"بأسى بالغ، ولكن براحة بال كبيرة" قرر ملك إسبانيا السابق خوان كارلوس مغادرة البلاد للإقامة بالمنفى. هذا هو المشهد الأخير في رواية بدأت قبل أكثر من 45 عاماً، شهدت فصولاً كثيرة أغلبها كان مخفياً عن الأنظار، حتى افتضح أمر هبة ملكية سعودية بقيمة 100 مليون دولار حوّلت كارلوس من رمز وطني إلى مُتهم مهدد بالسجن، فما قصة تلك "الرشوة" وعلاقتها باهتزاز العرش الإسباني؟
مَن هو خوان كارلوس؟
كان الملك خوان كارلوس يعتبر أيقونة التحول الديمقراطي في إسبانيا بعد سنوات طويلة من الحكم الديكتاتوري الدموي للجنرال فرانكو، وظل كارلوس منذ جلوسه على العرش عام 1975 رمزاً لذلك التحول، ولكن تفجّر فضائح تتعلق بسلوكياته الشخصية في البداية حرمته من الاحتفال بالذكرى الأربعين لجلوسه على العرش، حيث تنازل عن العرش لنجله فيليبي السادس الملك الحالي وذلك في يونيو/حزيران 2014.
لكن أمور الملك السابق والأسرة بشكل عام أصبحت أكثر صعوبة قبل عامين، عندما فتح القضاء السويسري تحقيقاً، بتنسيق مع نظيره الإسباني، إثر نشر تسجيلات نسبت إلى عشيقة خوان كارلوس السابقة الأرستقراطية الألمانية كورينا زو ساين Corinna zu Sayn التي تدعي فيها أن العاهل السابق قد تلقى عمولةً بشأن عقد مع السعودية ووضعها في حساب سري في سويسرا عام 2008.
ما قصة الهبة-الرشوة السعودية؟
والأمر هنا الأمر يتعلق بشبهة تلقي خوان كارلوس 100 مليون دولار من عاهل السعودية وقتها الملك عبدالله على هامش صفقة وقعتها الحكومة السعودية مع الشركات الإسبانية (Renfe, Adif و Talgo، BTP OHL)، التي حصلت بموجبها على عقد بقيمة 6 مليارات يورو من أجل تشييد القطار فائق السرعة الرابط بين مكة والمدينة، وكان العقد محطّ منافسة دولية خاصة من قبل الشركات الفرنسية.
كما أن الصفقة كانت تحظى باهتمام كبير كونها تتعلق بتخفيض المدة الزمنية بين المدينتين المقدستين من 10 ساعات إلى ساعتين فقط، ونجحت الشركات الإسبانية الأربع في الفوز بصفقة قطار المشاعر المقدسة بعد منافسة فرنسية قوية (Alastom-SNCF) والتي تحالفت مع مجموعة شركات الراجحي.
وفاز بالصفقة تحالف الشركات الإسبانية (وعددها 12 شركة) وشركتين سعوديتين وكان ذلك عام 2011، لتشييد القطار الذي يمتد على طول 459 كلم ويسير بسرعة قصوى 320 كلم في الساعة ويسمح بنقل أكثر من 60 مليون مسافر سنوياً بمعدل 160.000 شخص يومياً.
عمولة تجارية، رشوة أم هدية سعودية؟
ونأتي هنا لحيثيات التحقيق حول العمولة السعودية والتي تعود إلى سنة 2008 عندما قرر القضاء السويسري بتنسيق مع نظيره الإسباني فتح بحث حول حساب بنكي لخوان كارلوس بسويسرا يضم مبلغ 100 مليون دولار.
هذا التحويل السعودي تزامن مع فوز تحالف الشركات الإسبانية بصفقة القطار السريع، وبحسب الصحافة الإسبانية، فإن "الهبة-الرشوة" السعودية جاءت في إطار شكر الملك الإسباني على التخفيض الذي قامت به الشركات الإسبانية بنسبة 30٪ للحصول على صفقة قطار المشاعر، وهو تخفيض كبير أغضب الشركات الفرنسية-السعودية المنافسة لنظيرتها الإسبانية في هذه الصفقة الكبيرة.
وفي التفاصيل، التقى ارتورو فاسانا المسؤول عن الحسابات بالبنك الخاص السويسري Mirabaud، مع الوزير السعودي الحالي، عادل الجبير، الذي كان آنذاك سفير السعودية بالولايات المتحدة الأمريكية ومستشار الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وخلال اللقاء، طلب المسؤول السويسري من الوزير السعودي مصدر وسبب تحويل 100 مليون دولار الى حساب مؤسسة Lucman.
وأكدت الوثائق التي كانت بحوزة القضاء السويسري أن التحويل تم باعتباره هبة ملكية سعودية لمؤسسة خوان كارلوس المسجلة ببنما، ولكن دون وجود أي وثيقة تثبت القرار السعودي من أجل التحويل، وتعلقت كل المعلومات التي أدلى بها مسؤول البنك السويسري للقضاء بقرار شفهي غير مسجل أو مكتوب عند تسلم الأمر بالتحويل من الوزير عادل الجبير، وأضاف فاسانا أن المبلغ عبارة عن "هدية من الملك السعودي لأخيه الإسباني"، بحسب ما أخبره الجبير وقتها.
بناءً على هذه المعطيات قام البنك السويسري بتحويل 100 مليون دولار بتاريخ 8 أغسطس/آب 2008 عبر أحد حسابات وزارة الخارجية السعودية، ويرجع طلب البنك السويسري لأسباب التحويل من المسؤول السعودي إلى كون الملك الإسباني ينتمي آنذاك إلى ما يعرف بنكياً بشخص معرّض سياسياً PEP (Politically Exposed Person، وبالتالي ضرورة التأكد من الجهة المحولة وأسباب تنفيذ العملية المالية.
فيما بعد أثبتت التحريات أن الملك خوان كارلوس استعمل هذا الحساب منذ 2008 باسم مؤسسة خيرية Lucum مسجلة بجزر بنما، وبعد ذلك قرر سنة 2012 تحويل ما تبقى من هذا المبلغ، حوالي 65 مليون يورو إلى عشيقته كورينا زو ساين Corinna zu Sayn، وقامت الأخيرة بتحويل هذا المبلغ إلى حسابها ببنك سويسري آخر بجزر الباهاماس.
ولتبرئة ذمته، قام وزير المالية السعودي آنذاك بالتأكيد أن الملك عبد الله هو الذي أمر بتحويل مبلغ 100 دولار إلى المؤسسة الخيرية Lucum المرتبطة بخوان كارلوس.
فساد كارلوس لا حدود له
هذه العمليات "المشبوهة" بسويسرا دفعت وسائل الإعلام الإسبانية إلى التساؤل لماذا لم يفكر الملك كارلوس في دفع هذا المبلغ كتبرّع للخزينة العامة في وقت كانت فيه البلاد في حاجة ماسّة للدعم بسبب تداعيات أزمة سنة 2008 وانفجار نسبة البطالة آنذاك، خاصة بين الشباب، لتصل إلى 23%.
وما زاد الطين بلة، كون هذه القضية المالية فجّرت قضية الحياة الخاصة للملك، بسبب علاقته السرية مع عشيقته الأرستقراطية الألمانية التي دامت 10 سنوات، بالتوازي مع الحضور البروتوكولي في الفضاء العمومي لزوجته صوفيا.
قصة هذا العشق أثرت على مدى اهتمام الملك بالشأن العام، والدليل على ذلك انفجار قضية سفره معها إلى أدغال بوتسوانا سنة 2006، وهي السفرية التي ساهمت أكثر في انهيار شعبيته التاريخية وحتى مدى جدوى المؤسسة الملكية ذاتها بالنسق الدستوري الإسباني.
فضيحة سفاري رحلة الأدغال في بوتسوانا
قضايا العاهل الإسباني الذي اختار النفي الطوعي الآن ليست فقط مالية، ففي سنة 2012، صدم الرأي العام الإسباني بعد نشر صوره رفقة عشيقته كورينا زو ساين في رحلة أدغال ببوتسوانا قام بها سنة 2006، وهي الصور التي استفزت الشعب على اعتبار ظروف الأزمة الاقتصادية التي كانت تمرّ بها البلاد آنذاك والآثار الواسعة لسياسة التقشف على الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للإسبان.
الصورة التي أثارت غضب الشارع كان الملك فيها يتباهى بصيده لفيل بإفريقيا، في الوقت الذي كان يصرّح للصحافة بأن مسؤولي الحكومة يجب أن يتحلوا بالجدية والمسؤولية نظراً لظروف الأزمة التي كانت تمر بها البلاد، بل ذهب الى حد القول، إن النسبة العالية للعاطلين تقضّ مضجعه لدرجة عدم القدرة على النوم.
وحسب وسائل الإعلام الإسبانية، قدرت مصاريف هذا السفاري بأكثر من 300 ألف يورو. وكان من الممكن عدم اكتشاف مغامرة كارلوس الإفريقية لولا إصابته في الساق إثر تعثره بالدرج، وهو ما أجبره على العودة بسرعة لتلقي العلاج في البلاد، لتكتشف بعد ذلك الحكومة أن الملك لم يكن قد أخبرها بسفره من قبل كما هو متعارف عليه في البروتوكول الملكي.
وما زاد غيظ الرأي العام الإسباني هو كون الملك هو الرئيس الفخري للفرع الإسباني للجمعية الدولية لحماية الطبيعة WWF World Wildlife Fund ، وبالتالي اصطياده الفيلة ببوتسوانا متناقض مع التزاماته الجمعوية كملك للبلاد.
فضائح عائلية تهدد مستقبل الملكية بإسبانيا
وبالعودة لمشهد النهاية الحزين، نجد أن إعلان كارلوس خيار المنفى دون تحديد الوجهة المختارة، يأتي بعد قرار المحكمة العليا الإسبانية، شهر يونيو/حزيران، فتح تحقيق للبتّ في إمكان تحميله مسؤولية الأفعال التي ارتكبها بعد تنحيه، أي أنه يمكن أن يجد نفسه مُداناً ويقضي عقوبة في السجن، وهو ما سيمثل ضربة قاضية للملكية في إسبانيا.
كما أن فضائح العائلة الملكية لم تقتصر فقط على الملك السابق، ولكنها طالت ابنته كريستينا وزوجها، فقد أدين هذا الأخير سنة 2017 بتهمة استغلال قربه من العائلة الملكية للحصول على صفقات مع بعض الإدارات العمومية، إضافة إلى تضخيمه الفواتير عندما كان رئيساً للجمعية ذات المنفعة العامة Noos.
وأثرت هذه الفضيحة، والتي صدر فيها الحكم بعد شهور من التحقيقات، على صورة العائلة الملكية لاتهامها بالتغطية على خروقات زوج أخت الملك فيليبي السادس، ولتجنب تزايد الضغط الشعبي على المؤسسة الملكية، قام الملك الحالي بمراجعة لائحة أعضاء العائلة الملكية لتشمل فقط والديه، وزوجته وبناته الاثنين، ولكي يتخلص من تبعات فضائح أخته وزوجها، قرر كذلك عدم دعوتهما لمختلف الأنشطة الرسمية الملكية، ودفع هذا الوضع كريستينا إلى العيش بسويسرا بعيداً عن الضغط الإعلامي والقضائي الذي رافق قضيتها والحكم على زوجها بالسجن.
اللافت هنا أن خوان كارلوس ليس الأول بالعائلة الملكية الذي يختار النفي، فجَدّه الفونسو 13 كان قد غادر إسبانيا بعد انتصار الجمهوريين سنة 1931، ليستقر بلوزان بسويسرا مع تحويل كامل ممتلكاته إلى هناك، فهل سيكون اختيار خوان كارلوس منفاه شبيهاً لاختيار جَدّه، أم سيحط الرحال بجزر الدومنيكان، أو البرتغال كما أشارت تخمينات بعض وسائل الإعلام الإسبانية؟