يعتبر تفجير بيروت كارثة إنسانية واقتصادية غير مسبوقة، وبالتالي فإن التحرك للوقوف على أسبابه ومحاسبة المسؤولين عنه يجب أن يرتقي لمستوى الكارثة، وبالتالي فإن ملكية شحنة نترات الأمونيوم التي تسبب انفجارها في تدمير المرفأ ومعظم أحياء العاصمة اللبنانية هي نقطة البداية للتوصل إلى حقيقة المتورطين في الكارثة، فهل تم التوصل للمالك الأصلي للشحنة بعد أكثر من أسبوع؟
السؤال البديهي فتح سرداباً بلا نهاية
وكالة رويترز أخذت على عاتقها التوصل لإجابة السؤال الخاص بملكية الشحنة القاتلة، وكيف انتهى بها المطاف في مرفأ بيروت، والشيء الوحيد الواضح هو أنه لا أحد تقدم قط وأعلن ملكيته لها، ورغم وجود كثير من الأسئلة المفتوحة حول الانفجار الهائل الفتاك الذي عصف بالعاصمة اللبنانية، الثلاثاء 4 أغسطس/آب، من المفترض أن تكون قضية الملكية من بين أسهل تلك التساؤلات.
والتحديد الدقيق لهوية المالك، لاسيما لشحنة بمثل خطورة تلك التي حملتها السفينة (روسوس) التي ترفع علم مولدوفا إلى بيروت قبل نحو سبعة أعوام، أمر جوهري في حركة الشحن البحري، كما أنه العنصر الأهم للتأمين على الشحنات وتسوية النزاعات التي كثيراً ما تنشب.
غير أن مقابلات وعمليات بحث عن وثائق، أجرتها رويترز في عشر دول، سعياً لمعرفة المالك الأصلي لهذه الشحنة التي كانت تزن 2750 طناً، كشفت بدلاً من ذلك عن قصة معقدة، تشمل وثائق مفقودة وأنشطة سرية وشبكة شركات صغيرة مغمورة تنتشر في أرجاء العالم.
وقال السياسي المعارض غسان حاصباني، الذي كان نائباً سابقاً لرئيس الوزراء اللبناني "بضاعة كانت منقولة من بلد إلى بلد آخر، وانتهى بها الأمر في بلد ثالث دون مالك للبضاعة. لماذا انتهى بها المطاف هنا؟"
لا أحد يعرف المالك الأصلي لشحنة الموت
ونفى كل من كانت لهم صلة بالشحنة الذين أجرت معهم رويترز مقابلات معرفتهم بالمالك الأصلي للشحنة، أو امتنعوا عن الرد على السؤال. ومن بين الذين قالوا إنهم لا يعرفون المالك قبطان السفينة، وشركة صناعة الأسمدة الجورجية التي أنتجت الشحنة، والشركة الإفريقية التي طلبت شراءها، لكن قالت إنها لم تدفع ثمن الشحنة.
والرواية الرسمية لرحلة السفينة (روسوس) الأخيرة تتحدث عنها بوصفها سلسلة من الأحداث المشؤومة، فالسجلات الملاحية تُظهر أن السفينة جرى تحميلها بنترات الأمونيوم في جورجيا، في سبتمبر/أيلول من عام 2013، وكان من المستهدف تسليمها إلى شركة لصناعة المتفجرات في موزمبيق، غير أن قبطان السفينة واثنين من أفراد الطاقم يقولون إن تعليمات صدرت إليهم قبل أن تغادر السفينة البحر المتوسط من رجل الأعمال الروسي إيجور جريشوشكين، الذي كانوا يعتبرونه المالك الفعلي للسفينة، بالتوقف، على غير ما كان مقرراً في بيروت وتحميل شحنة إضافية.
وصول غامض إلى بيروت
وصلت (روسوس) إلى بيروت في نوفمبر/تشرين الثاني، لكنها لم تغادر قط، حيث علقت في نزاع قانوني بشأن رسوم غير مدفوعة للميناء وعيوب في السفينة. وتقول روايات رسمية إن دائنين اتهموا المالك القانوني للسفينة، المسجل كشركة مقرها بنما، بالتخلي عن السفينة، وتم تفريغ الشحنة لاحقاً ووضعها في مستودع على رصيف الميناء.
ولم تردّ شركة (بارودي وشركاه) للمحاماة في بيروت، التي كانت تمثل الدائنين، على طلبات لتحديد هوية المالك الأصلي القانوني للشحنة. ولم تتمكن رويترز من الاتصال برجل الأعمال الروسي جريشوشكين، وقالت سلطات الجمارك اللبنانية إن السفينة الفارغة غرقت في نهاية الأمر، حيث كانت راسية في 2018.
وخضعت التحركات الأخيرة للسفينة (روسوس) للتدقيق مجدداً بعدما اشتعلت النار في نترات الأمونيوم في المستودع وانفجرت الأسبوع الماضي، في حادث تسبب في مقتل 171 شخصاً على الأقل وإصابة الآلاف وتشريد 250 ألفاً.
مَن الذي دفع ثمن الشحنة؟
ومن بين الأسئلة التي ما زالت تنتظر إجابة: مَن الذي دفع ثمن نترات الأمونيوم؟ وهل حاول في أي وقت استرداد الشحنة عندما احتُجزت السفينة (روسوس)؟ وإذا كان لم يحاول، فلماذا؟
قال مصدر في القطاع إن قيمة الشحنة التي كانت معبأة في أجولة بيضاء كبيرة، كانت تبلغ حوالي 700 ألف دولار، بأسعار عام 2013، وسلطت تحقيقات رويترز الضوء على العديد من المخالفات.
فبموجب الاتفاقيات البحرية الدولية وبعض القوانين المحلية، يجب أن تمتلك السفن التجارية تأميناً لتغطية حوادث مثل الأضرار البيئية وفقد الأرواح أو الإصابات الناجمة عن الغرق أو التسرب أو التصادم، ورغم ذلك فقد ذكر مصدران مطلعان أنه لم يكن هناك تأمين على (روسوس).
وقال قبطان السفينة الروسي بوريس بروكوشيف عبر الهاتف من منزله في سوتشي في روسيا، إنه رأى وثيقة تأمين، لكنه لا يستطيع تأكيد صحتها، ولم يتسن لرويترز الحصول على نسخة من وثائق السفينة.
وقال أنطونيو كونيا فاز، المتحدث باسم الشركة الموزمبيقية التي طلبت شراء شحنة نترات الأمونيوم، فابريكا دي اسبوزيفوس موسامبيكي (شركة موزمبيق لصناعة المتفجرات) (إف.إي.إم)، إن الشركة لم تكن المالك للشحنة في ذلك الوقت، لأنها اتفقت على الدفع عند التسليم.
متاهة من الشركات والأوراق
كانت الشركة المنتجة هي روستافي أزوت الجورجية لصناعة الأسمدة، والتي تمت تصفيتها بعد ذلك. وقال مالكها في ذلك الحين، رجل الأعمال رومان بيبيا، لرويترز، إنه فقد السيطرة على مصنع روستافي لنترات الأمونيوم في عام 2016. وتُظهر وثائق قضائية في المملكة المتحدة أن أحد الدائنين أجبر الشركة على بيع أصولها في مزاد في ذلك العام.
وتدير شركة أخرى المصنع حالياً، هي جيه.إس.سي روستافي أزوت، التي قالت أيضاً إنها لا يمكنها الكشف عن مالك الشحنة، حسبما ذكر ليفان بورديلادزي، النائب الأول لمدير المصنع حالياً.
وقالت شركة فابريكا دي اسبوزيفوس موسامبيكي (شركة موزمبيق لصناعة المتفجرات) (إف.إي.إم)، إنها طلبت الشحنة عبر شركة تجارية، سافارو ليمتد، التي لها شركتان مسجلتان في لندن وأوكرانيا، لكن موقعها الإلكتروني لا يعمل حالياً.
وأظهرت زيارة لعنوان شركة سافارو ليمتد المدرج في لندن يوم الإثنين منزلاً بشرفات، مبنياً على الطراز الفيكتوري وبابه موصد ومحصن، على مقربة من حانات عصرية في شورديتش. ولم يستجب أحد للطرق على الباب.
وتواصلت رويترز مع جريتا بايلين، مديرة شركة سافارو ليمتد المسجلة في بريطانيا، وهي ليتوانية تعمل في قبرص. ورفضت بايلين الإجابة عن أسئلة رويترز.
وقال مصدر على دراية بالأعمال الداخلية للأعمال التجارية لشركة سافارو، إنها تبيع أسمدة من دول الاتحاد السوفييتي السابق لعملاء في إفريقيا.
وتوضح قاعدة بيانات الشركات الأوكرانية (يو كنترول)، أن رجل الأعمال فلاديمير فيربونول مسجل كمدير لسافارو في أوكرانيا، وهي مقر إقامته. ولم يتسن لرويترز التواصل مع فيربونول للتعليق.
ما علاقة ميناء إشبيلية بالقصة؟
مع تحول الحزن والغضب بسبب الانفجار إلى اضطرابات مدنية في بيروت، بدت مؤشرات على أن تحقيق الحكومة اللبنانية الموعود بدأ يعود للتركيز مرة أخرى على السفينة (روسوس) وجريشوشكين، الرجل الذي اعتبره طاقم السفينة مالكها.
وقال مصدر أمني إن الشرطة القبرصية استجوبت جريشوشكين في منزله بقبرص، الخميس الماضي، فيما يتصل بالشحنة، وقال متحدث باسم الشرطة القبرصية إنه تم استجواب شخص لم يُكشف عن اسمه بناء على طلب من الشرطة الدولية في بيروت.
وقال القبطان بروكوشيف إن السفينة (روسوس) وصلت بيروت في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، وبها تسريب، وحالتها العامة متهالكة. فقد كانت تعاني بالفعل من مشاكل.
وفي يوليو/تموز 2013، أي قبل أربعة أشهر من رسوها في بيروت، احتجزت سلطات ميناء إشبيلية في إسبانيا السفينة لمدة 13 يوماً، بعد اكتشاف العديد من أوجه القصور التي كان بينها تعطل أبواب، وتآكل في منطقة السطح، وقصور في المحركات المساعدة، حسبما ورد في بيانات الشحن. وأظهرت البيانات أن السفينة استأنفت الإبحار بعد أن أصدرت شركة التفتيش ماريتايم لويد لها (شهادة سلامة إنشاءات سفينة شحن)، وهي شهادة يفترض أن تتضمن مسحاً للسفينة.
وشركة ماريتايم لويد مقرها جورجيا، وهي غير مصنفة بين أبرز شركات التفتيش وأكثرها استخداماً، وقال تيموراز كافتارادزه المفتش في ماريتايم لويد إنه لا يمكنه أن يؤكد ما إذا كانت الشركة قدمت أم لا وثائق خاصة بالتفتيش للمسؤولين في ميناء إشبيلية. وأوضح أنه كان يعمل بالشركة عام 2013، لكن آخرين من طاقم العاملين والإدارة جرى تغييرهم منذ ذلك الحين.
ولم يتسن على الفور الوصول لمسؤولي ميناء إشبيلية للتعليق، وفي رسالة بالبريد الإلكتروني، أكدت مجموعة مذكرة باريس للتفاهم حول رقابة دولة الميناء التي تضم 27 دولة بحرية وجرى احتجاز السفينة (روسوس) بموجب سلطتها، أن السفينة احتُجزت وجرى تفتيشها في إشبيلية.
وتسجل مولدوفا، المسجلة بها السفينة، أنّها مملوكة لبريروود كورب ومقرها بنما، طبقاً لشهادة ملكية السفينة التي اطلعت عليها رويترز. ولم يتسن لرويترز على الفور التأكد من أن بريروود كورب شركة مسجلة في بنما. ولم ترد السلطات المسؤولة عن البحرية في بنما فوراً على طلبات بالتعليق.
وتفيد السجلات الدولية أن مستأجر السفينة كان شركة تيتو شيبنج ليمتد، ومقرها جزر مارشال، وجرى حلها في 2014 وفقاً لقاعدة بيانات السجل العالمي، التي تقول إنها تقدم خدمات تسجيل الشحن البحري لجزر مارشال، وقال إيجور زهاريا، مدير وكالة مولدوفا البحرية، إن جريشوشكين كان مدير شركة تيتو شيبنج.
وبعث قبطان روسوس لرويترز عنوان البريد الإلكتروني الذي كان وأفراد الطاقم يستخدمونه لشركة تيتو شيبنج، لكن طلبات التعليق التي أُرسلت لذات العنوان الإلكتروني لم تتلق أي إجابة. وأوضح القبطان أنه يعتبر جريشوشكين وتيتو كياناً واحداً.