جاء الإعلان المفاجئ عن توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، ليضيف مزيداً من التوتر على منطقة شرق البحر المتوسط، ويثير تساؤلات حول مدى تحقيق الاتفاق للمصالح الوطنية المصرية بعيداً عن الخلافات الأيديولوجية والسياسية بين أنقرة والقاهرة.
ومع أن تفاصيل الاتفاق لم تخرج للعلن بعد، إلا أن الظروف المحيطة بالاتفاق مثيرة للقلق بالنسبة للمصريين، خاصةً أن المحرك الأساسي للسياسة الخارجية المصرية بات واضحاً أنه العداء لأنقرة، وهو ما ظهر لإعطاء أولوية للتدخل التركي في ليبيا، مقابل إعطاء مرونة منقطعة النظير للتهديد الحيوي في ملف النيل.
ومن المعروف أنه بصرف النظر عن الخلافات بين تركيا ومصر، التي هي أيديولوجية وطارئة بالأساس، فإن المصالح المصرية والتركية متقاربة إلى حد كبير، في حين أن مصالح اليونان وقبرص وإسرائيل تتعارض مع المصالح المصرية الجغرافية والطاقوية.
وسبق أن قال نائب الرئيس التركي، ياسين أقطاي، إن "تركيا ومصر لهما مصالح مشتركة في مياه البحر المتوسط الدولية"، مضيفاً: "لذلك، الأفضلُ أن نغضَّ الطرف عن الخلافات بيننا في هذا الموضوع، فنحن عندما نختلف في قضية ليس من الحكمة أن نكون أعداء في كل القضايا، فعلى سبيل المثال نحن نتفق مع روسيا في أمور ونختلف في مواضيع أخرى".
مصر رفضت ترسيم الحدود البحرية مع اليونان في عهد مبارك
نتيجة الوضع المعقد في شرق المتوسط لم ترسم مصر حدودها البحرية إلا مع قبرص في عام 2003، ولم ترسم مصر حدودها البحرية مع إسرائيل ولم ترسم حدودها كذلك مع اليونان، على الرغم من طلب الأخيرة ترسيم الحدود أكثر من مرة، ولكن رُفضت جميع الطلبات في عهد مبارك، وسبب الرفض المصري يعود إلى فهم مصر لطبيعة الأزمة بين تركيا واليونان، وإدراك القاهرة أن ترسيم حدودها مع أي من الطرفين يجب أن يكون بعد وصول الطرفين التركي واليوناني لتفاهم حول حدودهما البحرية.
لكن السبب الرئيسي لرفض مصر السابق ترسيم حدودها البحرية مع اليونان، هو أن الأخيرة قد سعت في عهد مبارك لترسيم حدودها البحرية مع مصر وفقاً للرؤية اليونانية، لكن القاهرة لم توافق مطلقاً، وظل الأمر معلَّقاً، بسبب إدراك مصر أن طريقة ترسيم أثينا للاتفاقية ستكون نتيجتها خسارة مصر جزءاً من المناطق الاقتصادية الخالصة الخاصة بها، وهو ما يعني خسائر احتياطات غاز محتملة في هذه المياه يمكن أن توفر مكاسب اقتصادية هائلة لمصر، بالإضافة إلى مزيد من الأهمية الجيوسياسية في شرق المتوسط.
وأفادت تقارير بأنه كانت هناك توصية مصرية داخلية برفض الطرح اليوناني لترسيم الحدود، لتمسُّكه بمواقف قد تؤدي إلى خسارة مصر مساحات من مياهها الاقتصادية، مع استمرار المفاوضات للتوافق والاستفادة من الموارد.
وتشير هذه الوثيقة إلى تقرير للخارجية المصرية، في 2017، يتحدث عن عن لجوء أثينا إلى "مغالطات وادعاءات وأساليب ملتوية" في المفاوضات عن تعمُّد "استغلال التوافق السياسي بين البلدين لإحراج فريق التفاوض المصري".
القاهرة ترفض الاتفاق التركي الليبي رغم اعتراف شكري بأنه لا يمس مصالح مصر
رغم المصالح المصرية المباشرة المتحققة من الاتفاق التركي الليبي لترسيم الحدود فإن مصر رفضت الاتفاق واعترضت عليه، المفارقة أن وزير الخارجية المصري سامح شكري اعترف بأنه لا يمس المصالح المصرية.
وتذكر البعض الآراء والتقارير أن الاتفاق الليبي-التركي حول ترسيم الحدود البحرية يخدم مصر بالدرجة الأولى، لأنه يعيد لمصر 7000 كم من حدودها البحرية التي تنازلت عنها لحساب اليونان.
كما استفادت مصر من الاتفاقية التركية الليبية من خلال عرقلة الاتفاقية لخط غاز (East Med) الذي تنوي إسرائيل وقبرص واليونان، باهتمام من الاتحاد الأوروبي، إنشاءه في المياه العميقة للبحر المتوسط والذي سينقل الغاز من إسرائيل وقبرص إلى اليونان ومنه إلى أوروبا، ليصبح أحد البدائل التي تسعى إليها أوروبا؛ في محاولة لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي الذي يسيطر على أكثر من ثلث السوق الأوروبية.
وإذا دخل هذا الخط حيز التنفيذ فسيعني خسارة مصر دورها المستقبلي كمنصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي في شرق المتوسط.
ما قصة اتفاقية قانون البحار؟ ولماذا ترفض تركيا الانضمام إليها؟
ترسيم الحدود البحرية أو تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة (EEZ) يتم من خلال معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982.
وتسمح اتفاقية قانون البحار للبلاد بتوسيع مياهها الإقليمية إلى اثني عشر ميلاً بحرياً بحد أقصى، في حين يمكن أن تمتد المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى إجمالي مئتي ميل.
ويسمح القانون الدولي للدول صاحبة المناطق الاقتصادية الخالصة بالتنقيب والأنشطة الاستكشافية على النفط والغاز على امتداد 200 ميل طولي من سواحلها، ويفرض عليها في الوقت نفسه توفير سلامة الملاحة البحرية.
ربما يعتبر تطبيق مثل هذا القانون أمراً سهلاً، ولكن في حالة إقليم يعتبر حوضاً مائياً ضيقاً وتملؤه الاضطرابات والتوترات مثل شرق المتوسط، يصبح تنفيذ القانون أمراً صعباً ومعقداً دون التوافق بين الأطراف المشتركة في الحدود البحرية.
لم تنضم عدة دول إلى قانون البحار ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وإسرائيل وفنزويلا، والسبب الرئيسي وراء عدم انضمام تركيا إلى الاتفاقية يرجع إلى إقرار قانون البحار بأحقية الجزر في امتلاك مناطق اقتصادية خالصة (بغض النظر عن وضعها الجغرافي أو مساحتها)، وهذا يعني بالنسبة لتركيا أن عديداً من الجزر الملاصقة للسواحل التركية، ولكنها واقعة تحت السيادة اليونانية (انتقلت السيادة من تركيا إلى اليونان بعد نهاية الحرب العالمية الأولى)، سوف تؤدي إلى إهدار مساحات كبيرة من المناطق الاقتصادية الخالصة أمام السواحل التركية وفي صالح اليونان.
لكن المشكلة أن دول ساحل المتوسط قريبة بعضها من بعض لدرجة تجعل هذه المناطق تتداخل بعضها مع بعض، وهذه المشكلة تتضح بالأخص في حالة تركيا واليونان وقبرص. لهذا السبب ينبغي تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط عبر اتفاقيات ثنائية بين الدول الساحلية.
وتمتلك اليونان آلاف الجزر، وبمنحها سلطة بحرية واسعة، إلى جانب قبرص، فإن الاتفاقيات الثنائية بينهما ستُحاصر تركيا فعلياً. وتركيا لديها ساحلٌ ممتد، ويؤكد خبراء مستقلون أن تركيا يحق لها تعيين منطقة بحرية أكبر، حسب مجلة National Interest الأمريكية.
تركيا تقدم عروضاً أفضل لمصر
وقالت أنقرة إنها كانت مستعدة لعقد اتفاقات مع مصر ولبنان وإسرائيل، وإنها ستعرض على هذه الدول شروطاً أفضل من شروط اتفاقياتها مع اليونان.
لكن علاقات تركيا بالدول الثلاث تظل متوترة. فقد توترت العلاقات المصرية التركية منذ إطاحة انقلاب 2013 بالرئيس الراحل محمد مرسي المنتخب ديمقراطياً، والذي كان حليفاً لأردوغان، وجاء بعبدالفتاح السيسي إلى السلطة، موجِّهاً سياسة البلاد لمحاربة الإسلاميين الذين انقلب عليهم بعدما عينوه وزيراً للدفاع.
كما أن لبنان يتقاسمه النفوذان الإيراني والسعودي، وكلاهما معادٍ لتركيا لأسباب مختلفة.
أما إسرائيل فهناك عديد من الأزمات بينها وبين تركيا، فقد ظلت العلاقات متوترة منذ غارة إسرائيلية قتلت ناشطين تركيين على متن أسطول يسعى إلى تقديم المساعدات إلى غزة في 2010. وقد عطلت تركيا كل الاتفاقيات العسكرية مع إسرائيل وطردت سفيرها من أنقرة بعد رفض إسرائيل الاعتذار عن الواقعة. ولعبت اعتبارات الطاقة دوراً في إعادة البلدين النظر في علاقاتهما الثنائية. ففي 2016، أعلنت تركيا وإسرائيل أنهما قد توصلتا إلى اتفاقٍ لتطبيع العلاقات، لكن محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، وفشل الجهود الساعية إلى حل مسألة قبرص، إضافة إلى رد فعل تركيا القوي تجاه قرار الولايات المتحدة نقل سفارتها في إسرائيل إلى القدس- حال دون جهود التطبيع بين البلدين.
ما الذي تخبرنا به خرائط ترسيم الحدود؟
نعود مرة أخرى للسؤال الأهم.. ماذا يعني ترسيم مصر حدودها البحرية مع اليونان بالطريقة التي طرحها الجانب اليوناني؟
يقول الباحث السياسي خالد فؤاد في مقال سابق نُشر في "عربي بوست": "سيمثل ترسيم الحدود بين مصر واليونان مزيداً من الحصار القانوني للاتفاقية التركية الليبية، لكن سينعكس ذلك على مصر من ناحية استمرار تهديد خط East Med لتموضع مصر كمنصة إقليمية مع خسارة مساحات ليست بالقليلة من المناطق الاقتصادية الخالصة".
إلا أن زاوية أخرى للمشهد يمكن أن توضح لنا حجم الخسارة التي يمكن أن تلحق بمصر إذا قامت بترسيم الحدود مع اليونان، وهي أنه وفقاً للطرح اليوناني فإن مصر قد تخسر منطقة بحرية بمساحة تقارب 15 ألف كيلومتر مربع، أي إنها تعادل مساحة محافظة الجيزة تقريباً، وتمثل 130 ضعف مساحة جزيرتي تيران وصنافير، ويمكن أن تخسرها مصر إذا ما رسمت حدودها البحرية مع اليونان وفق هوى الأخيرة.
ووفقاً للطرح اليوناني ستخسر مصر مساحات مائية هائلة في منطقة واعدة بالثروات يتنازع جميع أطرافها للحصول على أي مساحة مائية مهما كانت صغيرة، تمكنهم من التنقيب عن النفط والغاز.
ويرى أنه "إذا تم الاتفاق بالطريقة التي تريدها اليونان فإننا سنكون أمام تيران وصنافير جديدتين وتكرار لخسارة المصالح المصرية في سبيل إرضاء حلفاء النظام المصري".
إذ ستخسر مصر هذه المرة مساحات هائلة من المياه ومن دور جيوسياسي تحتاجه في شرق المتوسط.
وبصرف النظر عن تفاصيل الاتفاق فإنه سيكون في غير مصلحة مصر، إذا طُبقت الرؤية اليونانية التي رفضتها القاهرة لسنوات.
والاتفاق إضافة إلى أنه قد يمثل تفريطاً في حقوق مصرية، فإنه يورط الدولة المصرية العربية المسلمة في الخلاف التركي اليوناني المعقد بطبيعته، كما أنه يدفع مصر إلى الانحياز إلى الجانب الأضعف في النزاع (اليونان).
ومن المعروف أن اليونان تحاول توريط مصر وبعض الدول الأوروبية مثل فرنسا، في خلافاتها مع تركيا ثم تسارع هي لتهدئة علاقتها مع أنقرة.
وفي الأغلب فإن هذا النهج لن يؤدي إلا إلى مزيد من التعقيد وعرقلة فرص التوصل لاتفاق حقيقي على تقاسم مياه وثروات شرق المتوسط، إضافة إلى خلق مزيد من الشقاق بين أكبر دولتين إسلاميتين بالمنطقة لصالح اليونان وإسرائيل وقبرص.
كما أن افتراض أن بإمكان القاهرة وأثينا فرض مثل هذا الاتفاق على تركيا بعيد الاحتمال، بل العكس من شأن مثل هذا الاتفاق شحذ الشعور الوطني التركي خلف أردوغان وإعطاء زخم لدور تركيا في ليبيا، وتحركاته في شرق المتوسط.
وبينما ستزول الخلافات المصرية التركية التي هي مؤقتة بطبيعتها، فإن مثل هذا الاتفاق سيظل شوكة في حلق البلدين ومكسباً رخيصاً جَنَتْه اليونان بسبب الخلط بين الخلافات الأيديولوجية والشخصية والمصالح الوطنية والقومية الراسخة.