اقتربت جولة المفاوضات الجارية حالياً بين مصر والسودان وإثيوبيا، بشأن أزمة سد النهضة الإثيوبي، من محطتها الأخيرة، دون ظهور أي بارقة أمل عن انفراجة أو تقدم في الملفات الخلافية.
حيث سيُعقد اليوم اجتماع وزاري ثلاثي بين ممثلي دول التفاوض، لاستئناف مناقشة النقاط الخلافية، بعد أن رفضت مصر المقترح الإثيوبي بتأجيل النقاط الخلافية إلى ما بعد توقيع الاتفاق.
وقد أعلنت وزارة الموارد المائية المصرية، أمس الجمعة، أن ثامن أيام المفاوضات -التي تتم في وجود مراقبين من الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية- انتهت دون التوصل إلى توافقات حول المسائل الخلافية.
الأمر الذي طرح تساؤلات حول الخيارات المتاحة أمام مصر، في ظل الإصرار الإثيوبي على الشروع في ملء خزان السد في الوقت المحدد خلال الشهر الجاري، ما يضع الحكومة المصرية في موقف حرج داخلياً وخارجياً، خاصة أنها أعلنت أكثر من مرة عن عدم قبولها بدء ملء خزان السد قبل التوصل إلى اتفاق نهائي ترتضيه الدول الثلاث.
فما هي خيارات الحكومة المصرية في حال فشلت مساعيها السياسية والدبلوماسية، وما الخيارات التي لديها لكبح جماح رئيس الحكومة الإثيوبية آبي أحمد، الذي يرفض تأجيل ملء خزان السد لما بعد الاتفاق؟
تصعيد سياسي وقانوني
في البداية استبعد مصدر دبلوماسي مصري أن تلجأ "القاهرة" للحل العسكري مباشرة، في حال فشل المفاوضات الجارية حالياً بشأن سد النهضة، والتي يُشرف عليها الاتحاد الإفريقي، وشدَّد على أنَّ مصر لن تلجأ إلى الخيارات العسكرية إلا إذا استنفدت كل الجهود الدبلوماسية والسياسية والقانونية، مؤكداً أن المعركة الدبلوماسية والسياسية لم تنتهِ حتى الآن.
وقال المصدر الدبلوماسي، الذي طلب عدم ذكر اسمه، لـ"عربي بوست" إن الاتحاد الإفريقي سيرفع تقريراً بتفاصيل جولة المفاوضات الحالية، إلى مجلس الأمن الدولي، الذي سيعيد مناقشة القضية لاتخاذ قرار بشأنها.
وكشف عن أن مصر سوف تضغط من أجل تحويل القضية إلى محكمة العدل الدولية للبتّ فيها، باعتبارها تمثل تهديداً للأمن والسلم الدوليين، وقال: "هذا التصرف يمثل صفعة للجانب الإثيوبي، الذي يرفض تدويل القضية، نظراً لضعف موقفه".
ولفت المصدر إلى أن مصر أكدت من خلال مواقفها منذ بدء المفاوضات أنها تقف مع الحكومة الإثيوبية في إنجاز سد النهضة وتحقيق التنمية للشعب الإثيوبي، وهو ما يدعم موقفها أمام المنظمات الدولية.
وأن مصر أعلنت أن من حق إثيوبيا إنشاء السد، لكن بما لا يُسبب أضراراً بالغة للشعب المصري، فمصر تدعم حقوق إثيوبيا، وتحافظ في ذات الوقت على حقوقها المائية التاريخية كاملة.
وأشار المصدر إلى أن مصر غير مضطرة للحل العسكري حتى الآن، لأن حقوقها المائية مصونة وفق القانون الدولي، وبالتالي فإن موقفها التفاوضي مازال هو الأقوى أمام كل المنظمات والقوى الدولية، التي توسطت لحل الخلافات طوال الفترة الماضية.
فالولايات المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، والبنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، ثم الاتحاد الإفريقي، يرون أن مصر مرنة، وقدّمت كل التسهيلات من أجل عدم عرقلة إنشاء أو تشغيل سد النهضة، وأن الجانب الإثيوبي هو الذي اتبع سياسة المماطلة والعرقلة، لأن لديهم نوايا أخرى لم يعلنوا عنها حتى الآن.
الخيار العسكري وارد
وأقرّ المصدر أن عدم اللجوء للخيار العسكري حالياً ليس معناه استبعاد هذا الخيار نهائياً، مشيراً إلى أن وزير الخارجية المصري سامح شكري قال في كلمته أمام مجلس الأمن الدولي، قبل أسبوعين، بشأن أزمة سد النهضة إن "الدفاع عن البقاء ليس محض اختيار".
فهذه الجملة تحمل الكثير من الرسائل القوية لمن يريد أن يقرأ الموقف المصري جيداً، وشدَّد على أن مصر خلال السنوات الأخيرة أنفقت مليارات الدولارات من أجل امتلاك كافة الإمكانات، وأحدث الأنظمة العسكرية المتطورة.
كما أنشأت العديد من القواعد العسكرية داخل حدودها، وأبرزها قاعدة "برانيس"، التي تقع في أقصى الجنوب الشرقي للحدود المصرية، والتي تمثل أقرب نقطة عسكرية مصرية من الحدود الإثيوبية.
تحالفات عسكرية لتطويق إديس أبابا
أشار المصدر الدبلوماسي في حديثه لـ"عربي بوست"، أن السنوات القليلة الماضية شهدت تحركات مصرية مكثفة لإعادة تحالفاتها القوية مع العديد من دول العالم، وخاصة الدول الإفريقية المجاورة لإثيوبيا، والتي تربطها علاقات استراتيجية تاريخية مع الدولة المصرية مثل جنوب السودان، وإريتريا.
معتبراً أن زيارة الرئيس الإريتري لمصر قبل عدة أيام تأتي في إطار هذه التحركات التي تهدف إلى تطويق الحدود الإثيوبية، فضلاً عن التقارب الواضح لأول مرة بين موقفي السودان ومصر من أزمة سد النهضة، وهو نتاج تحركات قوية في هذا الاتجاه.
وأكد المصدر أنّ الدولة المصرية أقوى مما تتخيل أي جهة، سواء من ناحية تحركاتها السياسية أو القانونية أو حتى إمكاناتها العسكرية وتحالفاتها السياسية، مشيراً إلى أنَّ لكل مرحلة اختياراتها وتحركاتها التي تحدد الحكومة المصرية أنها تحقق أهدافها وتضمن صيانة حقوق شعبها التاريخية.
إجراءات تصعيدية مصرية مرتقبة
وحول تقييمه للجولة الحالية من المفاوضات، أكد الدكتور محمد نصر علام، وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق، أنه غير متفائل بتحقيق أي تقدم في ظل المماطلة الإثيوبية.
ويرى أن موقف الاتحاد الإفريقي غير واضح وغير مبشر، خاصة في ظل تعنّت الجانب الإثيوبي وعدم اتخاذ موقف إفريقي تجاه هذه التعنت، ملمحاً لوجود شبهة انحياز من جانب دولة جنوب إفريقيا التي تترأس الاتحاد الإفريقي حالياً لصالح إثيوبيا.
وأوضح الوزير المصري الأسبق أن الاتحاد الإفريقي سيكون أمامه عدة خيارات في حال إخفاقه بشكل كامل في تحقيق تقدم في المفاوضات، منها تحويل القضية إلى إحدى اللجان الخاصة التابعة للاتحاد الإفريقي.
وذلك لاستمرار التفاوض، مثل لجنة الأمن والسلم أو لجنة الحكماء، وهذا غير مفيد لمصر أو السودان، فهو استمرار لإضاعة الوقت، أما الخيار الأفضل لمصر فهو إحالة القضية إلى مجلس الأمن الدولي مرة أخرى، والذي يحيلها بدوره في حالة التعنت الإثيوبي إلى محكمة العدل الدولية.
ويرى الوزير أن هذا الخيار ترفضه إثيوبيا بشكل كامل؛ لأنه يضعها أمام مسؤولياتها، ولا يدع لها مجالاً للمماطلة وكسب المزيد من الوقت، خاصة أن موقفي مصر والسودان هما الأقوي من الموقف الإثيوبي، الذي لا يعتمد على أسس قانونية سليمة، وإنما يريد أن يفرض سياسة الأمر الواقع، من خلال استدراج مصر والسودان إلى المزيد من المفاوضات العبثية، وكسب مزيد من الوقت حتى يكتمل بناء السد.
وحول الخيارات القانونية والدبلوماسية التي لا تزال أمام مصر، والخيارات الأخرى التي قد تلجأ إليها، قال علام "الخيارات الدبلوماسية والقانونية تنتهي الآن في ظل استمرار التعنت الإثيوبي، وأمام مصر أوراق أخرى تستطيع اللجوء إليها، ولكنها لا تعلن عنها".
وأوضح علام أن الأيام المقبلة ستكون صعبة جداً، بسبب تعنّت الحكومة الإثيوبية وإصرارها على بدء ملء السد خلال الشهر الجاري، وفي الوقت نفسه ترفض مصر ذلك بشكل مطلق، وسنرى قريباً إذا كانت هناك خطوات تصعيدية لمصر، سواء على الجانب الدبلوماسي أو القانوني، أو خطوات أخرى أكثر تصعيداً، أو باستخدام وسائل أخرى.
وقال: "لا نستطيع أن نتوقع ما هي الخطوات التصعيدية التي ستتخذها مصر خلال الأيام المقبلة، لأن هناك إجراءات تقرر الدول القيام بها دون الإعلان عنها".
سحب شرعية ملء السد
من جهته، اعتبر هاني رسلان، رئيس وحدة السودان وحوض النيل السابق بمؤسسة الأهرام، أن حقائق الموقف التفاوضي لمصر مع الجانب الإثيوبي أكدت أمام العالم كله أن إثيوبيا ترفض أي تدابير لتقليل الضرر في أوقات الجفاف على دولتَي المصب، كما ترفض الصفة الإلزامية لأي اتفاقيات تنتج عن هذا التفاوض، وترفض أي آلية مُلزمة لحل الخلافات، وهذا يعني هيمنة مطلقة على النهر، وسلاح دمار شامل ضد مصر.
وحول التحركات المصرية المقبلة، أكد رسلان أن مصر لن تقبل بأي صياغات منقوصة لا تلبي رغباتها، ولن تقبل بتأجيل مناقشة أي قضايا خلافية، وهذا الموقف الصلب ينطلق من فكرة ألا اتفاق خير من اتفاق سيئ أو منقوص، وسيبقى المجال مفتوحاً لاتخاذ كافة الإجراءات أمام الحكومة المصرية، بعد سحب الشرعية من عملية الملء والتشغيل ومن السد نفسه.
وأوضح رسلان، أن إثيوبيا لن تصل أبداً إلى أي اتفاق من دون ضغوط، أو الشعور بتهديدات حقيقية، فهناك فجوة كبيرة بين هدفها في الهيمنة المائية والاستراتيجية، وبين ما تعلنه عن التنمية وتوليد الطاقة، وهذه الفجوة الهائلة ستظل تملأها بكمّ هائل من المراوغات والأكاذيب.
رفض أي اتفاق مجحف
وحول السيناريوهات المطروحة أمام مصر والسودان، أوضح الدكتور أحمد المفتي، أستاذ القانون الدولي والعضو المستقيل من لجنة مفاوضات السودان بشأن سد النهضة، أنه في حال استمرّ التعنت الإثيوبي والإعلان عن فشل جولة المفاوضات الحالية، فالخيار الأفضل بالنسبة لحكومتي السودان ومصر هو عدم "التوقيع أو الموافقة" على أي اتفاق غير مُلزم ولا يضمن حقوق الدولتين المائية.
لافتاً إلى أن أي اتفاق يجب أن ينص صراحة على توفر شروط الأمان في السد، وتحقيق الأمن المائي لدولتي المصبّ والتعويض عن أي أضرار تنتج عنه.
ورأى المفتي أن ترك إثيوبيا تشرع في الملء، ومن ثم التشغيل السنوي بإرادتها المنفردة، والتعامل مع ذلك على أنه عمل غير مشروع، سوف يجعل إثيوبيا تكتشف أن ذلك العمل الأحادي لن يحقق لها طموحاتها، إلا إذا اكتسب شرعية من السودان ومصر، كما أنها ستعيش تحت وطأة الخوف والتهديد الدائم.
واعتبر المفتي أنه في ظل استمرار التعنت الإثيوبي يكون الخيار العسكري مطروحاً بقوة أمام القاهرة والخرطوم، لأن مياه النيل مسألة مصيرية لا تقبل التهاون أو التراخي.
مشدداً أن على الشعب السوداني والمصري التعبير عن موقفهما الرافض لأي اتفاقات لا تضمن حقوقهما المائية بالشكل الذي يرونه مناسباً، من خلال تحركات الأحزاب والقوى السياسية والشعبية، وكذلك حركات الكفاح المسلح، مشيراً إلى أن التاريخ يسجل هذه المواقف.