أثارت نتائج القمة الإفريقية المصغرة التي عقدت الثلاثاء الماضي، بشأن أزمة سد النهضة الإثيوبي، بين زعماء مصر والسودان وإثيوبيا، وبمشاركة الاتحاد الإفريقي والمراقبين الدوليين، حالة من الغضب والإحباط في الشارع المصري، كما فرضت العديد من التكهنات حول مستقبل المفاوضات في الفترة المقبلة.
خاصة أن نتائج القمة التي لم تفض إلى شيء إلا تثبيت سياسة الأمر الواقع التي تفرضها الحكومة الإثيوبية، لم تكن متوقعة للمتابعين والمهتمين بتطورات الأزمة داخل مصر وخارجها.
فالموقف الرسمي المصري بدا أضعف بكثير من المتوقع، خاصة بعد إعلان إثيوبيا رسمياً، الانتهاء من مرحلة الملء الأولي لخزان السد، والتي تقدر بـ 4.9 مليار متر مكعب من المياه، بقرار منفرد، وهو ما يمثل تحدياً للموقف المصري الذي أكد عدة مرات أنه لن يسمح بالملء إلا بعد توقيع اتفاق نهائي بين الدول الثلاث.
فهل وضعت إثيوبيا الدولة المصرية أمام خيارين أحلاهما مر، إما استمرار التفاوض في ظل استمرار أديس أبابا ملء خزان سد النهضة المرة تلو المرة ، أو أن تُجبر مصر على اختيار الحل العسكري لمنع إثيوبيا من الاستمرار في خطة تعطيش المصريين؟
جاء اتفاق الدول الثلاث، على استئناف المفاوضات مرة أخرى، خلال الفترة المقبلة، في صورة بدا وكأنه تراجع مصري عن لهجة التهديد أو استسلام لسياسة الأمر الواقع التي فرضتها إثيوبيا، في القمة التي عقدت بمشاركة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ورئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك، ونظيره الإثيوبي آبي أحمد، ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي، وعدد من قادة الدول الإفريقية.
ما زاد الطين بلة تلك التصريحات التي نسبت إلى وزير خارجية إثيوبيا غيدو أندارجاشو، الأربعاء، بعد ساعات من انتهاء القمة، والتي أبدى خلالها سعادته بانتهاء المرحلة الأولى من ملء سد النهضة قائلاً في رسالة تهنئة عبر "تويتر" باللغة الأمهرية: "تهانينا.. سابقاً كان النيل يتدفق، والآن أصبح في بحيرة، في الحقيقة.. النيل لنا".
هذه التغريدة أثارت حالة من الغضب والاستنكار لدى المصريين، وتساءلوا هل تمكنت إثيوبيا بالفعل من فرض سياستها للسيطرة على مياه النهر، وما هي الخيارات التي مازالت بجعبة مصر خلال الفترة المقبلة، لكي تضمن حقوقها التاريخية في مياه النيل؟
المعركة في بدايتها
في البداية قال مصدر دبلوماسي قريب من الرئاسة المصرية لـ "عربي بوست" إن معركة سد النهضة الإثيوبي لم تنته بعد، ومازال أمامها الكثير من الوقت، وتتطلب سياسة النفس الطويل، معتبراً أن الجانب المصري مازال يمتلك كافة الخيارات، ولكنه يحرص على سياسة ضبط النفس والتحركات المدروسة بعناية.
وشدد المصدر – الذي طلب عدم ذكر اسمه – على أن المعركة الدبلوماسية والقانونية بشأن السد الإثيوبي مازالت في بدايتها، مؤكداً أن مصر لم تتخل عن شيء من حقوقها التاريخية، ولن يحدث ذلك، لافتاً إلى أن الدبلوماسية المصرية تدير الملف بحكمة ومهنية شديدة، وتحرص على علاقاتها الطيبة بشركائها في مياه النهر وتؤكد حسن نواياها تجاه الجانب الإثيوبي، ولكن دون التفريط فى حقوق الشعب المصري التاريخية.
وقال: "نحن نؤكد للوسيط الإفريقي والمراقبين الدوليين موقفنا المتزن والمسؤول مقارنة بمواقف الطرف الإثيوبي التي يشوبها الكثير من الاستفزاز".
وحول الخيارات المصرية خلال الفترة المقبلة، أكد الدبلوماسي الرفيع أن المعركة القانونية والسياسية هي أولوية الجانب المصري، وأن الخيارات الأخرى تظل مطروحة، لأن معركة مياه النيل هي مسألة مصيرية بالنسبة للشعب المصري لا يمكن التفريط فيها بحال من الأحوال.
وبشأن احتمالية تراجع الخيار العسكري أو انتهاء دوره خاصة بعد بدء الملء، أكد المصدر أن مصر مازالت تمتلك كافة الأوراق بما فيها الخيار العسكري، لافتاً إلى أن انتهاء مرحلة الملء الأول لن يغير من الأمر شيئاً، لأن حجم المياه المخزنة داخل بحيرة السد لا يتجاوز 5 مليارات متر مكعب، وهي كمية مياه صغيرة نسبياً، فخيار القوة العسكرية يظل متاحاً خلال عامين على الأقل من الآن دون حدوث آثار على دولتي المصب، مؤكداً في نفس الوقت أن الخيار العسكري مازال مستبعداً حتى اللحظة وأن النظام المصري مازال يعول على انتهاء الأزمة من خلال الحل الدبلوماسي للحفاظ على العلاقات الطيبة بين دول حوض النيل.
مجلس الأمن مرة أخرى
من جهته، أعرب السفير محمد مرسي، مساعد وزير الخارجية المصري للشؤون الإفريقية سابقاً، عن عدم ارتياحه لما آلت إليه القمة الإفريقية المصغرة، وأن تأكيد إثيوبيا انتهاءها من مرحلة الملء الأول لخزان بحيرة السد رغم صغر حجمها إلا أن التصرف له مدلول كبير، ويكشف عن تعنت إثيوبي واضح فى مواقفها المختلفة.
وانتقد مرسي تصريحات وزير خارجية إثيوبيا التي ادعى خلالها أن النيل الأزرق أصبح بحيرة إثيوبية، واعتبرها تصريحات غير مسؤولة وطالب وزارة الخارجية المصرية باستدعاء عاجل للسفير الإثيوبي بالقاهرة، وإبلاغه احتجاج مصر بشكل رسمي على هذا التصريح.
كما طالب بأن تخاطب مصر الوسيط الأفريقي، ممثلاً فى دولة جنوب إفريقيا بصفتها رئيس الاتحاد الإفريقي وتبلغها برفض مصر للموقف الإثيوبي الجديد.
وحول رؤيته للخيارات المتاحة أمام مصر، دعا مرسي مصر لإعلان رفض المشاركة في جولة المفاوضات المقبلة، باعتبار أن إثيوبيا اجهضتها بهذه التصريحات التي أعلنت بعد ساعات من القمة الإفريقية المصغرة، والتي اتخذت قرار استئناف المفاوضات خلال الفترة المقبلة.
كما طالب مرسي بضرورة مخاطبة مجلس الأمن الدولي رسمياً وطلب استئناف جلسته الخاصة بسد النهضة والتي تأجلت لإتاحة الفرصة للاتحاد الإفريقي لحل الأزمة، مع التأكيد على أن مصر تحتفظ بحقها في اتخاذ ما تراه مناسباً من إجراءات لحماية حقها في الحياة، والاستعداد الجدي لممارسة هذا الحق بما يتناسب وظروفنا ومصالحنا.
واتفق الدكتور محمد نصر الدين علام، وزير الموارد المائية المصري الأسبق، مع الرأي السابق في ضرورة استدعاء الخارجية المصرية للسفير الإثيوبي في القاهرة، لاستنكار ما سماها "تصريحاتهم الرسمية الخرقاء" وإبلاغ الاتحاد الافريقي باستنكار مصر لهذه التصريحات والمطالبة بتدخلهم رسمياً لتحقيق الالتزام، لأن هذا يؤدي إلى تهديد استمرار المفاوضات الجارية وقد يتسبب في إفشالها، حسب قوله.
نتائج القمة لصالح مصر
وحول تقييمه للقمة الإفريقية المصغرة، قال علام إن نتائج القمة لم تكن سيئة كما يتصور البعض، وأرى أنها تمثل إنجازاً جيداً بكل المقاييس، حيث إن القمة أكدت ضرورة التفاوض للتوصل إلى إطار قانوني ملزم لقواعد وتشغيل سد النهضة.
وكذلك الاتفاق على فصل موضوع محاصصة مياه النيل الأزرق عن المفاوضات الجارية، والاتفاق على عقد جولة مفاوضات مستقبلية تتعلق بإطار التعاون بين الدول الثلاث بهدف تعظيم استخدامات النهر، وهو ما تريده كل من مصر والسودان.
وشدد علام على ضرورة اتخاذ مجموعة من الإجراءات، خلال الفترة المقبلة، منها أن يصدر الاتحاد الإفريقي بياناً بما تم الاتفاق عليه تجنباً للبلبلة التي أحدثتها بعض التباينات الواردة في بيانات الدول الثلاث، مع الأخذ في الاعتبار جميع بنود الاتفاق المزمع التوصل إليه وألا تركن مصر والسودان لوعود أو تعهدات شفهية من الجانب الإثيوبي والذي ثبت عليه عدم الالتزام بها.
وأكد علام ضرورة استمرار وفد التفاوض المصري في ممارسة ضغوطه من أجل التوصل إلى توقيع اتفاقية ملزمة، لأن عدم توقيع اتفاقية يصب في مصلحة إثيوبيا، والتي تراهن على انتهاء بناء السد وتخزين المياه من خلال استخدام أساليب المراوغة والخداع لإضاعة الوقت وفرض سياسة الأمر الواقع.
فقد تمنى الإثيوبيون أن تكون الظروف غير مواتية لتوجيه ضربة عسكرية لها خلال فترة الملء الكامل لخزان السد، وهذا ما حدث.
وشدد وزير الموارد المائية الأسبق على أن مصر لن تترك حقها أبداً، ولن تتنازل عن حصتها التاريخية في مياه النيل، ولكن لكل شيء وقته المناسب.
اتفاقية ملزمة
وحول الدور الذي ستقوم به مصر خلال الفترة المقبلة، أوضح علام أن مصر تسعى الآن وتحت مظلة الاتحاد الإفريقي إلى تذليل العقبات بأكثر قدر ممكن من الصبر والثبات وإثبات المخالفات التي تقع من الجانب الإثيوبي بشكل رسمي، والخروج بواحد من اثنين، إما اتفاقية ملزمة تنهي الأزمة، وإما إثبات التعنت الإثيوبي أمام الاتحاد الإفريقي، ثم التحرك تبعاً لذلك.
وحول توقعاته لشكل المفاوضات في الفترة المقبلة، توقع علام أن تكون جولات المفاوضات المقبلة مشابهة لما حدث خلال الفترات السابقة، مع وجود دور أكبر للمراقبين لمحاولة وقف أي خروج عن الإطار الذي تم الاتفاق عليه، معرباً عن أمله في التوصل إلى اتفاق شامل في النهاية.
وحول البدائل الأخرى المطروحة أمام دولتي المصب، قال علام: هناك العديد من البدائل المتاحة، منها إعادة القضية مرة أخرى إلى مجلس الأمن الدولي، في حال لم يتمكن الاتحاد الإفريقي من التوصل إلى اتفاق شامل بين الدول الثلاث، ووضع المجلس أمام مسؤولياته على أساس أن هذه القضية تمثل تهديداً للأمن والسلم الدوليين.
فضح المؤامرة الإثيوبية
وأكد الدكتور طه عبدالعليم، الخبير في العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أنه لا جدوى من مفاوضات تريدها إثيوبيا على الطريقة الإسرائيلية مع الفلسطينيين، أي التفاوض المراوغ كسباً للوقت اللازم لفرض الأمر الواقع على مصر.
وطالب عبدالعليم الجانب المصري بضرورة كشف حقائق الموقف الإثيوبي المراوغ، أمام الرأي العام العالمي والإفريقي، خلال الفترة المقبلة، لافتاً إلى أن مراوغات إثيوبيا بشأن الملء الأول خطوة لمصلحتنا في فضح المؤامرة الإثيوبية، مشيراً إلى أنه مع استخدام مصر لأدوات الضغط الدبلوماسي عالمياً وإفريقياً، ينبغي العودة مجدداً إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار يلزم إثيوبيا بضرورة التوقيع على اتفاقية قانونية ملزمة بشأن ملء وتشغيل سد النهضة بمشاركة مصر والسودان، وأن استمرار تعنت إثيوبيا يمثل تهديداً للسلم والأمن الدوليين.
اللجوء إلى القوة العسكرية
وأوضح عبدالعليم أنه إذا نجحت مصر في ذلك وهذا غير مستبعد، يكون لنا الحق المشروع في الدفاع عن النفس، ويمكن لمصر اللجوء إلى الخيار الأخير باستخدام القوة لردع ما يهدد وجودها وحياتها، لافتاً إلى أن مصر قد تقرر اللجوء إلى الخيار العسكري في الوقت وبالأسلوب المناسبين، وهذا ما سوف تحدده القيادة السياسية.
من جهته، طالب الدكتور أحمد المفتي، أستاذ القانون الدولي، والعضو السابق بالوفد السوداني لمفاوضات سد النهضة، بضرورة إيقاف المفاوضات احتجاجاً على الخطوات الإثيوبية الأحادية، خاصة بعد إصرارها على بدء الملء الأول بقرار منفرد، لكي لا يشكل الأمر سابقة قانونية، مشيراً إلى أن استمرار المفاوضات بعد إعلان إثيوبيا الملء بإجراء منفرد يعني "شرعنة وتقنيناً" لهذا الإجراء.
كما طالب المفتي حكومتي مصر والسودان بسحب التوقيع على إعلان المبادئ الذي وقعته الحكومتان مع الجانب الإثيوبي عام 2015، لأن الملء أتى بإجراء إثيوبي منفرد وانتهك وثيقة إعلان المبادئ، إضافة إلى انتهاكاتها الأخرى للإعلان.
ودعا لإرجاع ملف القضية إلى مجلس الأمن الدولي، واستصدار قرار بموجب الفصل السابع، لإلزام إثيوبيا بعدم اتخاذ أية إجراء آخر إلا بعد وصول إثيوبيا إلى اتفاق ملزم مع دولتي المصب، يحدد حقوق والتزامات كل دولة، خاصة أن مجلس الأمن سبق أن طلب من إثيوبيا عدم الملء بقرار منفرد.
مياه السد تفتقد "المشروعية"
وشدد المفتي على ضرورة تكوين فريقين سودانيين، لدراسة آثار انخفاض منسوب النهر، وأي انخفاض عن المعدل الطبيعي، لتحديد الأضرار على المواطنين السودانيين، على طول مجرى النهر حتى الحدود السودانية المصرية، وذلك لتحديد ما يلزم من تعويضات.
وحذر المفتي من أنه باستمرار مصر والسودان في المفاوضات بعد إعلان إثيوبيا الانتهاء من الملء الأول، يكونان قد أكسبا الملء الأول، وكل ملء وتشغيل لاحق، بإرادة إثيوبية منفردة مشروعية "ضمنية".
وأشار أستاذ القانون الدولي إلى أنه في حال عدم اتخاذ هذه الإجراءات من جانب حكومتي البلدين، فإن على الشعبين السوداني والمصري أن يعتبرا أن مياه سد النهضة أصبحت "مياهاً حمراء"، أي أن كل المياه التي يحتجزها السد الإثيوبي تفتقد المشروعية، وفق القانون الدولي، وتمثل تهديداً لحياة شعوب أسفل النهر، ولا ينتفي هذا الوصف إلا بعد أن تنجح الحكومات فى توقيع اتفاق شامل وملزم يحقق مصالح الدول الثلاث ولا يمثل ضرراً لأحد الأطراف.