من النظرة الأولى، تبدو نهى وكأنّها رضيعة هزيلة غارقة داخل منامة مُلوّنة تعود إلى شقيقةٍ كُبرى. وفي الواقع تبلُغ الفتاة اليمنية من العمر سبع سنوات، لكنّها تُعاني الجوع الشديد، لدرجة أنّ وظائف أعضائها بدأت تفشل واحدةً تلو الأخرى.
ونهى هي واحدةٌ من بين 2.4 مليون طفل، داخل اليمن الذي مزّقته الحرب، تخشى الأمم المتحدة أنّهم سيصيرون على شفا المجاعة المؤدية إلى الوفاة بنهاية العام نتيجة الصراع والنقص غير المسبوق في التمويل الإنساني إبان الجائحة، كما تقول صحيفة The Independent البريطانية.
"لا نستطيع تحمل كلفة الطعام"
في وقت مُبكّر من الشهر الجاري كان الأطباء يخشون أن تفقد نهى حياتها حين نُقِلَت بنهاية المطاف إلى مستشفى الثورة في الحديدة، المدينة الساحلية التي تُعَدُّ من أكثر المناطق تضرّراً بأزمة الجوع في اليمن.
وقالت والدة نهى، التي تبدو سيئة التغذية وهزيلة أيضاً: "نأكل الخبز في الغالب، مع بعض الأرز، من تبرعات الأصدقاء أو الجمعيات الخيرية. لكنّنا لا نحصل على أيّ بروتينات". وينجحون أحياناً في الحصول على بعض الخضراوات مثل الطماطم.
وأردفت الأم، التي طلبت عدم ذكر اسمها: "لم نمتلك أيّ أموال عند وصولنا بسبب الحرب وقيود فيروس كورونا، لذا لا نستطيع تحمل كلفة الطعام. إذ تتكلّف سلة السلع الأساسية أكثر من 45 دولاراً، التي تُساوي راتب شهر لم نتقاضاه منذ سنوات، ولا نمتلك ما يكفي من المال لإطعام أي من الأطفال بشكلٍ مناسب".
ورغم النقص الحاد في الأدوية والأطباء؛ تُعالِج مستشفى الثورة في الحديدة العديد من الحالات الحرجة، بعد أن قضت وقتاً طويلاً على الصفوف الأمامية لحرب اليمن المستمرة منذ خمس سنوات. وتُعَدُّ المدينة من بين أكثر المدن تضرّراً من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، فضلاً عن أمراض مثل الكوليرا التي تزيد تفاقم حالات سوء التغذية.
قبل كورونا كان الحال سيئاً، وبعدها أصبح أشد سوءاً
قبل وصول الجائحة إلى شواطئ اليمن، كان هناك أكثر من 15 مليون يمني -أي أكثر من نصف سكان البلاد- يعتمدون بالفعل على المساعدات الغذائية الإنسانية من أجل البقاء على قيد الحياة وفقاً للأمم المتحدة. وزاد وصول كوفيد-19، الذي أغلق الشركات وعطّل خطوط الإمداد، من حدة أزمة الجوع.
بينما قالت فانيسا روي، من منظمة Early Warning Systems Network، لصحيفة The Independent البريطانية إنّ عام 2020 قد يكون عاماً سيئاً تاريخياً للجوع في اليمن.
إذ أوضحت: "سيكون العام الحالي هو الأسوأ من ناحية إجمالي السكان المتوقّع أن يكونوا بحاجةٍ إلى مساعدات غذائية". وخلال الأسبوع الجاري دقت الأمم المتحدة ناقوس الخطر بشأن مجاعة أخرى مُحتملة.
إذ قال مُنسّق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة مارك لوكوك، إبان حديثه أمام مجلس الأمن يوم الثلاثاء 28 يوليو/تموز، إنّ البلاد ستشهد ارتفاعاً في معدلات الجوع وسوء التغذية والإصابة بالكوليرا وفيروس كورونا والوفاة بنهاية المطاف في حال عدم زيادة التمويل.
فشل التمويل الإغاثي
ورغم حقيقة أنّ البلاد "على حافة الانهيار"، قال لوكوك إنّ الأمم المتحدة لم تجمع سوى 18% فقط من المبلغ المطلوب لإدارة البرامج هذا العام بعد فشل حملة التمويل. واضطروا بالفعل لإنهاء بعض البرامج الأساسية، ومنها برنامج يُعالج الأطفال الذين يُعانون من سوء التغذية مثل نهى.
وقبل أيامٍ قليلة من تصريحات لوكوك، قالت عدة وكالات تابعة للأمم المتحدة إنّ هناك 1.2 مليون شخص إضافي في جنوب اليمن -الذي تُسيطر الحكومة عليه بنسبةٍ كبيرة- سيُعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد بنهاية العام.
ووصف التقرير المشترك كيف أنّ اليمن يقف في قلب "عاصفةٍ متكاملة" من الصدمات الاقتصادية، والصراعات، والفيضانات، وبلاء الجراد الصحراوي، وجائحة فيروس كورونا حالياً.
وقالت أنابيل سيمينغتون، المتحدثة باسم برنامج الغذاء العالمي في الأمم المتحدة، لصحيفة The Independent: "نحن نشهد تدهوراً مثيراً للقلق الشديد ولا نرى سبيلاً يسمح لنا بوقف هذا التراجع الجاري. يجب أن نتحرّك الآن، وإلّا سيفوت الأوان".
وبعد مرور خمس سنوات على اندلاع الصراع، ليس هناك أملٌ كبير في إنهاء القتال. ويُضاف إلى مشاكل البلاد العديدة أزمة النزاع الأهلي الثاني الذي اندلع في صفوف التحالف المناهض للحوثيين بين الانفصاليين الجنوبيين وبين الحكومة اليمنية المعترف بها.
ووسط عاصفة العنف القائمة كانت البلاد غير مؤهّلة للتعامل مع وصول فيروس كورونا، الذي أصاب 1700 شخص على الأقل وقتل نحو 500 آخرين بحسب الأرقام الرسمية. وقلة إجراء الاختبارات تعني أنّ الأرقام الحقيقية من المتوقّع أن تكون أكبر بكثير.
لكن الخبراء يخشون من أنّ يظل الجوع يُمثّل التهديد الأكبر على حياة المدنيين، رغم أنّ الفيروس زاد الضغوط الهائلة على نظام الرعاية الصحية المتداعي في اليمن.
على شفا الموت
في الواقع تقول منظمة Oxfam إنّ عدد اليمنيين الذين سيموتون هذا العام بسبب الجوع الناتج عن كوفيد-19 سيكون أكبر من ضحايا المرض نفسه. ويُعَدُّ ارتفاع أسعار المواد الغذائية من الأسباب الأساسية للجوع في اليمن. إذ قالت منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة (الفاو) لصحيفة The Independent إنّ تكلفة السلع الأساسية -مثل الدقيق- زادت بنسبة 40% منذ نهاية العام الماضي فقط، بينما ارتفعت أسعار الغذاء عموماً بثلاثة أضعاف منذ بداية الحرب. ويرجع ذلك جزئياً إلى الانخفاض الحاد في المواد الغذائية والمساعدات التي تصل إلى اليمن، البلد الذي يعتمد على الواردات في 90% من إمداداته.
ولكن هناك عوامل أخرى تزيد الضغط على الأسر. إذ أشارت تقارير جديدة تمت مشاركتها مع الصحيفة البريطانية إلى الدمار الذي أصاب قطاع الزراعة في اليمن، الذي يُوظّف نحو نصف عمالة البلاد ويُشكّل 15% من الناتج المحلي الإجمالي، ما سيدفع بالمزيد من الناس إلى شفا انعدام الأمن الغذائي هذا العام.
وقالت منظمة الفاو، الأسبوع الماضي، إنّ إنتاج الحبوب هذا العام من المتوقع أن يتوقّف عند 365 ألف طن متري فقط، أيّ أقل من نصف معدلات ما قبل الحرب.
حيث يُعتقد أنّ نحو مليون نخلة فواكه ماتت خلال السنوات الخمس الأخيرة في الحديدة فقط، المركز الزراعي حيث تعيش نهى، وهو الدمار الذي تعقّبه موقع Bellingcat البريطاني ومنظمة السلام الهولندية Pax باستخدام صور الأقمار الصناعية.
بينما قال ويم زفينينبورغ، مؤلف التقرير: "عثرنا على ثلاثة مواقع حيث كان نخل التمر يختفي خلال السنوات الثلاث الماضية. وفي بعض المواقع، تُظهِر لقطات الأقمار الصناعية أنّ أكثر من نصفها قد جفّ".
وأوضح أنّ الهجمات على المزارع، ومصادر المياه، وحقول التعدين الأرضي الخاصة بالمحاربين، إلى جانب الجفاف، ونقص الوقود اللازم لتشغيل مضخات المياه قد تضافرت معاً لتدمير المنطقة.
تدمير الأراضي الزراعية
في حين قال مشروع بيانات اليمن، الذي يتتبّع الغارات الجوية على البلاد، لصحيفة The Independent إنّه منذ بدء الحرب جرى تنفيذ أكثر من 680 غارة جوية على الأراضي الزراعية بطول البلاد، لتقتل وتجرح نحو 400 مدني وتُدمّر الإنتاج الزراعي. وضربت 153 من تلك الغارات مزارع الحديدة فقط.
واضطر المزراعون، العالقون على خط النار، إلى التخلّي عن مزارعهم بسبب الجفاف والمرض والدمار، وفقاً للصحفي اليمني محمد الحكيمي، الذي أجرى بحثاً مكثّفاً حول الموضوع.
وأردف: "مزارع النخيل في مناطق مثل الحديدة مُعرّضةٌ لخطر الانقراض نتيجة الجفاف والتصحّر الذي يبتلع المناطق". ولم يتضّح بعد التأثير الكامل لذلك على المجتمعات المحلية، لكن دمار المحاصيل مثل نخل التمر يقضي على مصدر دخل وغذاء في آنٍ واحد خلال وقت تعيش فيه العائلات -مثل عائلة نهى- تحت خط الفقر بالفعل.
وبالعودة إلى المستشفى، نجد أنّ والدة نهى ليس لديها أملٌ كبير في المستقبل. إذ تقول: "لا نملك المال، أو وسيلة للحصول على المال، وقد توقّفت غالبية المساعدات بالفعل. آمل فقط أن تبقى ابنتي على قيد الحياة".