بعد أقل من خمسة أشهر على تشكيلها، انهارت الحكومة التونسية في وقت تواجه فيه الديمقراطية العربية الوحيدة التي يبدو أنها نجت حتى الآن من الثورات المضادة، أزمات متعددةً اقتصادية واجتماعية، فهل تكون الانتخابات المبكرة المَخرج الوحيد المتاح في ظل التجاذبات السياسية الحالية؟
ماذا بعد إقالة الفخفاخ؟
الساحة السياسية في تونس الآن تشهد أحداثاً متلاحقة، بدأت بتقديم عريضة تطالب بسحب الثقة من حكومة إلياس الفخفاخ، مروراً بإقالته لكل وزراء حركة "النهضة" من حكومته، وانتهاء باستقالته من رئاسة الحكومة، وجاءت الإقالة ضمن أزمة متصاعدة بين الفخفاخ و"النهضة"، منذ أن قررت الحركة بدء مشاورات لتشكيل حكومة جديدة، في ظل "شبهة تضارب مصالح" تلاحق الفخفاخ الذي ينفي صحتها.
كل هذه الأحداث طرحت استفهامات عدة حول ما ستؤول إليه الأمور في البلاد، والتداعيات التي ستخلفها استقالة الفخفاخ وإقالة وزراء "النهضة"، وعن دور الرئيس قيس سعيّد في احتواء الاحتقان والتوتر على الساحة السياسية.
وكان البرلمان قد شهد الأربعاء الماضي 15 يوليو/تموز، تقديم لائحة (عريضة) تطالب بسحب الثقة من حكومة الفخفاخ، حملت توقيع 105 نواب، بينهم كتل "النهضة" و"قلب تونس" (ليبرالي- 27 نائباً) وائتلاف الكرامة (ثوري- 19)، وفق وسائل إعلام محلية، وكان تمرير اللائحة إلى مكتب البرلمان يتطلّب 73 توقيعاً فقط، ثم التصويت عليها في الجلسة العامة بالأغلبية المطلقة للأصوات (109)، بحسب الدستور.
جاء ذلك التحرك بعد أن كانت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تونس (دستورية) قد أعلنت إحالة وثائق تتعلق بالتصريح بالمكاسب وشبهات تضارب مصالح متعلقة برئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، إلى القضاء ورئيس البرلمان راشد الغنوشي.
المحلل السياسي بولبابة سالم قال لـ"الأناضول"، إن "استقالة الفخفاخ خطوة استباقية، وإن المعركة الآن أصبحت معركة تكسير عظام، فحركة النهضة رأت أن خطاب الفخفاخ فيه نوع من التعالي والتقزيم لها كحزب أول في البرلمان، ومن ثم اعتبرت أن ما حصل كان استفزازياً"، وأضاف أن "التصريحات الأخيرة للفخفاخ رأت فيها النهضة استفزازاً ونوعاً من التكبر، فارتأت تقديم اللائحة التي كانت ستؤدي إلى سحب الثقة منه قبيل استقالته".
والإثنين، قال الفخفاخ في بيان، إنه سيُجري تعديلاً وزارياً خلال الأيام القليلة المقبلة، مع تلميحات بإزاحة "النهضة" من الحكومة، وذلك غداة قرار مجلس شورى "النهضة"، بشأن إطلاق مشاورات لتشكيل حكومة جديدة، واعتبر سالم أن "ما وقع من إقالات لأعضاء الحكومة التابعين لحركة النهضة، رد فعل صبياني من الفخفاخ، ونوع من رد الفعل أو محاولة لتسجيل هدف بعد نهاية المباراة، ذلك أن الفصل 98 ينص على استقالة كل أعضاء الحكومة بمجرد استقالة رئيسها".
والأربعاء، أعلنت رئاسة الحكومة التونسية إقالة 6 وزراء، هم ممثلو حركة النهضة بالتشكيل الحكومي، وذلك بعد ساعات من تقديم رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، استقالته إلى الرئيس قيس سعيّد، وشدد سالم على أن "السياسة لا تدار بالانفعالات أو بردود الفعل، وأقل ما يقال (عن إقالة وزراء النهضة) أنها مراهقة سياسية".
كيف وصلت الأمور لتلك النقطة الحرجة؟
الانتخابات التي أُجريت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أسفرت عن برلمان متشرذم حصل فيه أكبر حزب، وهو حزب حركة النهضة، على ربع المقاعد، واستغرق الأمر حتى فبراير/شباط، إثر عديد من البدايات المتعثرة، لتشكيل حكومة تتمتع بأغلبية بسيطة في البرلمان، لكن تلك الحكومة شابتها انقسامات أيديولوجية عميقة، خاصة فيما يتعلق بمشكلات مُلحة مثل الماليات العامة والديون.
ومنذ 27 فبراير/شباط الماضي، ترأس الفخفاخ ائتلافاً حكومياً يضم كلاً من: "النهضة" (إسلامية- 54 نائباً من 217)، والتيار الديمقراطي (اجتماعي ديمقراطي- 22 نائباً)، وحركة الشعب (ناصرية- 14 نائباً)، وحركة تحيا تونس (ليبيرالية- 11 نائباً)، وكتلة الإصلاح الوطني (مستقلون وأحزاب ليبرالية- 16 نائباً).
لكن سرعان ما طفت الخلافات على السطح عندما ذكرت تقارير أن شركات يملك فيها الفخفاخ أسهماً استفادت من عقود حكومية، وبعد أن طالب حزب النهضة باستقالته، طلب الرئيس قيس سعيّد أيضاً منه التنحي.
فمنذ ثورة 2011 التي أتت بالديمقراطية بعد عقود من الحكم الاستبدادي، أصيب الاقتصاد بالركود وتراجعت مستويات المعيشة كما تدهورت الخدمات العامة، وتجنبت الائتلافات الحاكمة المتعاقبة المواجهة فيما يتعلق بالقضايا الكبرى، ولجأت إلى حلول وسط أرضت قليلاً من التونسيين، في حين أجَّلت القرارات المهمة، خاصةً تلك المتعلقة بالاقتصاد.
وفي الوقت نفسه، تصارعت الأحزاب بشأن أحكام دستور 2014 المعقد الذي جمع بين النظامين الرئاسي والبرلماني، وكان من المفترض أن تبتَّ محكمة خاصة في النزاعات لكن البرلمان لم يشكلها بعد.
ويريد الرئيس سعيّد، وهو سياسي مستقل انتُخب العام الماضي، في تصويت منفصل عن الانتخابات البرلمانية، أن يلغي الأحزاب السياسية ويمنح الرئاسة مزيداً من السلطات، لكنه ربما لا يحظى بالدعم الكافي لتنفيذ ذلك.
ومن المهم هنا استعراض موقف الأحزاب الأساسية وعلى رأسها حزب النهضة وهو أهم قوة احتفظت بمكانتها في تونس منذ الثورة، حيث فاز بعديد من الانتخابات وشارك في أغلب الائتلافات الحاكمة، وكان الحزب يريد مزيداً من النفوذ في حكومة الفخفاخ، مما جعله على خلاف مع سعيّد.
ومن المرجح أن يحصل الرئيس على أكبر دعم من حزبين آخرين هما التيار الوطني وحركة الشعب، اللذان يشكلان حالياً تكتلاً غير رسمي يفضّل منح الدولة دوراً كبيراً في الاقتصاد، والقوة السياسية الأخرى الراسخة في تونس هي الاتحاد العام للشغل، القادر على حشد احتجاجات وإضرابات، ويشكل أكبر عقبة أمام أي حكومة تريد تقليص العجز عن طريق تقليل حجم القطاع العام الضخم.
ويبحث حزب قلب تونس، بزعامة قطب الإعلام نبيل القروي الذي كان مسجوناً خلال الانتخابات الرئاسية العام الماضي على ذمة محاكمته بالفساد التي لم تتم بعد، عن فرصة أخرى للوصول للسلطة.
ما الخطوة التالية الآن؟
يرشح الرئيس خلال أسبوع، شخصية جديدة لتحاول تشكيل الحكومة، وسيتعين على هذا المرشح خلال شهر، اقتراح ائتلاف جديد والحصول على موافقة البرلمان عليه، وإذا لم يفلح ذلك، فسيتعين إجراء انتخابات برلمانية جديدة، هذا العام.
ويعتقد بعض المحللين أن السبيل الوحيد للخروج من الأزمة هو إجراء انتخابات جديدة، وخروجها ببرلمان أكثر تجانساً يمكن أن يتفق على حكومة مستقرة قادرة على إقرار التشريعات.
سالم، من جانبه، يعتقد أن "البديل جاهز، فمن قدموا لائحة لسحب الثقة من الفخفاخ، لهم شخصية جاهزة لاقتراحها"، وأوضح أنه "تم الاتفاق على الشخصية التي ستقود المرحلة المقبلة، خلال اللقاء الأخير (15 يوليو/تموز الجاري) الذي جمع كلاً من الرئيس قيس سعيّد، ورئيس مجلس النواب راشد الغنوشي، والأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي"، وتوقع سالم، أن يكون "الحزام الحكومي (الائتلاف الحكومي) هذه المرة أوسع أو أن يحصل فيه تغيير".
وكان الرئيس قد بعث برسالة إلى الغنوشي، الأربعاء 15 يوليو/تموز، لمدّه بقائمة الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية، قصد إجراء مشاورات معها، وذلك طبقاً لما ينص عليه الفصل 89 من الدستور، بهدف تكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة.
من جهته، قال المحلل السياسي هشام الحاجي، إن "الجميع يتطلع إلى دورٍ أكبر للرئيس قيس سعيّد، كضامن لتطبيق الدستور واحترامه وضامن للاستقرار في أرقى معانيه، خاصةً أن أغلب تصريحاته العلنية كانت تبعث على التخوف أكثر من الاطمئنان"، وأضاف الحاجي، لـ"الأناضول"، أن "سعيّد مطالَب بحكم الدستور، وحكم الوضع الهش، بأن يكون فعلاً الضامن والمعبر عن الوحدة الوطنية، وعن الترفع عن كل الحسابات".
الحاجي يرى أن "الوضع السياسي في تونس لا يبعث على الاطمئنان؛ أزمة واحتقان يضاف إليهما وضع اقتصادي صعب، وتداعيات خلفها انتشار فيروس كورونا والتي تستدعي عملاً ومثابرة من قِبل الجميع بدل كل هذا التوتر. أرضية الحوار والتوافق تتقلص يوماً بعد يوم، وهو ما يشير إلى أن مؤسسات الدولة بدأت تفقد بريقها، وربما قد تسير نحو انتخابات مبكرة، خاصة في حال اقتراح حكومة لا تحظى بإجماع النواب".
وفيما يتعلق بالتحالفات التي قد تظهر مع الحكومة الجديدة، رأى الحاجي أن "هناك حالياً تحالفات حزبية، على غرار الكتلة الديمقراطية التي تضم كلاً من حركة الشعب والتيار الديمقراطي وتلتحق بها من حين إلى آخر حسب المبادرات (تحيا تونس)".
"ومن جهة أخرى، نجد حركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس، ويلتحق بهم آخرون من حين إلى آخر"، واستدرك الحاجي: "لكن الطرف الوحيد الذي لم ينضم إلى أي تحالف هو الحزب الدستوري الحر (برئاسة عبير موسي)".
والثلاثاء، نفّذ نواب الحزب الدستوري الحر (16 مقعداً من أصل 217) احتجاجاً داخل قاعة الجلسات العامة وتعمّدوا اعتلاء المنصة الرئيسية؛ وهو ما دفع النائبة الأولى لرئيس البرلمان سميرة الشواشي إلى وقف الجلسة؛ بعد رفضهم السماح لها بتسييرها.
وطالما أعلنت موسى، في تصريحات سابقة، أنها تناهض ثورة 2011 التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي، وتُجاهر بعدائها المستمر لحركة النهضة، ولفت الحاجي إلى أن "الحوار مطلوب في مثل هذه المرحلة، لكن السؤال المطروح هو حدوده وأفقه، وهل هو حوار سيخصَّص لتعويض المؤسسات والوضع الحالي".
الانتخابات المبكرة
وفي سياق آخر اعتبر الحاجي، أن "طبيعة النظام السياسي الحالي وبعض الفاعلين الأساسين داخله أدت إلى تكاثر الأزمات، وأن البلاد وصلت إلى أزمة مفصلية، لأنها في ظرف قصير شهدت حكومتين، واحدة منهما لم تعمر طويلاً".
واستطرد: "من الصعب أن نخرج بسلاسة من الوضع الصعب الذي نعيشه اليوم بالفاعلين الحاليين والقوانين الحالية، وربما قد يدفع بنا كل هذا إلى انتخابات مبكرة قد تكون هي الحل الأفضل".
وشدد الحاجي على أنه "رغم تكلفة الانتخابات الكبيرة، فإنها ستنقذ البلاد من متاهات أخرى على غرار تسرُّب العنف إلى الشارع وتعطُّل المؤسسات الدستورية".
والخميس، وصف نور الدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، النظام البرلماني في بلاده بـ"العاجز"، ودعا إلى إجراء استفتاء عليه، وتساءل خلال مقابلة مع إذاعة محلية خاصة: "هل النظام البرلماني قادر على إصلاح تونس، وإلا فإن المسألة يهتمّ بها الشعب؟".