يشقون البحر الأبيض المتوسط، فارّين من "واقع صعب" على متن قوارب صغيرة قد تصل إلى الضفة المقابلة، وقد تكون أيضاً حصيلة جديدة لمفقودين أو موتى تبتلعهم الأمواج.
تقودهم في رحلات الموت تلك، أحلامهم الكبيرة نحو جنة موعودة، كلهم إحباط ويأس من واقع اقتصادي واجتماعي يزداد تدهوراً يوماً بعد آخر، ومشهد سياسي متحرك أصبح شبيهاً بحلبة مصارعة.
هكذا بدا الوضع خلال الأشهر الأخيرة في تونس بعد تزايد موجات اجتياز الحدود البحرية بطرق غير نظامية نحو إيطاليا، أو ظاهرة "الحرقة"، كما يسميها التونسيون.
ولعل تداعيات فيروس كورونا اقتصادياً واجتماعياً زادت من حالة اليأس لدى هؤلاء المهاجرين ومثلت عاملاً جديداً يدفعهم نحو الإلقاء بأنفسهم في مستقبل مجهول.
وربما صور "السيلفي" المتداولة بمنصات التواصل الاجتماعي، لعشرات التونسيين موثقين لحظات إبحارهم نحو الجانب الأوروبي "بحثاً عن واقع بديل"، لدليل على ارتطامهم بحالة إحباط كبيرة جراء الوضع العام المتردي.
وللإشارة فقد أحبط خفر السواحل التونسي، خلال الأشهر القليلة الماضية، عشرات عمليات اجتياز الحدود البحرية بطريقة غير نظامية، وأوقف المئات من المهاجرين.
أسباب سياسية واقتصادية وراء تفاقم ظاهرة الهجرة
وفي حديث للأناضول، قال الباحث التونسي في علم الاجتماع، خالد الطبابي، إن "السياق السياسي بالبلد يعد بمثابة شرارة لعملية الهجرة غير النظامية".
وأضاف الطبابي أن "هذا يحدث خاصة مع تعزز مشاعر الإحباط واليأس لدى المهاجرين وتزامناً مع ما حدث تحت قبة البرلمان وإسقاط عدة حكومات".
وأردف: "هناك عوامل أخرى منها التقرير الأخير للبنك الدولي، والذي توقع فيه نسبة نمو تحت 4% في تونس، وبالتالي فإن كل المؤشرات هذه السنة ساهمت في تفاقم ظاهرة الهجرة غير النظامية".
واعتبر أن "شبكات التهجير تلعب دوراً في هذه العمليات وهي لا تستغل أزمة أمنية او مناخية فقط بل أيضاً استغلت منعرجاً انتخابياً وعزوفاً شبابياً عنه".
أسباب أخرى لظاهرة الهجرة ومراحل تطورها
وفي ذات السياق، يقول الطبابي إنه "مع تفشي فيروس كورونا وسعي السلطات إلى تكثيف حملاتها الأمنية وجهودها لمكافحته استغلت شبكات التهجير تلك الوضعية لممارسة أنشطتها".
كما أرجع أيضاً الظاهرة إلى إشكالات أخرى، منها أن عدداً من صغار البحارة أقدموا علي بيع قواربهم لتلك الشبكات أو ما يسمون الحارقين (المهاجرين).
وأوضح أن ظاهرة الهجرة انطلاقاً من تونس نحو أوروبا عرفت تطوراً طوال السنين الماضية، حيث ارتفعت أعداد المهاجرين باستمرار.
ولفت إلى أن عدد المهاجرين التونسيين الواصلين إلى جزيرة "لامبيدوزا" الإيطالية، فاق 6 آلاف في عام 2006، حيث كان رقماً قياسياً وقتها، نجم عن توتر العلاقات السياسية بين البلدين.
وأضاف أن اندلاع الثورة التونسية عام 2011، وما تبعها من أزمة أمنية، ساهم في زيادة أعداد المهاجرين الواصلين إلى السواحل الإيطالية، حيث تراوحت بين 30 ألفاً و35 ألفاً مهاجر.
وأردف: "قبل أن يستقر هذا الرقم في حدود ألفي مهاجر غير نظامي خلال الفترة ما بين 2012 و2016".
من ظاهرة مرفوضة إلى مشاركة كل فئات المجتمع فيها
وأوضح الطبابي أن الهجرة "ظاهرة تاريخية بدأت في السبعينات بالهجرة البرية نحو ليبيا بحثاً عن العمل".
وأضاف أن "الهجرة عبر البحر بدأت في التسعينات نتيجة السياسات التنموية التي كانت متبعة آنذاك، حيث اقتصرت على الفئات الساكنة بمناطق ساحلية معينة بالبلاد".
واستطرد: "في البداية عارضت العائلات التونسية هجرة أبنائها بطريقة غير نظامية، قبل أن تتحول تلك العائلات إلى ممول ومساهم في هذه الهجرة خصوصاً بعد سنوات الثورة".
وأكد أن "ملامح الهجرة تغيرت فلم تعد تقتصر فقط على الفئات الهشة وإنما على أصحاب الشهادات العاطلين عن العمل".
واستكمل: "في السنوات الأخيرة توسعت ظاهرة الهجرة، وباتت تشمل النساء والقاصرين والأطفال، وأيضاً الطبقة المتوسطة حيث أصبح الحديث اليوم عن الهجرة العائلية".
وكشف أن "عدد المهاجرين غير النظاميين الواصلين إلى إيطاليا من تونس، منذ بداية يناير (كانون الثاني)، إلى غاية 11 أغسطس (آب) 2020، بلغ 6 آلاف و381".
وتيرة الهجرة زادت كثيراً عن المتوقع
من جانبه، أفاد رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (مستقل)، عبدالرحمان الهذيلي، بأن "تفشي كورونا زاد من وتيرة الظاهرة، رغم توقعات سابقة بتفاقمها خلال 2020 و2021".
وتابع الهذيلي: "يرجع هذا إلى وجود أكثر من 100 ألف منقطع عن الدراسة في السنوات الأخيرة وأغلبهم ينحدرون من مناطق مهمشة وأحياء فقيرة يترقبون أول فرصة لمغادرة البلاد".
وذكر أيضاً أن "الثورة في تونس رافقتها موجات كبيرة من الهجرة، حيث كان الجميع حينها يبرر ذلك بصعوبة الوضع وبتوجهه نحو التدهور أكثر".
واستطرد: "الشباب في قطيعة تامة مع كل مؤسسات الدولة ومع الحكومة، وكلها لا تعني له شيئاً".
"البطالة والإحباط" أسباب أخرى للهجرة
بدوره، أرجع أستاذ علم الاجتماع التونسي، مهدي المبروك، تفاقم ظاهرة الهجرة غير النظامية في تونس إلى تنامي أعداد العاطلين عن العمل.
وأفاد قائلاً: "من المرجح أن يكون عدد العاطلين عن العمل في تونس قد بلغ 800 ألف، وينتظر ارتفاعه نتيجة آثار كورونا الاقتصادية والاجتماعية".
وأكد أنه من بين أسباب الظاهرة، "توقف المدرسة عن القيام بدورها كمصعد اجتماعي ينتشل الشباب من مناطق الهشاشة والتهميش إضافة إلى الإحباط من الطبقة السياسية".
وأشار إلى وجود أسباب أخرى، بينها حاجة الاقتصاد الأوروبي والإيطالي تحديداً إلى يد عاملة رخيصة في مجالات الزراعة وغيرها.
وشدد على ضرورة مراجعة خطط التنمية المتبعة منذ التسعينات للاهتمام أكثر بالفئات الهشة والمناطق الفقيرة، من أجل محاربة الهجرة غير النظامية.
ومؤخراً، أعلنت السلطات الإيطالية أنها ستقوم بـ80 عملية ترحيل أسبوعياً للمهاجرين التونسيين، مع تزايد وتيرة وصولهم إلى أراضيها.
ووفق السلطات الإيطالية فإن التونسيين مثلوا نحو 45% من المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا في يوليو/تموز الماضي.
يشار إلى أن الرئيس قيس سعيد، بحث الإثنين الماضي مع وزيري الخارجية والداخلية الإيطاليين قضايا مرتبطة بالهجرة وتعزيز التعاون الأمني.
وشدد سعيّد خلال لقائه بهما في تونس على ضرورة "اعتماد مقاربة شاملة وتوافقية في مجال الهجرة ترتكز بالأساس على محاربة الفقر والبطالة عبر دعم جهود التنمية في البلدان الأصلية والتشجيع على الهجرة النظامية".
واعتبر سعيد أن "الحلول الأمنية وحدها، ليست كفيلة بالقضاء على الهجرة غير النظامية".