البعض منا قضى فترة العزل التي فرضها وباء فيروس كورونا على البشرية ضمن مدن مزدحمة، بينما قضاها البعض الآخر قريباً من الشواطئ أو ضمن الحقول والمزارع بحكم محل الإقامة، وتؤكد الدراسات أن هناك فارقاً كبيراً من ناحية الصحة النفسية والعضوية بين البيئتين، فما قصة هذا الاختلاف وكيف يفسّره العلم؟
موقع Universal-Sci نشر تقريراً بعنوان: "لماذا يحسّن التمشي في الغابة صحتنا النفسية والجسدية"، ألقى الضوء على الأبحاث العلمية التي تهدف لتفسير سر السعادة التي نشعر بها وسط الخضرة أو على الشواطئ.
صحيح أن التقرير ركز بشكل خاص على فوائد التمشية أو قضاء بعض الوقت بين الأشجار أو على الشواطئ، مع وجود استفادة أكبر من قضاء بعض الوقت في التمشية داخل الغابات، لكنه فصل بشكل عام تأثير التنوع البيئي والبيولوجي على صحة الإنسان النفسية والجسدية.
تجربة "حمام الأشجار" في اليابان
هل تساءلت يوماً عن سبب شعورك بالصحة والسعادة حين تتجول بين الأشجار أو على شاطئ البحر؟ هل الأمر يقتصر على تمضية بعض الوقت بعيداً عن العمل، وتقليل التوتر والاستمتاع بالمناظر الطبيعية؟ أم أن هناك المزيد؟
يحاول العلماء منذ 20 عاماً تحديد الآليات التي من خلالها يؤدي التعرض للتنوع البيولوجي إلى تحسُّن الصحة، وقاد العلماء اليابانيون هذا البحث بعد سفرهم إلى جزيرة ياكوشيما الشهيرة بتنوعها البيولوجي.
ولدى اليابانيين بالفعل اسم لتجربة السعادة المرتبطة بالطبيعة: وهو shinrin-yoku أو "حمام الأشجار"، ونعرف حق المعرفة أن النظام البيئي المتنوع يدعم نظاماً ميكروبياً متنوعاً ومفيداً يعيش حولنا وداخلنا.
ونعلم أيضاً أن التعرض للمساحات الخضراء، حتى داخل المناطق الحضرية، يحسّن صحتنا الجسدية والنفسية. لكن ما آليات ذلك؟
هواء الغابات
يشير الباحثون اليابانيون إلى أننا نستنشق مواد مفيدة حين نتنفس هواء الغابات، وحددت الأبحاث ثلاثة عوامل رئيسية نستنشقها يمكنها تحسين صحتنا. وهذه العوامل هي البكتيريا المفيدة والزيوت العطرية القادمة من النباتات والأيونات سالبة الشحنة.
والبكتريا النافعة تحيط بنا من ولادتنا حتى موتنا؛ إذ إنها تعيش في البيئة، والأهم من ذلك في الهواء الذي نتنفسه. ونتشارك معها أجسادنا بالكامل تقريباً. وكلما زاد تفاعلنا معها، أصبحنا أكثر صحة وسعادة.
ويرجع ذلك جزئياً إلى البكتيريا التي تسكن أمعاءنا، إذ إنها تفتت الطعام الذي لا يمكننا هضمه وتنتج المواد التي تفيدنا جسدياً ونفسياً.
وبإمكان النباتات والبكتيريا التي تعيش عليها إنتاج الزيوت العطرية لمحاربة الكائنات الحية الدقيقة الضارة، ويشار إليها مجتمعة بالمبيدات النباتية، أو حرفياً، "المبيدات المشتقة من النباتات".
ولا تزال الدراسات عن الفوائد الصحية للزيوت النباتية العطرية في مراحلها الأولى، غير أن إحدى الدراسات الحديثة وجدت أن مبيداً نباتياً من أشجار الصنوبر الكورية حسّن صحة حيوانات التجارب وبنيتها البكتيرية.
وثمة أدلة على أن الأيونات السالبة في الهواء قد تؤثر في الصحة النفسية بطرق مفيدة. وتوجد مستويات أعلى نسبياً من الأيونات السالبة في مناطق الغابات وبالقرب من المسطحات المائية. قد يكون هذا عاملاً في فوائد المشي في غابة أو بالقرب من المحيط.
ولكن كما قال الكاتب الألماني غوته ذات مرة: الطبيعة ليس لها نواة ولا قشرة؛ هي كل شيء معاً.
تتفاعل البكتيريا والزيوت الأساسية والأيونات السالبة وتؤثر في بعضها البعض. على سبيل المثال، الأيونات السالبة والمبيدات النباتية قد تفرض بنية الميكروبات في البيئة الطبيعية. وتوجد أدلة على أن هذا يمكن أن يحدث أيضاً في أمعاء الإنسان.
الحاجة إلى المزيد من الأبحاث
الارتباط بالطبيعة أو حب الطبيعة الفطري حين يشعر الفرد بالاتصال بالطبيعة، مرتبط بتحسّن الصحة.
لكن أمامنا طريق طويل لنقطعه قبل أن نتمكن من فهم الآليات التي يمكن أن يفيد بها الحب الفطري للطبيعة صحتنا فهماً كاملاً، ومن النقاط المهمة في هذه المناقشة -التي، في رأينا، غض الطرف عنها- هو زيادة فهم علاقة الفرد بالطبيعة.
لقد قدم علماء النفس أدلة مقنعة على الروابط بين الاتصال بالطبيعة والسعادة النفسية، لكن كيف يتفاعل تقارب الفرد مع الطبيعة مع العادات الغذائية، والميكروبيوم البشري، ومستويات النشاط البدني والعديد من متغيرات نمط الحياة الأخرى التي قد تتشابك مع وجود مثل هذا التقارب؟
وفي الوقت نفسه، فيما يبحث العلماء في الأدلة المتعلقة بالآليات -بما فيها المتعلقة بالتنوع البيولوجي- يوجد العديد من الطرق البسيطة للاستفادة من حبنا الفطري للطبيعة.
لِمَ لا نركض في الحديقة أو على ضفاف النهر بدلاً من المشي على جهاز المشي، أو نتمشى في حديقة ونحن في طريقنا للعمل أو في وقت الغداء؟
والأهم من ذلك، توجد أدلة متزايدة على أنه يمكننا المساعدة في تشكيل الصحة النفسية والبدنية لأطفالنا بزيادة تعريضهم لبيئات خضراء أثناء عملهم وراحتهم ولعبهم. وشبكة الأطفال والطبيعة Children & Nature Network في الولايات المتحدة هي مورد كبير لأخبار الأبحاث والأنشطة التي تجمع بين الأطفال والطبيعة.
وخلص تقرير منظمة الصحة العالمية الذي يحمل العنوان Connecting Global Priorities – Biodiversity and Human Health، الذي صدر في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، إلى ما يلي:
اعتبار "التنوع الميكروبي" من مقدمي الخدمة في النظام البيئي قد يسهم في جسر الهوة بين البيئة والطب/علم المناعة، والعلاقات التي تربط بين أجسامنا والميكروبيوم هي صورة مصغرة للعلاقات الحيوية التي تشترك فيها أنواعنا مع عدد لا يحصى من الكائنات الحية التي تشاركنا الحياة على هذا الكوكب.
من السهل ملاحظة أن المناقشات الدائرة حول البيئات الطبيعية وصحة الإنسان ليست ضرباً من الخيال الفكري.
وفي بحث نُشر الشهر الماضي في مجلة الأنثروبولوجيا الفسيولوجية Physiological Anthropology، دعونا إلى إجراء المزيد من الأبحاث عن الروابط بين التنوع البيولوجي والصحة البدنية والنفسية البشرية، خاصة فيما يتعلق بالطفولة التي هي أهم فترة في تشكيل الإنسان، ألن يكون رائعاً إذن أن نرعى صحة أطفالنا في المستقبل من خلال رعاية بيئتنا؟