأعداد الحقيقية المكممة الأفواه بالخوف وأعراف المجتمع القاسية.
قلق يحرك المنظمات الأهلية
وحول هذا الأمر يتحدث مسؤول في قسم رصد الانتهاكات في مفوضية حقوق الإنسان، ويقول لـ"عربي بوست": "نتابع بقلق حالات العنف الأسري منذ شهر مايو/أيار 2020، وحتى هذه اللحظة، وقد رصدنا 32 حالة انتهاك أغلبها في مناطق حزام بغداد، وبعض المحافظات الجنوبية كالناصرية والمثنى وذي قار، وأبرز أسباب العنف الأسري الأخيرة كانت بسبب جرائم الشرف".
ويتابع المسؤول الذي طلب عدم الكشف عن اسمه: "تتعرض المفوضية لضغوط كثيرة، لذلك لا نستطيع رصد كافة حالات العنف الأسري بحق النساء، وذلك لأن الحالات الأخيرة كانت أسبابها مختلفة تماماً عمّا كان يصلنا سابقاً.
فأسباب القضايا التي وصلتنا مؤخراً تشير إلى تعرّض النساء للقتل أو الترحيل القسري من المنطقة، وذلك لأن النساء أُصبن بفيروس كورونا، ولم يستطعن الوصول إلى المستشفيات بسبب عدم قبول الأهالي للكشف عن المرض تحت ذريعة رفض المساس بالشرف.
ويكشف قائلاً: "تعرّضت كوادر طبية كثيرة للضرب بالرصاص عندما ذهبت هذه الكوادر للكشف عن إصابات النساء بكورونا، فقد قابلت بعض العشائر الكوادر الطبية بالأسلحة، ومنعت النساء من الحصول على الأدوية والعناية الصحية اللازمة، وأدّى ذلك إلى وفاتهن، أو في أغلب الأحيان إلى حبسهن في البيوت وحالات أخرى لتسميمهن".
من جهتها، أجرت وزارة التخطيط العراقية مسحاً بشأن العنف الموجّه ضد المرأة في البلاد، ويمكننا عبره إلقاء نظرة على التعنيف الأسري، ونسبته في المجتمع العراقي، ونسبته 47.9% ضرب الزوجة إذا خرجت من المنزل دون أذنه، و44.3% ضرب الزوجة إذا خالفت أوامره، و69.5% يمنع الزوجة من زيارة أقاربها.
من جهتها تقول موظفة في قسم الحماية الاجتماعية بوزارة التخطيط لـ"عربي بوست": "الأرقام الرسمية لحالات العنف ضد النساء لا يتم تحديثها بشكل دقيق ومستمر، بالتزامن مع الضغوط التي تعيشها الأسر العراقية أثناء إجراءات العزل الاجتماعي بسبب فيروس كورونا".
وتتابع: "مؤشرات العنف الأسري تتصاعد بوتيرة مخيفة، فقد شهدت الأسابيع الماضية جرائم بشعة هزّت المجتمع العراقي، حيث سُجل اغتصاب لامرأة من ذوي الاحتياجات الخاصة، وحالات انتحار بسبب العنف المنزلي، وجرائم قتل، وقيام أزواج بخنق زوجاتهم، وجرائم تحرش بالقاصرات، وغيرها من الجرائم".
الأمر الذي دفع الأمم المتحدة لمخاطبة السلطات العراقية بشكل مباشر، لحث البرلمان العراقي للإسراع بإصدار قانون مناهضة العنف الأسري.
ملاك ضحية العنف الأسري
ماتت امرأة تبلغ 20 عاماً في النجف، بسبب خلافها مع زوجها، في يوم 18 أبريل/نيسان، وطالب نشطاء بأن تدق هذه الحادثة ناقوس الخطر لدى المشرّعين العراقيين، لإقرار قانون ضد العنف الأسري، وسط مطالبات من حقوقيين بضرورة تحرك السلطات العراقية للتحقيق في العنف الأسري وملاحقته قضائياً، وضمان العقوبات المناسبة للعنف ضد المرأة.
التقينا بوالدة الضحية ملاك حيدر الزبيدي، وقالت لـ"عربي بوست": "تزوجت ابنتي قبل 8 شهور من رجل شرطة سمح لها بزيارتنا مرة واحدة فقط منذ ذلك الحين، ولطالما كانت تخبرني ابنتي ملاك أنها تتعرض للضرب الجسدي المبرح، ويتم سجنها في البيت، بالإضافة لمنعها من الاتصال بنا هاتفياً، وقد كنتُ أعترض على زوجها وأطلب منه عدم إيذاء ابنتي واحترامها، لكنه كان يسبّنا ويهددنا بالسجن".
وتُتابع والدة ملاك "انقطعت أخبار ابنتي لشهور، وفي يوم الحادثة اتصل زوج ملاك ليخبرني أن ابنتي تعرّضت لحادث حرق بسيط، وأنها الآن في المستشفى، لكنني عندما سمعت صراخ ابنتي ملاك هرعت إلى المستشفى، حيث منعتني أم زوجها من رؤية ملاك".
وتواصل: "بعد ذلك ذهبت إلى قسم الحروق في المستشفى، وصُدمت بأنهم أخذوا إفادة ابنتي ملاك، ثم منعوني من دخول غرفتها، لحين حضور والدها الذي أصر على معرفة أسباب حرق ملاك، وقد دخلنا غرفة العمليات وتحدّثنا مع ابنتنا وأخبرتنا بأن زوجها ضربها بشدة وأدمى وجهها، لدرجة أنها سكبت البنزين على نفسها وحذّرته من أنه ما لم يتوقف ستُضرم النار بنفسها".
وتكمل والدة ملاك حديثها وتقول: "ما زلتُ لا أعرف ما إذا كان زوج ابنتنا مَن أشعل النار فيها أم أنها فعلت بنفسها ذلك، لكن ابنتي أخبرتني أنها ظلت تحترق ثلاث دقائق، بينما كان زوجها ينظر إليها دون فعل شيء.
بعدها جاء والد الزوج وتوسلت به ملاك كي يأخذها للمستشفى بعد انتظار لأكثر من ساعة، وقد قال والد زوج ملاك إنها أضرمت النيران في نفسها لأنها تعاني من مشاكل نفسية، وإن ابنه لم يتعدّ عليها.
وتوضح والدة ملاك: "ابنتي ربما حرقت نفسها كي تتخلص من الحياة البائسة التي كانت تعيشها بسبب استمرار ضرب زوجها لها، وقد تواصلنا مع محامٍ كي يحقق بالقضية، لكنه هو الآخر تعرّض لتهديدات من زوج ملاك الذي كان يعمل في مطار النجف، ولديه علاقات حزبية ويتقوى بعشيرته الكبيرة!
ثم تراجع المحامي عن مقاضاة زوج ملاك، بعدها ماتت على إثر الحريق الذي نهش جسدها وحرق وجهها، ثم أغلقت القضية بعدما اختفى الزوج ولم تهتم المحكمة بحادثة وفاة ابنتنا".
تواصل فريق "عربي بوست" مع المحامي الذي حاول الدفاع عن قضية ملاك الزبيدي، وقال: "السلطات العراقية شكّلت لجنة تحقيق واعتقال بحق الزوج، لكن تم إغلاق القضية بتسوية عشائرية، وتحت ضغط التهديدات، وضاعت حقوق ملاك وهُدر دمها بعد تعرضها للعنف، وعاد الزوج لوظيفته في الشرطة دون أن يتعرض لأي ملاحقات قضائية".
ويختم المحامي حديثه قائلاً "نتعرض نحن الحقوقيين للابتزاز الذي وصل إلى حد تهجيرنا وترحيلنا من مناطقنا، وذلك بسبب دفاعنا عن قضايا العنف الأسري في النجف، فالعشيرة والأحزاب الدينية هي مَن تسيطر على المحاكم بقوة السلاح والنفوذ".
وكلما أردنا أن نعرض هذه القضايا للمحاكم يتم طمس الحقائق وتقييدها تحت بنود الخلافات الاجتماعية الخاصة بالعوائل، ثم تتدخل العشيرة لترفض الحديث عن المشاكل الزوجية، وتضيع حقوق المعنفات من النساء.
أين قانون العنف الأسري؟
تعثرت الجهود المبذولة لتمرير مشروع قانون مناهض للعنف الأسري طوال 2019 و2020. حيث يحظر الدستور العراقي جميع أشكال العنف والإساءة داخل الأسرة والمدرسة والمجتمع، إلا أن قانون العقوبات ينصّ على أن عقاب الزوج لزوجته هو حق قانوني، وبالتالي فالعدوان عليها ليس جريمة.
إلا أن الحكومة العراقية تواجه اليوم مطالبات محلية ودولية لتظهر التزاماً أكثر إزاء إقرار القوانين الصارمة تجاه حالات العنف الأسري.
تقول عضو لجنة حقوق الإنسان في البرلمان، وحدة الجميلي لـ"عربي بوست": "إن بعض النواب اعترضوا على القانون لأنهم لا يعتقدون أن الدولة مخولة بمعاقبة جرائم الشرف أو عقاب الوالدين لاعتدائهم الجسدي على أطفالهم، ولأن قانون العنف الأسري يتعارض مع التعليمات الدينية والأعراف العشائرية".
وأن هذا ما يستدعي إعادة صياغة بنود القانون ليمنع التمرد والتحرر غير الأخلاقي من جهة، ويحمي حقوق المرأة والطفل من جهة أخرى.
وتتابع الجميلي: "الدستور العراقي ينص على مكافحة العنف الأسري، لكن بعض الأحزاب الدينية ما زالت غير مقتنعة بجدوى قانون العنف الأسري، ما يؤدي إلى صدام مع الشعب، الذي يطالب بإجراء إصلاحات حقيقية في البلاد، ويأتي تشريع هذا القانون مع إنشغال الحكومة بأزماتها السياسية، وفوضى إدارة الدولة ومشاكل العجز الاقتصادي بسبب هبوط أسعار النفط".
لذلك تحاول الحكومة معالجة الاضطرابات الداخلية بحسب الأولوية، ثم فيما بعد ستنظر لقانون العنف الأسري وتحاول تنظيم بنوده بالشكل الذي يدافع عن حقوق الإنسان ويراعي خصوصية المجتمع العراقي.
من جهته، يؤكد عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان العراقية علي البياتي لـ"عربي بوست"، أن المادة 41 من قانون العقوبات العراقي تمنح الزوج الحق القانوني في معاقبة زوجته وأطفاله في حدود القانون والعرف.
وتنص هذه القوانين على عقوبات مخففة لما يسمى جرائم شرف، لذلك نحاول في المفوضية الوصول إلى صيغة تعديل لقانون العنف الأسري، والذي من شأنه حماية النساء والأطفال من العنف المستمر، ويُلبي آمال الشعب المنتفض والمُطالِب بصيانة حقوق الإنسان.
ويضيف البياتي: "القانون يحتاج إلى خطوات تدريجية لتشريعه، فعلى الدولة تخصيص ملاجئ أو مرافق استقبال للنساء المعنفات، ثم فيما بعد يأتي دور المنظمات الإنسانية كي تنفذ مشاريع التوعية الاجتماعية وتثقف السكان بأهمية صيانة حقوق الإنسان واحترام حقوق المرأة والطفل، وبعدها يتم تعديل بنود قانون العنف الأسري، ثم تأتي مرحلة التصويت عليه".
من جانبه يحذر قاضٍ في محكمة الكرخ بالعاصمة بغداد، ويقول لـ"عربي بوست": "عندما يخشى المعنفات من الإفصاح عن الانتهاكات خوفاً من إلحاق العار بأسرهنّ، وكي يحافظن على أسرار العشيرة، وسوف يؤدي ذلك إلى غياب الإبلاغات عن العنف المنزلي، وهذا ما يستغله بعض النواب في البرلمان كي يغطوا حالات العنف، بالتالي يبررون عدم وجود أهمية لتشريع قانون العنف الأسري".
ويكشف القاضي لعربي بوست، أن هناك رجال أمن وشرطة وآخرين من أبناء قبائل معروفة متورطون في قضايا العنف الأسري، ويمارسون ضغوطات على الحكومة لعدم تشريع قانون العنف الأسري.
ويشير القاضي "هناك تقصير كبير لدى كثير من الأحزاب الدينية في العراق لقانون العنف الأسري، وهذه المرجعيات تعتبره مخلاً بالنظام العام، وأداةً من أدوات تحويل المجتمع العراقي إلى مجتمع غربي".
وتتهم هذه المرجعيات الدول الغربية باختراق أخلاق المجتمع لصالح جهات ومنظمات تلبس ثوب التيار المدني من أجل الحصول على مكتسبات سياسية، وبالتالي تقف كسد منيع أمام تمرير القانون.
انتحار النساء أثناء الحجر المنزلي من كورونا
أصبح العنف الأسري في زمن الحجر المنزلي قضية عالمية، إذ وصل حداً لا يمكن التهاون معه في العراق، ما أدى إلى وصف منظمة الأمم المتحدة بتسميتها مستوى "ناقوس الخطر".
فقد عبَّرت الأمم المتحدة في بيان عن قلقها بسبب تصاعد جرائم العنف القائم على النوع الاجتماعي في جميع أنحاء البلاد، وشملت اعتداء الأزواج على النساء بالحرق والضرب المبرح، وجرح المعنفات بأدوات حادة وتشويه الجسد، بالإضافة إلى تصاعد حالات الانتحار والقتل بسبب المشاكل الأُسرية نتيجة الحجر المنزلي على إثر تداعيات جائحة كورونا.
ويكشف العقيد في شرطة محافظة كركوك محمد العبيدي لـ"عربي بوست": "حدثت حالة انتحار قبل أيام في حي دروازة بكركوك، وأنهت فتاة تبلغ من العمر 19 عاماً حياتها، باستخدام سلاح صيد، لتنهي معاناتها مع التعنيف الأسري من أبيها الذي أجبرها على الزواج من ابن عمها".
ويشير العقيد العبيدي: "أثناء التحقيق اكتشفنا أن والد الفتاة كان يضربها ويسجنها في غرفة، ويمنع عنها الطعام، لأنها كانت ترفض الزواج بابن عمها، وعندما سألنا جيرانها علمنا أن ابن عمها خطيبها، وكان يهينها بسبب تعرضه لمشاكل اقتصادية بعد خسارته عمله، جراء حظر التجوال وإغلاق المحال وأماكن العمل، على إثر انتشار وباء كورونا.
من جهة أخرى يقول باحث اجتماعي في منظمة نرويجية دولية تعمل بمحافظة البصرة لـ"عربي بوست": "في فترة الحجز المنزلي منذ شهر مارس/آذار، إلى بداية شهر أغسطس/آب من عام 2020، استقبلنا ما يزيد على 85 زوجة تقدمت بالشكوى إلى المختصين بالتحقيق في قضايا العنف الأسري، وأغلب هذه الحالات لم تجد أي تجاوب من السلطات القضائية لأنها تندرج كحوادث ضمن جرائم الشرف والموت المفاجئ، وهذا كان سبباً مباشراً لتوقف الكثير من مشاريع الحماية الاجتماعية بضغوطات من المجلس المحلي للمحافظة".
ويتابع الباحث: "لا تستطيع المنظمات الإنسانية الاستمرار في رصد ومتابعة حالات الانتهاكات، لأن أغلب المعنفات من النساء تعرّضن للتشويه والتعذيب بعدما عرف أنهن تقدمن ببلاغات عن الانتهاكات التي وقعت بحقهن، بسبب عدم تعاون الجهات الرسمية، وتسريب المعلومات من قِبل موظفين حكوميين يعملون في دائرة الشوؤن الاجتماعية".
من جهة أخرى، قالت مستشارة نفسية في إحدى المنظمات النسوية بالعاصمة بغداد لـ"عربي بوست"، في حديثها، إن المنظمة وثّقت العديد من جرائم الشرف على مر السنين.
وتضيف: "لكن شهادات الوفاة تذكر أن سبب الوفاة هو الانتحار، وعندما نتابع أسباب تغييب النساء، نجد أن العنف الأسري واضطهاد المرأة واستخدامها كآلة للعمل في المزارع وتربية الحيوانات، ثم ضربها بقسوة حتى تكسير ضلوعها وتشويه جسدها، أدى ذلك إلى الهروب من البيت بسبب اضطهاد الزوج لزوجته".
وتكشف المستشارة النفسية: "حالات الانتحار تكررت، وذلك لأن الزوجة عندما تشكي وضعها البائس لأهلها يجبرونها على العودة إلى بيت زوجها، وتحمل الإذلال، وهذا ما أدى إلى تصاعد حالات الانتحار، التي وصلت إلى 21 حالة خلال منتصف عام 2020".
بالإضافة لذلك: "عندما تحاول بعض النساء الانتحار، ولكن يُكشف أمرهن، يقوم الأزواج والآباء بقتلهن لغسل العار، بعدها تُدلي العائلة بشهادة الوفاة في الطب العدلي، بأن الزوجة أو الابنة قد انتحرت؛ لأنها كانت تعاني من أمراض نفسية".
موقف المنظمات وتخاذل الحكومة
تحاول المنظمات الإنسانية إيجاد حلول للتخفيف من ظاهرة العنف الأسري التي باتت تتفاقم بشكل لا يمكن السيطرة عليه، فهذه المنظمات لا تجد تعاوناً من قبل السلطات القضائية.
وتقول نائبة رئيس منظمة برج بابل، ذكرى سرسم، لـ"عربي بوست": "تتمثل إحدى المشاكل الرئيسية في أن مشروع قانون العنف الأسري تصرُّ الحكومة على التصويت عليه، وفقاً لتوصيات الأحزاب في البرلمان، بإعطاء الأولوية للمصالحة على حساب الحماية وتحقيق العدالة للضحايا".
وإن ضحايا العنف الأسري في العراق نادراً ما يقدمن شكاوى جنائية للشرطة، بدلاً من ذلك تلعب الشرطة المجتمعية دور الوسيط بدلاً من دور إنفاذ القانون، وتركّز المحاكم على المصالحة بين الضحية والمعتدي، بما يتماشى مع ممارسات المجتمع، وبهذه الطريقة تضيع حقوق المعنفات، ويتم طمس الحقيقة ويفلت الجاني من العقاب.
وتستطرد ذكرى بقلق: "تسعى المنظمات الإنسانية للدفاع عن حقوق المرأة والطفل، لكنها تواجه عقبات كبيرة وتهديدات من قبل العشائر وبعض الأحزاب السياسية، لذلك نحاول في الكثير من الأحيان عدم الكشف عن هويتنا لتجنب المشاكل، وعندما نتواصل مع السلطات القضائية لا يستجيبون.
من جهتها تقول بلقيس والي، وهي باحثة أولى في قسم الأزمات والنزاعات في منظمة هيومن رايتس ووتش لـ"عربي بوست": "لطالما عانى العراق من العنف الأسري طيلة الأعوام الماضية، وتردنا حالة تلو الأخرى لنساء وفتيات يقضين على أيدي عائلاتهن، لكن المشرّعين العراقيين لم يفعلوا ما يكفي لإنقاذهن من الموت".
وهذا ما يضع الحكومة في موقف محرج أمام المجتمع الدولي، لأن السلطات لا تتعامل بطريقة جدية وصارمة مع حالات العنف والانتهاكات وتسدل الستار، خشيةً من التصادم مع بعض العشائر والأحزاب السياسية.
وتشير بلقيس إلى أنه يوجد في العراق عدد قليل من الملاجئ العاملة، وغالباً ما يتم إيواء ضحايا العنف الأسري مؤقتاً في سجون النساء، وهذا يُضاف لأزمة النساء اللواتي يعشن في ملجأ ربما يتعرض للغلق بضعوط عشائرية تطالب بإعادة النساء إلى بيوتهن الأصلية، وهذا ما يعتبر اختباراً صعباً أمام الحكومة التي من الضروري أن تتعاون أكثر مع المنظمات الحقوقية والإنسانية للدفاع عن حقوق المرأة في المجتمع".
كفالة الدولة العراقية للأمومة والطفولة تبقى حبراً على ورق، فقد نصت المادة 41-1 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل، والذي ما زال يؤخذ به في البرلمان العراقي، وينص القانون: "لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالاً لحق مقرر بمقتضى القانون ويعتبر استعمالاً للحق: (1- تأديب الزوج لزوجته وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم الأولاد القصر، في حدود ما هو مقرر شرعاً أو قانوناً أو عرفاً)".
وهذا هو الغطاء القانوني لتبرير العنف الجسدي في المجتمع العراقي وغياب تشريع لتجريم العنف الأسري، رغم زيادة التمثيل السياسي للمرأة، لكن هذا التمثيل لم يترجم إلى تشريعات أو أداة ضغط على المؤسسات التشريعية، حيث لا تزال مسودة مشروع قانون مناهضة العنف الأسري التي طُرحت قبل 5 سنوات معلقةً، تنتظر الإقرار من البرلمان العراقي منذ 2015.