تشير استطلاعات الرأي إلى أن المرشح الديمقراطي جو بايدن بات أقرب للفوز بالرئاسة من ترامب، وهو ما دفع المراكز البحثية لدراسة ما يتوجب عمله في علاقات أمريكا الخارجية، وخصوصاً في الشرق الأوسط، مع إيران وكذلك السعودية، فما قصة "إعادة النظر الشاملة" التي قد يقدم عليها خليفة ترامب؟
موقع Responsible Statecraft الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: "العلاقات الأمريكية مع السعودية وإيران بحاجة إلى إعادة نظر، وليس إعادة تنظيم"، تناول ورقةً بحثية وجهت نصائح للمرشح الرئاسي جو بايدن، الذي يبدو الأقرب للفوز من الرئيس الحالي دونالد ترامب.
مع تزايُد فرص فوز بايدن بالرئاسة الأمريكية، في يناير/كانون الثاني عام 2021، يزداد معها كذلك تسليط الضوء على سياساته المحتملة، وفيما يخص الشؤون الخارجية لا يخالج الشك مؤيديه في أنه يجب إعادة تقييم أولويات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وفي جوهر هذه الإعادة في التقييم يكمن ما يدعوه دانييل بِنَيم، الباحث في مؤسسة القرن الداعمة للديمقراطيين في ورقة بحثية صدرت مؤخراً، فشل الرئيس دونالد ترامب في سياستيه المتمثلتين في "أقصى قدر من الضغط" على إيران، و"أقصى قدر من حرية التصرف" مع المملكة العربية السعودية.
تصحيح مسار ليس إلا
ويؤكد بنيم أن دعم ترامب غير المشروط لآل سعود شجّع السلوك السعودي المتهور الذي أضرّ بالقيم والمصالح الأمريكية، مثل الحرب المدمرة في اليمن، وقتل الصحفي جمال خاشقجي، والقمع الشديد للمدافعين السعوديين عن حقوق الإنسان، والاتجاه العام نحو حكم الرجل الواحد، المتمثل في شخص ولي العهد محمد بن سلمان. إلا أن توصياته لإدارة محتملة يقودها الديمقراطيون لا تزيد عن تصحيح مسار بسيط، أو بكلماته هو، إعادة تنظيم هذه العلاقات وليس إعادة النظر فيها.
هذا لأن بنيم لا يشكك في الإطار الجوهري لـ"التحالف الاستراتيجي" الأمريكي السعودي، الذي دعم هذه العلاقة منذ 75 عاماً، ويقارنه مع "عدائية النظام الإيراني الراسخة لأمريكا".
ونقطة الضعف الرئيسية لهذا التأطير تكمن في النظرة الثابتة للتحالفات الأمريكية في الشرق الأوسط، إذ إنه يؤكد نظرة واشنطن الراسخة لعداء النظام الإيراني غير العقلاني، الذي لا تحيد عنه الولايات المتحدة، بغض النظر عن السياسات الفعلية للأخيرة. ويبرر هذا العداء الدعم الكبير للسعودية، وفي الواقع يشدد بنيم على ضرورة "التشاور الوثيق" المستمر مع السعودية بشأن التهديد الإيراني.
القصة أكثر تعقيداً مما تبدو
لكن هذه النظرة تتجاهل ما يدل على أن العراقيل التي تحول دون تحسين العلاقات تكمن في واشنطن مثلما تكمن في طهران، وفي الواقع، حاولت إيران تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة بالفعل، خلال رئاسة علي أكبر هاشمي رفسنجاني في أوائل التسعينيات، واستمر في هذه المحاولات خلفاه محمد خاتمي وحسن روحاني، وتعاونت إيران مع الولايات المتحدة ضد طالبان في أفغانستان بعد 11 سبتمبر/أيلول، وبعد ذلك ضد داعش في العراق.
وصحيح أنه توجد فصائل في إيران تعيش على العداء مع الولايات المتحدة، إما لأسباب أيديولوجية أو انتهازية بحتة، ولكن كما أوضحنا أعلاه أبدى النظام أيضاً مرونة كافية للسماح ببعض الحوار. والفشل في الترحيب بهذه الانفتاحات والإضافة إليها واستغلال "الأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار" بدلاً من توطيد العلاقات مع السعودية، بغض النظر عن السجل الفعلي للبلدين فلن يؤدي إلا إلى استمرار المشكلات الأمريكية الحالية في المنطقة.
فترة اختبار للسعودية
ولتشجيع السعودية على التحرك في اتجاه أكثر اتساقاً مع المصالح والقيم الأمريكية، يوصي بنيم إدارة بايدن المحتملة بأن تمنح للرياض ما يشبه فترة اختبار سيتعين عليها خلالها تعديل سياساتها، بحيث تناسب التوقعات والأولويات الأمريكية الجديدة. لكن من دون مواعيد نهائية وعقوبات تُحدَّد بوضوح في حالة عدم الامتثال، من المستبعد أن ينجح هذا النهج، وهو ما يعني ببساطة استمرار سياستيّ إدارتي أوباما وترامب، التي قدمت كل منها، بطريقتها الخاصة، دعماً قوياً للسعودية. ويكمن الخطر في أنه إذا فشلت السعودية في أن تلتزم بجانبها من الصفقة التي يتصورها بنيم، فسيزداد انعدام الاستقرار في المنطقة، وستزداد التكلفة على الولايات المتحدة إذا قرّرت في النهاية أن تنأى بنفسها عن آل سعود.
وتصدق هذه النقطة خصوصاً في حال، كما يبدو مرجحاً، اضطرت إدارة بايدن إلى تنظيم العلاقات مع الرياض أثناء انتقال الحكم من الملك المسن سلمان إلى ولي العهد والحاكم الفعلي محمد بن سلمان. ويشير سجل محمد بن سلمان، لاسيما في التعامل مع مقتل جمال خاشقجي الذي أغضب المؤسسة الأمريكية، إلى أنه من المستبعد أن تحتوي سياسته المتمثلة في "السعودية أولاً" مخاوف واشنطن، وفي هذه الحالة سيؤدي الاستمرار في التشبث به إلى زيادة تواطؤ الولايات المتحدة في انتهاكات حقوق الإنسان الداخلية في السعودية، والمخاطرات الإقليمية، وهذا بدوره سيقوض محاولات إحياء الدبلوماسية مع إيران.
ومن أوجه القصور الأخرى في تحليل بنيم أنه يربط القيمة الاستراتيجية السعودية للولايات المتحدة بتقارب الرياض المتزايد مع إسرائيل، ويؤكد ذلك مركزية إسرائيل الثابتة المؤيَّدة من الحزبين في سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ولكن -حتى لو لم يكن الوفاق السعودي الإسرائيلي تطوراً سيئاً في حد ذاته- في سياق الضم الإسرائيلي الوشيك للأراضي الفلسطينية، لا يوجد سبب يجعل منه نقطة في صالح السعودية في واشنطن.
ولن يتحقق تغيير حقيقي في العلاقات الأمريكية السعودية والعلاقات الأمريكية الإيرانية، وكذلك في الوضع العام للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بتصحيح بسيط للمسار. بل يتطلب إعادة نظر عميقة وجريئة، وليس مجرد إعادة تنظيم.
إن التخلي عن سياسة "أقصى قدر من الضغط" مع طهران، و"أقصى قدر من حرية التصرف" مع الرياض سيمكن الولايات المتحدة من إعادة التوازن إلى العلاقات مع السعودية وإيران، وهو بالضبط ما ستحتاجه إدارة بايدن القادمة لتخليص نفسها من تشابك الموقف الأمريكي في الشرق الأوسط، والتركيز بدلاً من ذلك على أجندة محلية مزدحمة.