يسهل نسيان الأمر الآن، ولكن جاء وقتٌ في بداية جائحة كورونا شهدت أسعار الذهب خلاله سقوطاً حراً.
كان الأمر غريباً، إذ إن الفيروس أثار انهياراً في الاقتصاد العالمي، ومع الوقت أثبت أنها واحدة من الحركات الخادعة البارزة في التاريخ الحديث للأسواق المالية. كشفت جائحة 2020 أنها القوة الدافعة وراء أشرس صعود في أسعار الذهب شهدته السوق.
عند إغلاق التداول في نيويورك، أمس الأول الجمعة 24 يوليو/تموز، ارتفعت أسعار السبائك لتصل إلى 1902.02 دولار للأوقية، أي أعلى بـ30% من المستوى المنخفض الذي وصلت إليه في مارس/آذار، وأقل بـ1% فقط من الارتفاع القياسي الذي وصلت إليه في 2011.
أطلق الفيروس سيلاً من القوى التي تتآمر لتزيد الطلب المحموم على الأمان المُتصور الذي يقدمه الذهب في مواجهة هذه الحالة من الاضطراب، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
فثمة مخاوف من فرض مزيد من حالات الإغلاق بأوامر الحكومة الأمريكية، ومن اتخاذ الساسة قراراً بالدفع بحزم تنشيط اقتصادي غير مسبوقة، ومن قرار القائمين على البنك المركزي (بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي) بطبع الأموال أسرع من أي وقت سابق لتمويل ذلك الإنفاق، ومن انحدار عائدات السندات المعدلة حسب التضخم، لتصل إلى النطاق السلبي في الولايات المتحدة.
كما أن هناك مخاوف من حدوث انخفاض مفاجئ لأسعار الدولار مقابل اليورو والين، ومن تصاعد وتيرة التوترات بين الولايات المتحدة والصين (ولعبت الأموال الصينية دوراً كبيراً في تصحيح الاختلالات المالية الأمريكية، ولكن مع استمرار التوتر بين الجانبين يُخشى أن تتخلى الصين عن هذا الدور).
ماذا سيحدث في أسعار الذهب لو تخلت الصين عن الدولار؟
ففي مواجهة رغبة واشنطن في الانفصال المالي عن الصين.
سيصبح هناك سؤال هو: من سيُموّل العجز الادخاري الأمريكي بدل الصين في حال توقفت الأخيرة عن شراء السندات الأمريكية (بكين هي الدائن الأكبر للولايات المتحدة، لتصدرها قائمة دول العالم في حيازة سندات الخزانة الأمريكية).
وتحدثت تقارير عن أن بكين بدأت في التفكير جدياً بشأن تخفيض استثماراتها في سندات الخزينة الأمريكية، في الوقت الذي تملك فيه حالياً حوالي 1,1 تريليون دولار من السندات الحكومية الأمريكية.
وسيصبح إيجاد بديل يمول العجز الأمريكي صعباً، بالنظر لحجم الاقتصاد الصيني الكبير، والأهم أنه سيصبح من الصعب إغراء الدول البديلة بضخ أموالها في الأوراق المالية الأمريكية بعدما فقد الدولار مميزاته، وسيكون هناك تساؤل حول أي أسعار الفائدة التي سيتطلبها هذا الوضع الجديد لجذب بديل للتمويل الصيني؟ حسبما حذَّر ستيفن روتش، عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، والرئيس السابق لمورغان ستانلي آسيا، ومؤلف كتاب "غير متوازن: تكامل أمريكا والصين" في مقال سابق نشرته وكالة Bloomberg أيضاً.
الخوف الأكبر من الركود التضخمي
ومع ربط هذه النقاط، اتّضحت أنها مجتمعة أثارت قلقاً في بعض الدوائر المالية من أن الركود التضخمي -وهو تركيبة نادرة من بطء النمو وارتفاع التضخم تتآكل معها قيمة الاستثمارات ذات الدخل المحدد- يمكن أن يترسخ في بعض أنحاء البلاد المتقدمة.
في الولايات المتحدة، حيث لا يزال الفيروس مستعِراً ولا يزال التعافي الاقتصادي متوقفاً، يعلو صوت هذا الجدال. إذ إن توقعات المستثمرين المتعلقة بحدوث تضخم سنوي على مدى العقد القادم -وفقاً لمقياس سوق السندات المعروف بنقاط التعادل- زادت في الأشهر الأربعة الماضية بعد التراجع المشهود في شهر مارس/آذار.
وفي يوم الجمعة، ارتفع سعر الذهب بنسبة 1.5%. وبرغم أن نسبة هذه الزيادة لا تزال أقل من مستويات ما قبل الجائحة، وأدنى من مستهدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2%، فإن هذه النسبة لا تزال أعلى بحوالي نقطة مئوية كاملة من العائد البالغ 0.59%، الذي تدفعه سندات خزانة الولايات المتحدة التي مدتها 10 سنوات، والتي تمثل الصك المرجعي.
قال إدوارد مويا، أحد محللي الأسواق في شركة Oanda Corp، إن الدافع الرئيسي وراء أحدث صعود في أسعار الذهب "تَمَثَّل في معدلات الفائدة الحقيقية التي تواصل الانهيار ولا تبرز أي إشارات على التعافي في أي وقت قريب".
وأضاف أن الذهب كذلك يجذب المستثمرين "القلقين من أن الركود التضخمي سيسود وسوف يؤذن على الأرجح بمزيد من التوفيق من جانب الاحتياطي الفيدرالي".
كانت أسواق السندات الأمريكية دافعاً محركاً وراء التهافت على الذهب، الذي يعد تحوطاً جذاباً خلال وقت تنخفض فيه عائدات سندات الخزانة إلى ما دون الصفر، برغم أنها يُفترض لها أن تزيل تأثيرات التضخم. ينظر المستثمرون إلى ملاذات آمنة لن تفقد قيمتها.
الأمريكيون العاديون يتهافتون على الذهب
والآن يتدفق الهوس باقتناء الذهب إلى الأمريكيين العاديين، فقد ساعد صغار المستثمرين في وضع حيازات صناديق المؤشرات المتداولة المدعومة بالذهب، على طريق تحقيق المكاسب للأسبوع الـ18 على التوالي، وهي أطول سلسلة منذ عام 2006. وفي غضون ذلك، واصل الذهب تحقيق سابع مكسب أسبوعي له يوم الجمعة، ولا يتوقع المحللون أن تنتهي هذه الزيادة في أي وقت قريب.
وقال مارك موبياس، الشريك المؤسس في شركة Mobius Capital Partners، خلال مقابلة أذيعت عبر شبكة Bloomberg TV: "عندما تصل معدلات الفائدة إلى الصفر أو تقترب من الصفر، يصبح الذهب أداة يكون امتلاكها جذاباً؛ لأنك لست في حاجة للقلق بشأن الحصول على معدلات فائدة من الذهب الذي تملكه. [في هذه الحالة] كنت سأمضي في الشراء الآن وسأواصل الشراء".
هذا هو سعر الذهب بعد عام ونصف العام حسب توقعات بنك أوف أميركا
كان المحللون يتنبأون بصعود ضخم في أسعار الذهب لأشهر عديدة.
وفي أبريل/نيسان، رفع بنك أوف أميركا السعر المستهدف الوصول إليه لأوقية الذهب على مدى 18 شهراً إلى 3000 دولار.
قال فرانسيسكو بلانش، رئيس قسم بحوث السلع والمشتقات في بنك أوف أميركا، يوم الجمعة: "تقدم الجائحة العالمية تعزيزاً مستمراً للذهب"، واستشهد في حديثه بالآثار الأخرى التي تتضمن انخفاض أسعار الفائدة الحقيقية، وتزايد عدم المساواة، وانخفاض الإنتاجية.
وأضاف: "فضلاً عن ذلك، لمّا كان الناتج المحلي الإجمالي للصين يتقارب بسرعة مع مستويات الولايات المتحدة بمساعدة الفجوة المتسعة في حالات الإصابة بمرض كوفيد-19، يمكن أن يتكشف تحول جيوسياسي بنيوي في التوازن بين الطرفين، ما يزيد من دعم حجتنا بالوصول إلى سعر مستهدف للذهب 3000 دولار على مدى الـ18 شهراً القادمة".
جاء هذا التنبؤ الجريء من بنك أوف أميركا بعد انخفاض أسعار الذهب في بادئ الأمر خلال شهر مارس/آذار، عندما حاول المستثمرون الحصول على السيولة النقدية لتغطية خسائرهم الناتجة عن الأصول ذات المخاطر الأعلى (يبدو أن هذا تم عبر بيع جزء من محافظهم الذهبية). وسرعان ما تعافت أسعار الذهب بعد خفض الاحتياطي الفيدرالي لمعدلات الفائدة على الصكوك المرجعية والإشارات التي تفيد بأن الخسائر الاقتصادية لفيروس كورونا سوف تؤدي إلى جهود تحفيز ضخمة من الحكومات العالمية والبنوك المركزية.
ليست هذه المرة الأولى التي يتلقى فيها الذهب مساعدة من برامج التحفيز التي تأتي برعاية البنك المركزي الأمريكي (بنك الاحتياط الفيدرالي).
ففي المدة الواقعة بين ديسمبر/كانون الأول 2008 ويونيو/حزيران 2011، اشترى الاحتياطي الفيدرالي 2.3 تريليون دولار من الديون، وأبقى تكاليف الاقتراض عند معدل قريب من الصفر في المئة، في محاولة لدعم النمو، وهو ما ساعد في رفع أسعار السبائك إلى مستوى قياسي بلغ 1921.17 دولار، في سبتمبر/أيلول 2011.
وقال أفشين نبوي، مدير التداول لدى شركة MKS PAMP Group لتصفية وتداول الذهب، إن الأزمة التي وقعت قبل عقد من الزمان كانت كلها تتعلق بالمصارف. وقد قال ذلك في الوقت الحالي الذي يرى فيه أسعار الذهب "تتجه نحو كسر حاجز الـ2000 دولار".
وأضاف قائلاً: "لأكون صريحاً، لا أرى هذه المرة نهاية النفق"، على الأقل حتى موعد الانتخابات الأمريكية، في نوفمبر/تشرين الثاني.