بدأ المديرون التنفيذيون لشركة أرامكو السعودية عام 2020، بأجواء احتفالية بعد اكتتاب الشركة العام لجزء من أسهمها في السوق المالية، لتصبح الشركة المدرجة الأكبر في العالم، إلا أن هذا العام سرعان ما أصبح أصعبَ عامٍ تشهده شركة النفط التي تسيطر عليها الدولة السعودية منذ عقود، إذ تلقت الشركة الصدمةَ المزدوجة المتمثلة في جائحة كورونا إلى جانب الهبوط الحاد في أسعار النفط الخام، كما تقول صحيفة Financial Times البريطانية.
بعدما أظهرت البيانات انخفاضاً بنسبة 73% في الأرباح الفصلية للشركة، قال الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو، أمين الناصر: "لقد نجحت أرامكو في اجتياز عديد من التحديات على مدار 87 عاماً من تاريخها.. ومع ذلك فإن الأزمة الحالية التي تسببت في أسوأ انكماش اقتصادي منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي تمثّل إلى حدٍّ بعيد أصعب تحدٍّ اقتصادي واجهه العالم" منذ عقود طويلة.
انهيار الطموحات
ومع ذلك فإن النتائج الفصلية للشركة كانت أفضل من نتائج نظيراتها في سوق النفط الدولي، إذ تكبَّد كثير منها خسائر بمليارات الدولارات بعد أن تسببت الجائحة في انهيار الطلب العالمي على النفط وأجبرت الشركات على تخفيض قيمة أصولها إثر انخفاض توقعات أسعار النفط. لكن انهياراً تاريخياً كهذا في أرباح أرامكو السعودية لم يكن ليُتصور وقوعه عندما أطلقت الشركة عملية طرح أسهمها التي طال انتظارها في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ومن ثم فإن الشركة باتت مجبرةً الآن على إعادة تقييم خطط الإنفاق الرأسمالي الخاصة بها وخفض التكاليف وتقليص الطموحات، حتى وإن بدأت أسواق النفط في إظهار بوادر انتعاشٍ أوّلية.
إضافةً إلى ذلك، فإن الشركة، ولأول مرة، تلجأ إلى مراكمة مبالغ كبيرة من الديون لتتمكن من تسديد 69 مليار دولار نظير استحواذها على حصة أغلبية في "سابك" Sabic، الشركة السعودية لصناعات البتروكيماويات الأساسية، من صندوق الاستثمارات العامة للمملكة. وكانت الصفقة صُممت لإعطاء دفعة مالية لصندوق الاستثمارات العامة، الذي يمثل الأداة التي اختارها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لقيادة إصلاحاته الاقتصادية.
وعلى الرغم من الضغوط الحادة، تعهد ناصر أيضاً بتوزيع 75 مليار دولار من أرباح أرامكو السعودية، يذهب معظمها إلى الحكومة، المساهم الرئيسي فيها. كما تستثمر الشركة في زيادة طاقة إنتاج النفط إلى 13 مليون برميل يومياً، بناءً على طلب الرياض، وهو ما يعني إملاء سياسة إنتاج على الشركة، حتى مع تراجعها عن الإنفاق في قطاعات أخرى.
عجز مالي متضخم
لطالما اعتبرت شركة الطاقة العملاقة التي تتولى مبيعات النفط في المملكة العمودَ الفقري لاقتصاد السعودية. ويعد دفع عوائد المساهمين أمراً بالغ الأهمية لكل من المستثمرين المحليين الذين ضخوا الأموال في الاكتتاب العام لقطعة من جوهرة تاج البلاد، وللحكومة التي تصارع لاحتواء العجز المالي المتضخم.
وقد اعترفت الرياض، التي تعتمد على مبيعات النفط في نحو 64% من إيراداتها، بأنها تواجه "أزمة خانقة". يقول ستيفن هيرتوغ، الخبير في الاقتصاد السياسي الخليجي في كلية لندن للاقتصاد: "مقارنةً بالدول الأخرى، فإن الصدمة المالية التي تلقتها السعودية إثر جائحة كورونا أشدُّ بكثير، بسبب اعتمادها الكبير على قطاع النفط للحصول على الدخل".
رفعت الرياض سقف ديونها من 30% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 50 %، واقترضت أكثر من 20 مليار دولار، وضاعفت ضريبة القيمة المضافة ثلاث مرات، وخفضت النفقات التشغيلية والرأسمالية للحكومة. كما شهدت الحكومة، التي لا تزال تمتلك 98% من أرامكو السعودية حتى بعد الاكتتاب العام، عجزاً مالياً تفاقم إلى 29 مليار دولار في الربع السنوي الثاني، في حين تراجعت إيراداتها النفطية بنسبة 45% على أساس سنوي.
ويرجع جزء من ذلك إلى انخفاض أسعار النفط من 70 دولاراً للبرميل في يناير/كانون الثاني إلى 20 دولاراً في أبريل/نيسان، في الوقت الذي تأرجح فيه إنتاج المملكة تأرجحاً حاداً مع صعوده إلى مستوى قياسي بلغ 12.1 مليون برميل يومياً مع دخول المملكة في حرب أسعار، ثم انخفاضه إلى 7.5 مليون برميل يومياً، بعدما فرضت منظمة "أوبك" بقيادة المملكة قيوداً إنتاجية لدعم أسعار النفط الخام. وانتعش خام برنت، لكن فقط إلى نحو 44 دولاراً للبرميل.
ولمواجهة الضغوط المالية، سعت أرامكو إلى تعزيز مرونتها. فمدَّدت جدول السداد لصفقة "سابك" على مدى ثماني سنوات، والتزمت بتخفيض الإنتاج الرأسمالي السنوي بمقدار الربع إلى نحو 25 مليار دولار لعام 2020. وقالت الشركة إن الإنفاق الرأسمالي خلال العام المقبل سيكون "أقل بكثير" من مبلغ 40 إلى 45 مليار دولار التي كانت متوقعةً في البداية.
كما حققت الشركة وفورات في التكاليف بلغت مليار دولار عن طريق اتخاذ تدابير إضافية. ويقول أشخاص مطلعون إن الشركة تعيد التفاوض مع المتعاقدين، وتمدد الجداول الزمنية للمشروعات، وتوقف الحفر في مشروعات أخرى، وتخلت عن مئات من الموظفين الأجانب من ذوي الأجور المرتفعة. كذلك أجّلت الشركة المحادثاتِ بشأن شراء حصة في وحدة تكرير النفط التابعة لشركة "ريليانس إنداستريز" Reliance Industries التابعة لرجل الأعمال الهندي موكيش أمباني.
اقتراض غير مسبوق
الأهم من كل ذلك هو حجم الاقتراض غير المسبوق. فقد قفزت نسبة المديونية –وهي مقياس للديْن إلى حقوق الملكية- إلى 20.1%، من سالب 4.9% في الربع السابق، وهو ما تعزوه أرامكو إلى الديون التي أخذتها لشراء سابك. كما أن هذه النسبة تتجاوز بكثير هدفها الذي كان يبلغ 5-15%.
تأتي هذه الإجراءات الصارمة في ضوء أن التدفق النقدي الحر لأرامكو السعودية، البالغ 21.2 مليار دولار في النصف الأول من العام، لم يكن كافياً لتغطية مدفوعات الأرباح الموعودة البالغة 37.5 مليار دولار لهذه الفترة.
كما يقول نيل بيفريدج، وهو محلل في شركة Bernstein، إنه بصرف النظر عن خفض الإنفاق الرأسمالي، سيتعين على أرامكو تأجيل أجزاء أخرى من استراتيجية النمو الخاصة بها بعد الاكتتاب العام، مثل مشروعات التكرير الخارجية واستثمارات الغاز الطبيعي المسال.
وأضاف بيفريدج أنه "بالنظر إلى مستويات التعزيز الحالية، فإن أسعار النفط بحاجة إلى الاستمرار في الارتفاع، وإما اتخاذ خيارات أشد صعوبة، والتي تشمل في النهاية تقليص الأرباح الموزعة".
متى ستدفع الأرباح المتوقعة؟
من جهة أخرى، يبدو أن هناك توقعاً في الرياض –يستند جزئياً إلى افتراض أن أسعار النفط سترتفع مع تخفيف إجراءات احتواء فيروس كورونا- بأن أرامكو ستدفع أرباحها بالكامل للحكومة والقلة المتبقية من المستثمرين، الذين يتلقون مدفوعات الأولوية، في عام 2021. وقال مسؤول سعودي: "من المتوقع أن تكون الشركة قادرة على الدفع لجميع المساهمين بنهاية هذا العام والعام المقبل".
كما أشار أمين الناصر في يونيو/حزيران إلى أنه في حين أن الشركة تفضل دفع توزيعات الأرباح نقداً، فإنها قد تكون منفتحة أيضاً على إصدار سندات، أو الاقتراض لضمان الوفاء بالتزاماتها. وسعت الشركة إلى التأكيد على أن لديها أيضاً إمكانية الوصول إلى تسهيلات ائتمانية لا تزال تحتفظ بها.
ومع ذلك، فإن تأثير موجة جديدة من جائحة كورونا وتكرار الإغلاق العام وتداعياته على الطلب على الطاقة غير مؤكدة. كما أن مخزونات النفط الضخمة التي تراكمت في وقت سابق من العام لا تزال قائمة، ما يعني الإبقاء على أسعار النفط الخام عند سقف محدد. ومن جانبه، يقول بيراج بورخاتاريا، المحلل في RBC Capital Markets: "السؤال الرئيسي هو إلى أي مدى أنت على استعداد لمواصلة دفع الميزانية العمومية للشركة لكي تواصل دفع الأرباح بالكامل، إذا ظلت أسعار النفط منخفضة؟".