افتُتِح فندق بريستول أوتيل (أو فندق لو بريستول) المرموق في بيروت، الذي يقع في الزاوية عند تقاطع حي فردان السكني الراقي، عام 1951. واستضاف مرقصه حفلات الزفاف والمراسم والتجمعات السياسية لعلية المجتمع في البلاد على مدار أكثر من نصف قرن.
فمن شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي وزوجته ثريا إسفندياري بختياري، إلى ألبرت أمير موناكو والرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، تبدو قائمة ضيوفه كما لو أنَّها أرشيف سياسي لكبار الشخصيات، كما يقول موقع Middle East Eye البريطاني.
وتُحفَظ في "كتابه الذهبي" توقيعات شخصيات أخرى نافذة، مثل الطيار الأمريكي تشارلز ليندبيرغ، إلى جانب نزار قباني، الضيف منتظم التردد على الفندق وأحد أكثر شعراء العالم العربي المحبوبين.
معلم خالد.. لم يبقَ منه إلا القصص
وبمجرد الدخول إلى بهو الفندق العصر والمليء بالألوان، من تصميم المصمم الداخلي الفرنسي الشهير جان رويير، المعروف بأسلوبه الراقي لكن الغريب، ستتجه عيناك على الفور إلى مجموعة كراسي وأرائك "Ours Polairs" (الدب القطبي) المرغوبة بشدة وتعود للأربعينيات، والتي وصفها مغني الراب ومرشح الرئاسة الأمريكي الحالي كانييه ويست ذات مرة بأنَّها "قطعة الأثاث المُفضَّلة لدي".
ويمكن للمرء أن يستحضر ذكرى أسطورة موسيقى الجاز الأمريكي ديزي غيليسبي، الذي نزل في الفندق عام 1965. ويُقال إنَّ غيلسبي كان يُبهِج النزلاء بحكاياته الرائعة بانتظام، لأنَّه لم يكن فقط مبدعاً في نفخ البوق، بل كان أيضاً راوياً بالفطرة.
لكن بعدما أغلق الفندق أبوابه في وقتٍ سابق من هذا العام، 2020، لم يبقَ منه إلا القصص. فحين أعلنت إدارة لو بريستول في 15 مارس/آذار الماضي أنَّ الفندق سيضطر لإغلاق أبوابه لأنَّه سيُفلِس، قُوبِلَت الأخبار بصدمة.
تسبَّبت المصاعب الاقتصادية المتفاقمة التي أشعلت الهبّة الشعبية في لبنان أكتوبر/تشرين الأول الماضي في إبعاد الكثير من السياح وقدوم حجوزات قليلة فقط في الشتاء.
لكن مع ظهور الجائحة العالمية وما تلاها من إجراءات إغلاق لوقف انتشار فيروس كورونا، بما في ذلك إغلاق مطار رفيق الحريري، شهدت البلاد لاحقاً أسوأ أزمة اقتصادية منذ الحرب الأهلية، وهو ما وجَّه الضربة القاضية لصناعة السياحة في البلاد.
وفي حين أشاد البعض بالمطبخ الراقي عالي الجودة، خصوصاً الحلوى باريسية الطابع، تذكَّر آخرون ميزات معينة للفندق تعلَّقوا بها أثناء نشأتهم. بل وأصبحت إحدى هذه الميزات "طقس عبور" للكثير من الشباب، فمثلاً كانت حلبة التزلج على الجليد الدائرية الصغيرة، التي افتُتِحَت في أواخر الخمسينيات، هي الأولى في لبنان.
ويقول خالد سعيدي، وهو مدير متقاعد يبلغ من العمر 75 عاماً، لموقع Middle East Eye البريطاني: "اعتدنا الصعود إلى الشرقة للاستماع لذلك الرجل الإيطالي الذي اعتاد أن يشدو بالأغاني الإيطالية مع فرقة أوركسترا".
تقول نظيرة الأطرش، وهي مديرة عامة سابقة للفندق، إنَّ ما كان يدفع الناس للعودة هو الشعور بالانتماء. وتضيف نظيرة، التي أُقيم حفل زفافها وحفلات زفاف أخواتها الأربع في الفندق: "كان بريستول مكاناً يلتقي فيه الشباب والكبار، لأنَّ لديه شيئاً يقدمه للجميع".
أقرب شيء للعالم الخارجي
ومع أنَّ بريستول يشكِّل جزءاً من الذاكرة الجمعية لبيروت، فإنَّه، شأنه شأن معظم الفنادق الفاخرة، لم يكن في متناول اللبنانيين العاديين، ولو أنَّه مع ذلك ظل يلعب دوراً في أحلامهم وتطلعاتهم.
قال فؤاد كنعان، وهو مترجم يبلغ من العمر 62 عاماً، للموقع: "كل تلك الفنادق، تماماً مثل الجامعات الخاصة، ومثل الجامعة الأمريكية في بيروت، كانت رمزاً لحلم الهجرة إلى الخارج. لقد كانت أقرب شيء لدينا للعالم الخارجي".
ولم يكن بإمكان كنعان، الذي نشأ في منطقة الطريق الجديدة التي تقطنها الطبقة العاملة غربي بيروت، إلا أن يحلم بالإقامة في واحدة من غرف الفندق، التي يقول إنَّ الليلة الواحدة بها كانت تُكلّف أكثر مما قد يجنيه في شهرٍ كامل.
وأضاف: "كنا نحن البنانيين العاديين نريد أن نكون جزءاً من النخبة اللبنانية، أن نعيش مثلما كانوا يعيشون. أن نتذوق طعم العالم خارج لبنان". بالنسبة له ولأصدقائه، كانت تلك الفنادق طريقاً إلى العالم الغربي. وقال: "كنتُ أشاهد كيف يتحدثون لبعضهم وشكل ملابسهم، كنا مفتونين بحياتهم الساحرة". ورؤية طريقة حياة هؤلاء الناس ألهمته أن يُعلِّم نفسه اللغة الإنجليزية، من خلال الاستماع إلى الراديو وترجمة الأغاني.
لكنَّ الكثير من تلك الأماكن التي تبعث على الحنين ستُدمَّر ببطء لكن باستمرارخلال الحرب الأهلية المدمرة في البلاد، التي اندلعت بعد سنوات قليلة. وخلال الحرب، انقسمت معظم أجهزة الدولة الإدارية، بما في ذلك الجيش، إلى مكونات طائفية مختلفة.
ومع التدخل المتزايد من جانب القوى الخارجية وصراعات القوى التي لا تنتهي على ما يبدو داخل المجتمعات الطائفية المختلفة، استمرت الحرب الأهلية 15 عاماً، وراح ضحيتها قرابة 100 ألف قتيل وأكثر من مليون مُشرَّد. وتحوَّلت خلالها بيروت من وصفها بـ"باريس الشرق" إلى كونها مرادفاً للموت والخراب.
إعلان بريستول
وكدليل على المرونة، نجح فندق لو بريستول في إبقاء أبوابه مفتوحة خلال الحرب الأهلية، في الغالب بسبب مديرته آنذاك، آنا أراكيليان. وكانت مشهورة جداً بصلابتها لدرجة أنَّها باتت معروفة بـ"المرأة الأرمينية الحديدية"، وجرى تقليدها وساماً لجهودها، مثلما ذكرت صحيفة Le Monde الفرنسية في عام 1982.
وكتبت الصحيفة الفرنسية: "قرَّرت ذات يوم أنَّه سواء كانت هناك حرب أم لا… وسواء كان لو بريستول تحت القصف أم لا، فإنَّه سيظل كما ينبغي أن يكون"، بل وأصبح الفندق ملجأً للمُشرَّدين من منازلهم، ولو أنَّه كان خياراً باهظاً محجوزاً لقلة محدودة من السكان كان بإمكانها تحمُّل تكاليفه.
يقول المدير السابق سعيدي: "في المساء، كنا نجلس على الدَرَج المؤدي إلى مدخل الفندق نتناول شراباً، ونستمع إلى الأخبار على راديو جلبناه معنا".
كان أحد الأسباب التي مكَّنت الفندق من البقاء مفتوحاً خلال الحرب الأهلية هو قدرته على توفير المرافق الأساسية لكن الضرورية، مثل الكهرباء. خلال تلك الفترة، كان لو بريستول أيضاً معروفاً بأنَّه الفندق الذي يذهب إليه المراسلون الأجانب الذين يغطون المنطقة.
يستذكر مارتن شورت، وهو صحفي بريطاني بارز، أولى مهامه في بيروت لصالح قناة ITV البريطانية عام 1969. ويقول لموقع Middle East Eye: "كنا بعد حرب 1967، وكنا كلنا خائفين من أنَّ الحرب قد تندلع مجدداً". ويضيف: "في حين كان فندق سان جورج معروفاً بخصوصيته والمكائد والجواسيس المحترفين، كان المراسلون الأجانب يُفضِّلون البقاء في لو بريستول، لأنَّه كان معروفاً بأنَّه واحد من أفضل الفنادق العملية، يسوده التكتُّم وفي منطقة هادئة".
وبعد سنوات، في أواخر خريف 2004، أصبح لو بريستول خلفية لإعلان حمل اسمه. فبحلول ذلك الوقت، كانت الهيمنة السورية على لبنان قد أدَّت إلى انتقادات داخلية متصاعدة وضغط خارجي متزايد. وشجَّع هذا تحالفاً متعدد الطوائف من مجموعات المعارضة اللبنانية على إصدار بيان عام مشترك يُعرَف بـ"إعلان بريستول" عقب اجتماعات تمت في الفندق.
أدان الإعلان التمديد غير الدستوري لعهدة الرئيس آنذاك إميل لحود، ودعا لإنهاء سياسة الفساد وحق اللبنانيين في تقرير المصير. وأثار اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري بعد فترة قصيرة من ذلك، في يوم عيد الحب عام 2005، سلسلة من تظاهرات المقاومة المدنية السلمية غير المسبوقة، بلغت ذروتها في 14 مارس/آذار حين غمر ما يُقدَّر بمليون لبناني وسط بيروت في ما أُسمي بـ"ثورة الأرز"، للمطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال. وعقب التظاهرات، انسحبت القوات السورية من لبنان يوم 27 أبريل/نيسان 2005.
معركة الفنادق
أصبح فندقا سان جورج وهوليداي إن إلى جانب فندق لو بريستول بيادق في ما تُسمَّى "معركة الفنادق"، وهي معركة فرعية في السنوات الأولى للحرب الأهلية، قاتلت خلالها الميليشيات المتنافسة بعضها البعض من أجل السيطرة على أفخم ساحات الأغنياء في بيروت، ما حوَّلها إلى ملاجئ للقناصة وأبراج للصواريخ.
وفي حين قد يكون لو بريستول صمد في وجه حرب أهلية امتدت 15 عاماً، وثورة الأرز، والحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006، لكنَّه لم يتمكَّن من الصمود في وجه الأزمة الاقتصادية الناجمة عن عقود من فساد النخبة السياسية.
يقول كنعان: "في تلك الفترات، كانت هذه الأماكن (المواقع والفنادق الفخمة) تمنحنا الأمل. لكنَّها الآن باتت رمزاً لكل ما هو خاطئ في البلاد. وهي تبرز التباين الاقتصادي".
وبهذا المعنى، فإنَّ المصير المأساوي لفندق لو بريستول أصبح رمزاً لمصير البلد المتعثر ككل. ما الذي يعنيه إذاً إغلاق لو بريستول، أو بالأحرى ما كان يُمثِّله لفترة طويلة، بالنسبة للبنان الآن؟
يقول بيار ضومط، المدير التنفيذي السابق للفندق وأحد أفراد العائلة اللبنانية الثرية المالكة للفندق منذ إنشائه، إنَّ مناخ الأعمال الحالي في لبنان لم يعد مناسباً لأعمال عائلة كعائلته. لكنَّه يشدد على أنَّه لا يزال يحدوه أمل بالنسبة لفندقه وللبنان ككل.
وحتى بعد إغلاق لو برستول، من المقرر أن يبقى معلماً ثقافياً، معلماً يحشد المجتمع حول ذكرياته المشتركة. وهو يمثل تذكرة للبنان في أفضل أوقاته وأحلكها.