فيما تنتقد دول أوروبا خاصة ألمانيا وفرنسا حلف الناتو والدور الأمريكي المتراجع في الحلف، فإن الواقع يشير إلى أن أوروبا تتحمل الدور الأكبر في إضعاف الناتو أمام روسيا، في وقت تعمد فيه الأخيرة إلى تطوير جيل جديد من الأسلحة لا قبل للناتو بأساليبه التقليدية بها.
قبل فترة قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن الناتو مات إكلينيكاً، وهو ما أثار انتقادات من قبل الرئيسين التركي والأمريكي، ولكن من المسؤول عن هذا الموت أو على الأقل، إضعاف الناتو أمام روسيا.
دور أوروبا في إضعاف الناتو أمام روسيا
وبينما حاول ماكرون الإيحاء بأن سبب مشكلات الناتو هي سياسات تركيا والولايات المتحدة، فإن هذه الانتقادات تتجاهل دول أوروبا ولاسيما فرنسا وألمانيا في إضعاف حلف الناتو.
ففرنسا التي اشتبكت في نزاع مع تركيا عندما حاولت التدخل لتقليل الهيمنة الكردية على مناطق شمال شرق سوريا ذات الغالبية العربية، تجاهلت أنه يفترض أن على الناتو أن يحمي حدود أعضائه، أي يفترض أن تقف دول الحلف مع تركيا مع التهديد الذي يمثله المسلحون الأكراد الذين هم فرع من حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في معظم دول أوروبا إضافة إلى اضطهاده للأغلبية العربية في شمال شرق سوريا إضافة إلى تحالفه مع النظام السوري وعلاقته التاريخية بروسيا ومن قبلها الاتحاد السوفيتي عدو الناتو التاريخي.
في المقابل، فإن فرنسا التي غضبت من تحركات أنقرة في سوريا لم تحرك ساكناً من تغلغل النفوذ الروسي في ليبيا خاصرة أوروبا الجنوبية بل إنها حليف في المحور المؤيد لحفتر الذي يعد أحد أدوات موسكو في التدخل في المنطقة، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل في وقت تعزز فيها روسيا نفوذها في البحر المتوسط وتكشف فيه أن موسكو دفعت أموالاً لقتل الجنود الأمريكيين في أفغانستان تتعزز فيه العلاقة الفرنسية مع روسيا الخصم الأول لأوروبا والناتو والدولة التي تفيد تقارير رسمية بأنها تآمرت من أجل انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي.
أما ألمانيا الدولة الأوروبية الغربية التي يفترض أنها الأكثر قلقاً من روسيا والتي تنتقد ترامب على قراره بتخفيض القوات الأمريكية على أراضيها، فإنها الزبون الأكثر أهمية لخط غاز نورد ستريم الذي يعزز هيمنة روسيا على سوق الطاقة الأوروبي.
كما أنها الدولة الأكثر بخلاً في الاستجابة للطلب الأمريكي برفع نسبة الإنفاق العسكري لدول الناتو لمستوى 2% وهي تريد من الولايات المتحدة أن تخصص الجزء الأكبر من مواردها لحماية أوروبا من روسيا التي تستورد منها الغاز، فيما تواصل ألمانيا الاقتصاد في الإنفاق العسكري بينما تغرق سياراتها الفاخرة السوق الأمريكية مسببة الجزء الأكبر من العجز التجاري الأوروبي مع أمريكا الذي يغضب إدارة ترامب.
وتتجاهل ألمانيا التي حققت فائضاً مالياً قياسياً خلال السنوات الماضية، أن العهد الذي كان يمكن تقبل فيه فكرة أن تتحمل الولايات المتحدة العبء المالي والعسكري الأكبر لحماية أوروبا قد ولى بالنظر إلى الثراء والتقدم الذي أصبحت عليه العديد من الدول الأوروبية ولاسيما ألمانيا، وبالنظر إلى أن الصين أصبحت منافساً لا يقل خطورة بالنسبة لواشنطن مما يستلزم حشد الموارد الأمريكية في الجبهة الآسيوية.
والأهم أن الأولى أن ترفع ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية نسبة الإنفاق العسكري لأن قوة موسكو العسكرية تهدد برلين وباريس ووارسو وغيرها من العواصم الأوروبية وليس واشنطن، وبالتالي البديهي أن تدفع هذه العواصم نسبة أكبر أو مساوية على الأقل للولايات المتحدة في حلف الناتو.
المفارقة أنه في مواجهة هذه الانتقادات الأمريكية، ألمحت ألمانيا أنجيلا ميركل إلى أن حملة واشنطن التي تطالب بمزيد من المشاركة في الأعباء الدفاعية للناتو يمكن أن تدفع أوروبا نحو نوع جديد من الحياد بين روسيا وأمريكا.
ولكن هل التجربة مع بوتين تشير إلى أنه سيستقبل الحياد الأوروبي المحتمل بنوايا سليمة؟
لماذا لا تتجاوب ألمانيا مع ترامب كما فعلت اليابان؟
وعلى العكس الشائع فإن الولايات المتحدة واصلت إظهار دعم ملموس للناتو وأوروبا.
فقد وقعت الولايات المتحدة في عام 2018 صفقة بقيمة 4.75 مليار دولار مع بولندا، لتوسيع نشر أنظمة الدفاع الصاروخي باتريوت التي تواجه روسيا.
في نفس العام ، نشرت الولايات المتحدة سرباً من قوة سترايكر كجزء من برنامج الوجود المعزز لحلف الناتو، بما في ذلك "مجموعة قتالية" تابعة للحلف بقيادة الولايات المتحدة.
أما فيما يتعلق بقرار إدارة ترامب تقليل وجود القوات الأمريكية في ألمانيا، فإنه مرتبط بخطط لنقل القوات الأمريكية من ألمانيا إلى بولندا لتصبح أقرب إلى روسيا.
وفيما يتعلق بأوكرانيا، وهي دولة ليست عضواً بحلف شمال الأطلسي، قدمت إدارة ترامب حوالي نصف مليار دولار من المساعدات العسكرية، بما في ذلك تسليم صواريخ جافلين المضادة للدبابات، وهو أمر رفضت إدارة أوباما القيام به دائماً.
كما سمحت الإدارة الأمريكية لأوكرانيا للتو بنقل هذه الأسلحة إلى خطوطها الأمامية في دونباس التي تقاتل الانفصاليين المدعومين من روسيا. وتستمر الولايات المتحدة في التفوق على حلفائها في حلف شمال الأطلسي وأوروبا في دعم أوكرانيا في مواجهة الضغوط الروسية، وهو ما يمثل 90% من جميع المساعدات العسكرية لأوكرانيا.
تقول مجلة The National Interest الأمريكية إن إدارة ترامب لم تخضع لإرهاب روسيا ولم تتخل عن الناتو. كل ما تفعله هو أن تطلب من حلفائها القيام بالمزيد، مما يعكس النمو الهائل في أوروبا في الثروة والازدهار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا سيما مع نهوض الصين، فإن المزيد من تقاسم العبء في أوروبا بات مطلباً بديهياً.
وقد ردت اليابان على هذه الدعوة في آسيا، وزادت قدراتها العسكرية بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.
تقول المجلة "لم تعد الولايات المتحدة قادرة على التصرف كقوة عسكرية وحيدة مهيمنة حول العالم. كما تفهم اليابان وتفعله بالفعل، ويجب على الحلفاء الأوروبيين المشاركة وتقديم المزيد للمساعدة في الحفاظ على الاستقرار العالمي، لا سيما في الفناء الخلفي الخاص بهم.
مع التطورات في الأسلحة الروسية هناك حاجة للتغيير في الناتو
هناك ضرورة جديدة لإعادة التوازن في أوروبا.
نتيجة للبخل الألماني والانتهازية الفرنسية والتقلب الأمريكي، فإن الناتو يبدو يواجه مأزقاً خطيراً أمام الأسلحة الروسية المستجدة.
إذ يعتقد أن قدرات الناتو أصبحت نسبياً متقادمة لأنها موجهة لأسلحة الحرب الباردة في حين أن روسيا تطور قدرات طائرات بدون طيار وصواريخ أسرع من الصوت قد يكون الناتو غير قادر على التعامل معها.
إن الطائرات بدون طيار، والصواريخ التي تفوق سرعة الصوت مراراً والتي تتسم بالدقة أحدثت ثورة في الحرب.
ستصبح قواعد العمليات المتقدمة للولايات المتحدة الموجودة في الناتو أكثر عرضة للضربات الأولى من قبل هذه الأنظمة التي تختلف عن أي شيء معروف في الماضي.
في غضون بضع دقائق أو حتى ثوانٍ من وقت السفر، يمكن لروسيا أن تطلق وابلاً مفاجئاً من الصواريخ وهجمات الطائرات بدون طيار على كل قاعدة ومقر أمريكي في أوروبا، إلى جانب الضربات الإلكترونية الفورية وحتى الضربات الفضائية، حسب المجلة الأمريكية
تجبر التهديدات التي تشكلها هذه القدرات الروسية الجديدة الولايات المتحدة وحلفاءها على الجلوس وتقييم كيف يجب عليهم إعادة تنظيم هيكل قوتهم في أوروبا الغربية من أجل البقاء ومواجهة وردع مثل هذه التحديات الجديدة.
التحضير للحرب مع المشاة والدروع الكبيرة مثل قوات سترايكر الأمريكية هو بمثابة استعداد لحرب في الماضي وليس للمستقبل.
ترى المجلة الأمريكية أن أحد التعديلات التي يمكن إجراؤها سيكون التحول إلى بصمة أساس أصغر للولايات المتحدة في أوروبا.
وتقول إن هذا من شأنه أن يساعد على ضمان البقاء على قيد الحياة ضد الضربات الأولى المفاجئة. إن جلب بعض الموارد العسكرية التي تعود إلى الخارج إلى الاحتياطي الاستراتيجي للولايات المتحدة يمكن أن يسهل على الولايات المتحدة الرد على هجوم صاروخي مفاجئ أو هجوم بطائرات بدون طيار أو هجوم إلكتروني على الناتو في أوروبا ومواجهته.
لا يحتاج جميع حلفاء الناتو فقط إلى الوفاء بالتزامات الموازنة التي تبلغ 2%، والأهم من ذلك، أنهم بحاجة إلى الاندماج في استراتيجية دفاعية مشتركة من شأنها معالجة تحديات الحرب الجديدة هذه.
تثير جدوى الحفاظ على وجود عسكري أمريكي كبير ومستمر في أوروبا قضايا تتجاوز الحاجة إلى طمأنة حلفاء الولايات المتحدة عبر الحفاظ على المزيج الحالي من مستويات القوات في أوروبا.
قد يصبح الاحتفاظ بقواعد عمليات كبيرة في أوروبا ترفاً لم تعد الولايات المتحدة وحلفاؤها قادرين على تحمله.
ربما لن يكون التهديد الكبير هو الدبابات التي تتدفق عبر ممر فولدا (ممر كان ينظر له تقليدياً أنه سيكون الطريق الذي سيسلكه أي غزو سوفييتي لأوروبا).
ولكن ما يجب على الناتو التأهب له هو أنظمة الأسلحة الروسية الجديدة، مثل صواريخ Avangard الروسية، وهي صواريخ انزلاق يُزعم أنها قادرة على السفر بسرعة تصل إلى سبعة وعشرين مرة سرعة الصوت تجاه أي قاعدة أمريكية أمامية في أوروبا.
يجب أن يستعد الجيش الأمريكي لمستقبل أكثر عداء. إذا لم يحدث ذلك، فإن القوات الأمريكية المتمركزة حالياً في أوروبا معرضة لخطر التحول إلى خط ماجينو في مواجهة نوع جديد من الحرب الخاطفة (خط دفاعي أنشأه الفرنسيون خلال الحرب العالمية الثانية، والتف حوله النازيون).
ولكن الأهم من التطور في المجال العسكري أن تعرف دول أوروبا من هو عدوها الحقيقي، بعد أن تسببت سياستها في تعزيز قوة روسيا، والأهم في خلخلة التحالفات التقليدية التي كانت تميز الناتو.