في 26 يونيو/حزيران، صوّت المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي على منح قرض آخر بقيمة 5.2 مليار دولار إلى مصر. بالرغم من المزاعم بأنه هذا القرض موجهٌ لتعويض المشاكل الاقتصادية التي تواجهها مصر، فإن هذه التمويلات ستستخدم لمكافأة الأشخاص الذين لا يزالون موالين للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذين أشرفوا على تعذيب آلاف السجناء السياسيين، كان من بينهم سجناء سياسيون أمريكيون، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية.
والآن، لا يمكن نجاح الثورة المضادة الهائلة والمستمرة التي تخوضها مصر، إلا عن طريق تواطؤ الأطراف الفاعلة الدولية التي تقدم مليارات الدولارات في صورة مساعدات مالية إلى نظام ما بعد الانقلاب. وبدلاً من الترويج لإصلاحات هيكلية في الاقتصاد المصري، سيعزز قرض صندوق النقد الدولي الفساد في الاقتصاد الذي تهيمن عليه الأجهزة الأمنية والشركات المملوكة للدولة.
وصل السيسي إلى سدة الحكم بعد انقلاب عسكري في 3 يوليو/تموز 2013، أطاح الرئيس المصري محمد مرسي، وهو أول رئيس منتخب في انتخابات ديمقراطية منذ تأسيس الجمهورية المصرية في عام 1953. حصل السيسي على الدعم المالي من ممالك الخليج النافذة، التي لا تهتم كثيراً بنشر الديمقراطية في البلاد المجاورة لها. ساعد هذا الدعم الاقتصاد المصري المتعثر وضمن بقاء نظام ما بعد الانقلاب الجديد. تؤدي قروض صندوق النقد الدولي الموجهة إلى مصر -التي يصل إجمالي قيمتها إلى 20 مليار دولار منذ 2016- في الوقت الحالي وظيفةً مماثلةً.
كيف سترسخ هذه القروض فساد النظام المصري؟
كان حازم الببلاوي شخصية مدنية رئيسية في النظام العسكري المصري شديد الفساد تحت قيادة السيسي. ولما كان رئيس وزراء مؤقت بين عامي 2013 و 2014 بعد الانقلاب، ترأس الببلاوي الحكومة خلال واحدة من أقسى العهود الدموية التي مرّت على تاريخ مصر المعاصر. أمرت حكومته قوات الأمن بفتح النار على المحتجين الرافضين للانقلاب في اعتصام ميدان رابعة العدوية شرق القاهرة في أغسطس/آب 2013، ما تسبب في مقتل أكثر من 900 شخص في يوم واحد.
وعندما كانت حكومته غير قادرة على قمع الاحتجاجات بالقوة الغاشمة وحدها، أصدرت حكومة الببلاوي حينها قانوناً يحظر التظاهرات، كان أشد قسوة من قانون التجمهر الذي فرضته سلطات الاستعمار البريطاني في البلاد عام 1914، ليحظر بموجبه تجمهر أكثر من 10 أشخاص. يحتل الببلاوي الآن منصباً في المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، ما يمنحه نفوذاً غير مبرر على أموال تمويلات صندوق النقد الدولي الموجهة إلى حلفائه في الحكومة المصرية.
يشرع مواطن أمريكي نجا من محاولة اغتيال خلال مذبحة رابعة، في فضح شبكة العلاقات بين صندوق النقد الدولي والمتملقين سيئي السمعة في مصر. نشأ محمد سلطان، الذي تخرج في جامعة ولاية أوهايو، وسط غرب الولايات المتحدة، لكنه كان حاضراً خلال فضّ اعتصام ميدان رابعة العدوية في أغسطس/آب 2013، حيث أطلقت قوات الأمن الرصاص عليه. اعتُقل سلطان بعد ذلك لنحو عامين وخضع لمعاملة غير إنسانية، تضمنت تركه في زنزانة بجوار جثة متحللة، وشجعه حراس السجن على الانتحار.
وبعد تدخل أمريكي رفيع المستوى، أُطلق سراح سلطان أخيراً وأُعيد إلى الولايات المتحدة في 2015. وفي دعوى قضائية يمكن أن تشكل علامة بارزة، رفع سلطان قضية ضد مَن عذبوه في السابق. بموجب قانون حماية ضحايا التعذيب، يواجه الببلاوي اتهامات بـ"إصدار الأوامر والإشراف" على إساءة معاملة سلطان خلال الـ643 يوماً التي قضاها في السجن.
ابتزاز الضحايا واحتجاز عائلاتهم كرهائن
رَفَعَ سلطان دعوى قضائية ضد الببلاوي في 1 يونيو/حزيران، بعد خمس سنواتٍ من إطلاق سراحه من السجن. وفي 9 يونيو/حزيران، ومرة أخرى في 15 يونيو/حزيران، شنَّت قوات الأمن حملات مداهمة مُنسَّقة على أفراد عائلة سلطان عبر محافظاتٍ عدة في مصر. اعتُقِلَ خمسة من أبناء عمومته في الوقت نفسه من منازلهم في الإسكندرية والمنوفية. لم يكن لدى ضباط الأمن المركزي مذكرات اعتقال، ولم يقدِّموا أيَّ سببٍ لاعتقال أبناء عم سلطان. وبحسب ما وَرَد، فقد أخبروا أبناء عمومته أنهم سيُطلَق سراحهم إذا أسقط سلطان القضية ضد الببلاوي.
وفي اليوم نفسه، زار ضباط شرطة مجهولون والد سلطان، صلاح سلطان، في سجن وادي النطرون. يمكث صلاح سلطان في السجن منذ انقلاب عام 2013، وقد انتقل الآن إلى مكانٍ غير مُفصَح عنه. إن الرسالة التي يرسلها نظام السيسي إلى سلطان واضحة: أسقطوا القضية ضد الببلاوي وإلا سنستمر في احتجاز أفراد عائلتك كرهائن. يبدو أن هذا المسار من الأحداث لم يردع صندوق النقد الدولي.
إن قضية سلطان هي رمز للفساد المالي المُمَنهَج والتعذيب المُروِّع في مصر. في مارس/آذار 2016، طَرَدَ السيسي هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، بعدما أفاد جنينة بأن مصر خسرت 600 مليار جنيه مصري (حوالي 76 مليار دولار) بسبب الفساد الرسمي. وحُكِمَ على جنينة بالسجن خمس سنوات. تُعَدُّ هيئة الرقابة الإدارية إحدى هيئات الدولة التي خوَّلها السيسي بتفويض "مكافحة الفساد". ورغم أنها مؤسَّسة مدنية اسمياً، تتمتَّع هيئة الرقابة الإدارية بسلطات مراقبة وقدرة على اعتقال واستجواب المُشتَبَه بهم. وعيَّن السيسي أحد أبنائه في منصبٍ رفيع المستوى بالهيئة، واستخدمها من أجل إحكام قبضته على بيروقراطية الدولة مترامية الأطراف. لا توجد هيئات إشراف مستقلة متبقية في مصر، ما يعني أنه تقريباً لا يوجد أيُّ ضمانٍ بأن مساعدة صندوق النقد الدولي لن تنتهي في أيدي أطرافٍ فاسدة.
هل يمكن أن يصحح صندوق النقد هذه الأخطاء؟
لكن لا يزال الوقت سانحاً من أجل تغيير المسار. قدَّمَت 8 منظمات حقوقية التماساتٍ إلى صندوق النقد الدولي للتأكُّد من أن هناك آلياتٍ تضمن استخدام 5.2 مليار دولار ليس لمكافأة الموالين للسيسي، بل للأغراض المقصودة منها لدعم النمو الشامل وتحسين الشفافية المالية وزيادة الإنفاق الاجتماعي. ستُنفَق الـ5.2 مليار دولار على ثلاث شرائح. وبينما ستُحرَّر الشريحة الأولى على الفور، ستُحرَّر الشريحتان اللاحقتان فقط بعد عملية مراجعة. يجب أن يكون تحرير الشريحتين اللاحقتين مشروطاً. على الأقل ينبغي على صندوق النقد أن يستلزم مراجعةً مستقلة وتقريراً عن كيفية إنفاق تمويل صندوق النقد الدولي وإتاحته للجمهور.
لقد حدَّد صندوق النقد الفساد باعتباره تهديداً رئيسياً في وجه تحقيق الاستقرار الاقتصادي في مصر، لكن النظام الفاسد لا يعفي الأفراد من المسؤولية. في الوقت نفسه الذي عمل فيه الببلاوي رئيساً للوزراء، كان محمد البرادعي نائباً للرئيس. وفي يوم مذبحة رابعة، استقال البرادعي احتجاجاً على قتل المدنيين. لكن الببلاوي واصَلَ دوره كمشجِّعٍ للنظام الوحشي للسيسي.
بدت المديرة التنفيذية الجديدة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، مهتمةً بتعقُّب الفساد. وإذا كانت جادةً في ذلك، يتعيَّن عليها أن تفرض شروطاً مرتبطةً بالحوكمة والشفافية على القروض المتتالية لمصر. ينبغي أن يشمل ذلك إنشاء وكالة مستقلة فعلاً لمراقبة استخدام أموال صندوق النقد.
ويمكن تحقيق ذلك عن طريق استعادة استقلالية الجهاز المركزي للمحاسبات وإلغاء القرار التنفيذي الذي يسمح للسيسي الآن بتعيين وفصل مدير الجهاز. قد يكون هذا قراراً يغيِّر قواعد اللعبة، مرسلاً إشارةً إلى أنه لا يمكن استخدام أموال صندوق النقد كمحسوبية للحُكَّام الديكتاتوريين. وقد يرغب صندوق النقد أيضاً في إعادة النظر من خلال عدساتٍ أخرى تتعلَّق بوجود الببلاوي، الذي ترأس حكومة مذبحة رابعة، والذي يُتَّهَم بتعذيب مواطن أمريكي، في المجلس التنفيذي للجهاز.