تمثل قارة إفريقيا عمقاً استراتيجياً بالنسبة للسياسة التركية، إذ حرص الرئيس أردوغان منذ أن فاز بالرئاسة، على أن يبدأ مرحلة جديدة من التمدد في إرساء قواعده العسكرية بالقارة السمراء.
فهل كانت الفكرة جزءاً من مخططات التوسع التركي في المنطقة، أم أن متغيرات الواقع الديموغرافي الذي تمر به المنطقة دفعت بهذا الملف على طاولة الرئيس؟
محاولة لم تكتمل
بدأت أولى محطات القواعد العسكرية بإفريقيا، في السودان عام 2017 بموجب اتفاقية لتعمير وإدارة جزيرة سواكن الواقعة على البحر الأحمر، والتي أتت بين عدة اتفاقيات اقتصادية أخرى لرفع مستوى التبادل التجاري بين البلدين وزيادة الاستثمار التركي في السودان.
أتت اتفاقية سواكن بعد أشهر من إنشاء أول قاعدة عسكرية تركية في العالم العربي بدولة قطر، بعد تعرضها لحصار خليجي قادته المملكة العربية السعودية، وخططت خلاله لشنِّ عدوان عسكري عليها.
إلا أن قيام الثورة السودانية التي أطاحت بالرئيس السوداني عمر البشير، أجهض الاتفاقية قبل الشروع في تنفيذها.
أولى القواعد
ثاني المحطات التركية في إفريقيا كانت بجمهورية الصومال الفيدرالية، في العام نفسه الذي أنشئت فيه القاعدة العسكرية في قطر، إذ افتُتحت القاعدة الرسمية الأولى لتركيا في إفريقيا بتكلفة بلغت 50 مليون دولار تقريباً، على مساحة بلغت 400 هكتار، بقوام 1500 جندي تركي كدفعة أولى.
وقد أُنشئت قاعدة "تركسوم" بموجب اتفاقية عسكرية أبرمت بين البلدين عام 2012، بهدف إعادة تأهيل وتدريب الجيش الصومالي، بدأت بعشرة آلاف جندي صومالي.
كما أن القاعدة- الأكبر لتركيا في الخارج- قادرة على استقبال قِطع بحرية وطائرات عسكرية وقوات كوماندوز، وقد أُلحقت بالقاعدة ثلاث مدارس عسكرية يشرف عليها 200 ضابط تركي تولوا عمليات التدريب.
جيبوتي الثانية
لم ينته ِعام 2017 إلا وكانت تركيا قد توصلت لاتفاق على إنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي، هي ثاني قواعدها العسكرية في قارة إفريقيا، حيث جرى الاتفاق بين البلدين في ديسمبر/كانون اﻷول من العام نفسه، وأتى بين عدة اتفاقيات اقتصادية.
حيث تنظر تركيا إلى جيبوتي باعتبارها مركزاً إفريقياً مهماً للتجارة التركية، فموقعها الاستراتيجي على البحر الأحمر دفع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى زيارتها أكثر من مرة، وقام بإنشاء منطقة اقتصادية فيها عام 2014، على مساحة 5 ملايين متر مربع.
وجود عسكري
في ليبيا أصبح الوجود العسكري التركي أمراً واقعاً بدافع المتغيرات السياسية الواقعة على الأرض، خاصة بعدما انقسمت موازين القوى الليبية على الأرض لفريقين: فريق يتموقع شرق البلاد ويقوده الجنرال المتقاعد خليفة حفتر وميليشياته المدعومة عسكرياً من مصر والإمارات، وفريق غرب البلاد يتمثل في حكومة الوفاق المعترف بها دولياً والذي باتت تدعمه تركيا عسكرياً بموجب اتفاقات عسكرية أبرمها الرئيس التركي مع رئيس حكومة الوفاق فايز السراج في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
بموجب هذا الاتفاق أصبح الوجود العسكري التركي على الأراضي الليبية جزءاً من المعادلة العسكرية، حيث أرسلت تركيا عدداً من قواتها يقدر بثلاثة آلاف جندي، مسلحين بعتاد عسكري مصنوع في تركيا ومتقدم تكنولوجياً.
ومن بين العتاد العسكري، طائرات مسيّرة وإف-16 ومدرعات وروبوتات لكشف الألغام ونزعها وقطع بحرية عسكرية، لتكون تحت إمرة الجنود الأتراك مع القوات العسكرية التابعة لحكومة الوفاق، في صورة أشبه بالقاعدة العسكرية النظامية.
نحو غرب إفريقيا
رابع المحطات العسكرية للقواعد التركية اتجهت نحو الغرب الإفريقي واختارت جمهورية النيجر مقراً لها، ففي يوليو/تموز من العام الجاري، وقعت تركيا اتفاقاً مع حكومة النيجر على إنشاء قاعدة عسكرية برية وجوية تهدف لتدريب جيش النيجر وتزويده بالسلاح، فضلاً عن اشتمال الاتفاقية على بنود حول تطوير قطاعات النقل والبناء والطاقة والتعدين والزراعة وغيرها.
تمدد دبلوماسي أيضاً
من جهته يرى المحلل السياسي التركي يوسف كاتب أوغلو لـ"عربي بوست"، أن هذا حق طبيعي لتركيا، وأن إفريقيا هي القارة التي لم تُستغل بشكل صحيح بما يضمن الحفاظ على ثرواتها باعتبارها القارة الخام، الغنية بمواردها وتهيمن عليها دول غربية تنهب ثرواتها.
وأضاف: "تعاني إفريقيا من السياسات الاستعمارية والاستعبادية التي طالت حتى العنصر البشري، والتي استخدمتها معها مثلاً، هولندا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، لذا لابد من بدء تأسيس تعاون مع الدول الإفريقية المختلفة، تعاون مبنيّ على المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة".
وأردف: "لذا فتركيا لها هذا الحق الطبيعي، وهذا يتجلى في ارتفاع عدد السفارات التركية في إفريقيا من 12 سفارة إلى 42 سفارة، وهي ماضية في ازدياد، وكذلك هناك تطوير وزيادة دائمة لرحلات الطيران مع إفريقيا لتطوير العلاقات التجارية والسياسية والاقتصادية، ليربح الجميع وليس طرفاً واحداً فقط".
وحول التوسع في إنشاء قواعد عسكرية وماذا تريد تركيا من غرب إفريقيا، أكد كاتب أوغلو أن تركيا لها الحق كدولة ذات سيادة، في أن تتعاون مع من تريد ومن لا تريد، بل هي أتت إلى إفريقيا متأخرة، لكن أن تأتي متأخرة خير من ألا تأتي.
واعتبر أن العلاقات الاستراتيجية البينية التي تحكم المنطقة ذات أثر كبير في قضية الثروات الطبيعية والثروات المائية والممرات المائية، فهناك دولة مثل السودان لها إطلالة قوية على البحر الأحمر وكذلك جيبوتي وإريتريا والصومال.
وأشار إلى أن هناك اهتماماً تركياً بكل إفريقيا ومنها السنغال وغانا وكينيا والنيجر وغيرها، وتركيا لا تفرض على هذه الدول أن تقيم علاقة معها، بل تأتي مبنيَّة على المنافع والمصالح المشتركة.
بوصلة المشروع في إفريقيا مهمة، يقول كاتب أوغلو، لأنها تتجه نحو الغرب، بالاهتمام بالبعدين الدبلوماسي والسياسي، وتركيا منفتحة على كل إفريقيا، غرباً وشرقاً ووسطاً وكل الاتجاهات.
حماية الإسلام والشعوب
من جهته كشف الكاتب التركي يوسف جاويك لـ"عربي بوست"، أن تركيا تبحث في مساعدة المسلمين حول العالم، وحماية حضارة الإسلام قدر استطاعتها، وأن القواعد العسكرية تسهل لها ذلك في إفريقيا.
وقال جاويك إن رئيس الشؤون الدينية في جولاته الإفريقية السابقة، كان يسأل الشعوب التي يلتقيها عن احتياجاتهم، فكانوا يخبرونه بأنهم بحاجة لمن يحمي دينهم ويسأل عنهم، فالجمعيات التنصيرية تعمل على قدم وساق في تغيير دين الشعوب الإفريقية.
واختتم: "لذلك قرر الرئيس أردوغان أن يدخل إفريقيا بالقواعد العسكرية؛ ليحميها ويحمي شعوبها وإسلامها، وإن تركيا مستفيدة من ذلك، حيث إنها تواجه قوى الغرب في إفريقيا؛ لجعلها قوية أمام محاولات نهب ثرواتها".