لا يزال بعض ضحايا تفجير بيروت تحت الأنقاض ولا أحد يعلم بالتحديد كم فقدت لبنان من أبنائها في التفجير المروع الذي حول عاصمتها إلى "مدينة منكوبة"، لكن السجال السياسي في البلاد وخارجها بدأ يتجه نحو مطالبة فريق بتحقيق دولي أو عربي بينما يرفض الفريق الآخر الفكرة من أساسها، فما القصة هذه المرة؟
من يطالبون بتحقيق دولي؟
منظمة العفو الدولية، وهي منظمة غير حكومية مقرها لندن ويتركز عملها حول قضايا حقوق الإنسان، أصدرت بياناً أمس الأربعاء 5 أغسطس/آب تدعو فيه إلى إنشاء آلية دولية "على الفور" للتحقيق في كيفية حدوث انفجار مرفأ بيروت.
البيان الذي أصدرته الأمينة العامة بالإنابة للمنظمة الحقوقية الدولية جولي فيرهار جاء فيه أنه "أياً كان سبب الانفجار، بما في ذلك إمكانية تخزين كمية كبيرة من نترات الأمونيوم بشكل غير آمن، تدعو منظمة العفو الدولية إلى إنشاء آلية دولية على الفور للتحقيق في كيفية حدوث ذلك".
وتلا ذلك بيان مشترك صادر عن أربعة رؤساء حكومة سابقين في لبنان هم سعد الحريري وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام يدعو إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية أو عربية لتحديد أسباب الانفجار.
ثم طالب غسان حاصباني نائب رئيس مجلس الوزراء السابق وعضو حزب القوات اللبنانية بالأمر نفسه بقوله "يجب إجراء تحقيق محلي ودولي في الواقعة، نظراً لحجمها والظروف التي أُحضرت بها هذه البضائع إلى الموانئ".
لماذا ترفض الحكومة الحالية ذلك؟
لكن نائب رئيس مجلس النواب اللبناني، إيلي الفرزلي، رد سريعاً بالقول إن المطالبة بتحقيق دولي في انفجار مرفأ بيروت "تعني إلغاء الدولة اللبنانية"، مضيفاً في تصريحات إعلامية مساء الأربعاء، أن "النقاش الدائر اليوم (بعد انفجار بيروت) يذكر بالنقاش الذي دار بعد اغتيال (رفيق) الحريري (رئيس الحكومة السابق).
من جانبها، أعلنت الحكومة اللبنانية عن إجراء تحقيق يستغرق خمسة أيام، وقال مصدر مطلع لرويترز إن التحقيقات الأولية تشير إلى أن سنوات من التراخي والإهمال هي السبب في تخزين مادة شديدة الانفجار في ميناء بيروت، مما أدى إلى الانفجار الذي أودى بحياة أكثر من 137 قتيلاً ونحو 5 آلاف جريح، وعشرات المفقودين تحت الأنقاض، بجانب دمار مادي هائل، بحسب وزارة الصحة ومراسلي وكالة الأناضول.
وقال رئيس الوزراء والرئاسة الثلاثاء أن 2750 طناً من نترات الأمونيوم، التي تدخل في صناعة الأسمدة والقنابل، كانت مخزنة في الميناء منذ ست سنوات دون إجراءات سلامة، وقال المصدر المسؤول لرويترز "إنه إهمال"، مضيفاً أن مسألة سلامة التخزين عُرضت على عدة لجان وقضاة و"ما انعمل شيء" لإصدار أمر بنقل هذه المادة شديدة القابلية للاشتعال أو التخلص منها.
ما الداعي للمطالبة بتحقيق دولي إذن؟
الحكومة الحالية، المحسوبة بالكلية على حزب الله، ترفض فكرة التحقيق الدولي والتصريحات والمؤشرات جميعها تضع "الإهمال" في قفص الاتهام، لكن المطالبين بتحقيق عربي أو دولي يرون أن "الفساد" هو المتهم الأصلي، ومن ثم هناك مسؤولية جنائية وسياسية تتحملها الحكومة.
ففي هذا السياق، رد السنيورة على الفرزلي في تصريحات إعلامية، قائلا: "ما حدث هو غير عادي ويجب أن يكون هناك تحقيق فيه من جهة محايدة تشكلها الجامعة العربية أو مجلس الأمن"، لافتاً إلى أن "بعض الجهات التي تجري التحقيق الحكومي قد تكون مسؤولة عما حدث، لذلك يخشى تحميل المسؤولية لموظفين صغار".
لكن جانباً آخر من السجال يشير إلى أنه على الأرجح لن يكون هناك متهم يتحمل مسؤولية التفجير المروع، حيث قال المدير العام للجمارك اللبنانية بدري ضاهر لتلفزيون "إل.بي.سي.آي"، الأربعاء، إن الجمارك أرسلت ست وثائق إلى السلطة القضائية للتحذير من أن المادة تشكل خطراً، مضيفاً: "طلبنا إعادة تصديرها لكن هذا لم يحدث. نترك للخبراء والمعنيين بالأمر تحديد السبب".
مصدر آخر قريب من موظف بالميناء قال لرويترز إن فريقاً عاين نترات الأمونيوم قبل ستة أشهر حذر من أنه إذا لم تُنقل فإنها "حتفجر بيروت كلها"، كما تفيد وثيقتان اطلعت رويترز عليهما بأن الجمارك اللبنانية طلبت من السلطة القضائية في عامي 2016 و2017 أن تطلب من "المؤسسات البحرية المعنية" إعادة تصدير أو الموافقة على بيع نترات الأمونيوم، التي نُقلت من سفينة الشحن (روسوس) وأُودعت بالمستودع 12، لضمان سلامة الميناء، وذكرت إحدى الوثيقتين طلبات مشابهة في عامي 2014 و2015.
ضحايا اغتيال الحريري ما زالوا ينتظرون
المؤشرات إذن تقول إن تحميل المسؤولية الجنائية عن تفجير بيروت ربما تصل إلى "تقييد الحادث ضد مجهول"، وربما يكون هذا هو الدافع الأساسي وراء المطالبة بإجراء تحقيق عربي تحت مظلة الجامعة العربية أو دولي تحت مظلة مجلس الأمن، لكن هذا الطرح يعيد للأذهان بالفعل – كما أشار الفرزلي – أجواء 14 فبراير/شباط 2005 يوم اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في تفجير ضخم (1800 كلغم من مادة الـ"تي إن تي" استهدف موكبه في وسط بيروت).
وتم بالفعل تشكيل محاكمة دولية خاصة للتحقيق في الجريمة التي أودت بحياة 21 شخصاً آخرين وأصابت المئات وكانت لها تداعيات سياسية ضخمة، وكان المفترض أن تصدر حكمها أخيراً الجمعة 7 أغسطس/آب الجاري (بعد أكثر من 15 سنة من وقوع الجريمة)، لكن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قررت إرجاء النطق بالحكم في القضية إلى 18 أغسطس/آب الجاري، بسبب تفجير بيروت.
وبالتالي يرى كثير من اللبنانيين أن السجال حول طبيعة التحقيق في تفجير بيروت ما هو إلا انعكاس للانفصال التام بين الطبقة السياسية التي تحكم البلاد وبين الشعب الذي يعاني على كل المستويات، وفي هذا السياق جاء رد الفعل على تعهد الحكومة بمحاسبة المسؤولين عن الانفجار.
فبالنسبة للعمال والمقيمين الذين يجرفون الحطام في حي الجميزة الشهير بحياة الليل تتحلق حولهم سحب الغبار في شكل دوائر، بدا ذلك وعداً آخر من الوعود الفارغة التي سئموا منها، بحسب رويترز.
وقال روني أبوسعد أمام واجهة متجره لبيع الشطائر: "ما الذي يمكن أن يحدث لنا غير الموت؟ كأنهم يريدوننا أن نموت". وتوفي أحد موظفيه تحت الحطام في الداخل، وأضاف: "هذه الدولة تبدو الآن مثل حكامها، القمامة، والأنقاض التي في الشوارع، إنها تبدو مثلهم.. لو كان لدى أي منهم بقية من وعي، لرحلوا".
ماذا يعني التحقيق الدولي لحزب الله؟
حزب الله هو المتهم الرئيسي في قضية اغتيال رفيق الحريري، حيث إن المتهمين الخمسة، بحسب المحكمة الدولية، ينتمون إلى الحزب الشيعي المرتبط بإيران، وباستثناء مصطفى بدر الدين، القيادي العسكري السابق في حزب الله والذي قُتل في سوريا عام 2016، تقتصر المعلومات عن المتهمين الأربعة الآخرين على ما قدمته المحكمة الدولية، ولا يُعرف شيء عن مكان وجودهم.
وأُسندت المحكمة للمتهمين الأربعة، سليم عياش وحسن مرعي وحسين عنيسي وأسد صبرا، اتهامات عدة، أبرزها "المشاركة في مؤامرة لارتكاب عمل إرهابي، والقتل عمداً، ومحاولة القتل عمداً".
لكن تحقيقاً عربياً أو دولياً في تفجير بيروت – حال تم إقراره – لا يفترض أن يمثل مشكلة لحزب الله هذه المرة فهو ليس متهماً، والمتهم الأقرب لتحمل المسؤولية الجنائية هو "الإهمال"، بحسب المؤشرات حتى الآن، فلماذا الرفض إذن من جانب الحكومة المحسوبة على الحزب؟
هناك الشق السياسي بداية، وهو أن الحكومة حتى وإن خرجت نتيجة التحقيق الذي أمرت بإجرائه بالنتيجة المتوقعة وهي أن "الإهمال" السبب في الكارثة وربما محاكمة "بعض الموظفين" الصغار، تظل المسؤولية السياسية عن كارثة بهذا الحجم في رقبة الحكومة ومن ثم حزب الله.
لكن الشق الأهم الذي يخشاه حزب الله وعلى الأرجح لن يسمح به مطلقاً – بعد أن وعى الدرس من المحاكمة الدولية في اغتيال الحريري، هو وجود محققين دوليين معنيين بالأساس بكشف ملابسات تفجير المرفأ من ناحية، ومن ناحية أخرى البحث عن سبل لعدم تكرار كارثة بهذا الحجم وهو ما يعني فتح ملف خريطة توزيع أسلحة حزب الله في لبنان، وهو ما ركزت عليه الصحافة الإسرائيلية في تغطيتها لتفجير بيروت، وهو ما يعني أن مسألة فتح تحقيق عربي أو دولي ربما لا تجد طريقها للتنفيذ هذه المرة رغم حجم الفاجعة.
لكن في ظل المحاصصة الطائفية التي يقوم عليها نظام الحكم في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية وتوقي اتفاق الطائف عام 1990، يظل التحقيق المحلي في كارثة تفجير بيروت محل شك داخلياً وخارجياً بسبب تغلغل تلك المحاصصة في جميع مفاصل الدولة دون استثناء، وهو ما يجعل التحقيق الدولي ضرورة للوصول إلى الحقيقة قدر المستطاع.