انزلقت الدول والشركات حول العالم في فخ المعركة الجارية من أجل مستقبل التكنولوجيا بين الولايات المتحدة والصين، وباتت مجبرةً على اختيار جانب في هذا الصراع الذي يكسر سلاسل التوريد العالمية ويُخرج الشركات من الأسواق المُربحة.
وكان آخر ضحايا هذه المعركة هو Tik Tok، تطبيق الفيديو الشهير بين المراهقين الذي يحظى بمئات الملايين من المتابعين الشغوفين في مختلف دول العالم، مثل الهند والولايات المتحدة. والتطبيق مملوكٌ لشركةٍ صينية، لكن مدير الشركة التنفيذي أمريكي الجنسية.
جاءت الضربة الأولى الشهر الماضي حين جرى حظر Tik Tok في الهند، بعد اشتباكٍ حدودي دموي مع الصين أودى بحياة 20 جندياً هندياً على الأقل. ويوم الإثنين 13 يوليو/تموز، قالت السلطات الأمريكية إنها تبحث حظر التطبيق لأنها تعتبره تهديداً محتملاً لأمنها القومي. وانتشرت هذه الأنباء بالتزامن مع إعلان الشركة استعدادها لمغادرة هونغ كونغ؛ نظراً للمخاوف حيال قانون الأمن القومي الكاسح الذي فرضته الصين على المدينة.
يقول ديبايان غوش، المدير المساعد لمشروع المنصات الرقمية والديمقراطية في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، لشبكة CNN الأمريكية "إن عملية التحوّل إلى منصةٍ عالمية حقيقية تزداد صعوبة".
إذ تتنافس الولايات المتحدة مع الصين في مجالات الذكاء الاصطناعي، وشبكات الجيل الخامس فائقة السرعة للمحمول، وغيرها من التقنيات. ورغم أن البلدين لديهما علاقات اقتصادية قديمة تسمح ببعض التعاون، لكن التوترات الأخيرة بشأن الأمن القومي دفعت بالحكومات والشركات إلى إعادة النظر في تلك الشراكات.
وبدأ نزف الصراع يُؤثّر على علاقة البلدين بالقوى العالمية الأخرى أيضاً. إذ تُعيد المملكة المتحدة مثلاً النظر في قرارها منح شركة التقنية الصينية Huawei فرصة المساعدة في بناء شبكة الجيل الخامس بالبلاد.
منافسة شرسة
لطالما اختلفت وجهات النظر الأمريكية والصينية حول كيفية استخدام التكنولوجيا منذ عقود. وبينما قادت شركاتٌ مثل IBM وMicrosoft مركب الابتكار الأمريكي في الثمانينيات، كانت الصين تُرسي دعائم جدار الحماية الناري العظيم، وهو عبارةٌ عن آلية رقابة ضخمة تُخفي المحتوى المتوافر في كافة أنحاء الإنترنت. وخلال السنوات اللاحقة صنعت الصين إنترنت مُغلقاً ومُحكم الرقابة، حاز إعجاب الدول الاستبدادية الأخرى مثل روسيا، التي بدأت في إعادة هيكلة الإنترنت الحر وكبح جماحه بمساعدة التقنية الصينية.
ونمت استثمارات الصين في التكنولوجيا بسرعةٍ أكبر خلال السنوات الأخيرة بفضل استراتيجية "صنع في الصين 2025″، وهي خطة بكين الطموحة للتخلّص من اعتماد البلاد على التقنية الأجنبية عن طريق إنفاق مليارات الدولارات في مجالات مثل الاتصالات اللاسلكية، والرقائق الدقيقة، والروبوتات. واستجابت الولايات المتحدة بمحاولة الحد من التقدّم الصيني.
إذ اتّهمت إدارة ترامب الصين بسرقة التكنولوجيا الأمريكية، وهي القضية المحورية في الحرب التجارية المُدمّرة التي سيطرت على علاقة البلدين منذ عام 2018. وأصر المسؤولون الصينيون على إنكار تلك المزاعم، وجادلوا بأن كافة الأسرار التقنية التي تسلّموها كانت جزءاً من صفقات متفق عليها بين الجانبين. كما فرضت الولايات عقوباتها على كبرى الشركات التقنية الصينية، واتّخذت خطواتها للحد من وصول بكين إلى أسواق رأس المال الأمريكية الضخمة.
جدار برلين الافتراضي الجديد
بالتزامن مع تدهور العلاقات بين أكبر اقتصادين في العالم؛ حذّر بعض المحللين من أنّ التداعيات ستكون لها آثار كبيرة على كل القوى العالمية، إلى جانب الشركات التي تدير عمليات عبر حدودها.
إذ كتب مُحلّلو Eurasia Group أن "جدار برلين الافتراضي الجديد" سيُجبر اقتصادات العالم على اختيار أحد الجانبين. وقالوا إن حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، مثل تايوان وكوريا الجنوبية، ربما يميلون أكثر إلى الصين لأنهم يُزوّدونها بأشباه الموصلات المتطوّرة التي تعتمد عليها الشركات الصينية من أجل منافسة منافسيها العالميين.
وقال سام ساكس، الباحث في مركز بول تساي الصين بكلية الحقوق في جامعة ييل، الذي يدرس الأمن السيبراني والعلاقات الأمريكية الصينية إن التوترات العالمية دفعت الدول إلى النظر للشركات التقنية بوصفها "قطاعات وطنية، وليس جهات فاعلة عالمية".
وربما صارت شركة Huawei هي أبرز مثال على هذا التحوّل. إذ تضغط واشنطن منذ أكثر من عام على حلفائها لإبقاء معدات الاتصالات الخاصة بالشركة الصينية بعيداً عن شبكات الجيل الخامس خاصتهم. وربما أثمرت تلك الحملة عن بعض النتائج في أوروبا: حيث قالت سلطات المملكة المتحدة الأسبوع الماضي إن العقوبات الأمريكية على الشركة ستضر على الأرجح بقدرة Huawei على الاستمرار في دور مُزوّد خدمة شبكة الجيل الخامس هناك، في حين نقلت وكالة أنباء Reuters البريطانية يوم الخميس التاسع من يوليو/تموز أن أكبر شركات الاتصالات الإيطالية ستستبعد الشركة الصينية من مناقصة معدات الجيل الخامس.
كما يُشير تقدم التكنولوجيا في أجزاء أخرى من العالم إلى وجود "تقنيات متعددة ومتطوّرة" تتجاوز المنافسة بين الولايات المتحدة والصين وفقاً لكيسلايا براساد، أستاذ الأبحاث في كلية روبرت سميث للأعمال بجامعة ماريلاند.
التخلي عن اللامركزية
ليست هناك خياراتٌ سهلة أمام الشركات التقنية العالقة في محاولة التنقّل وسط هذا العالم. إذ قال مايكل ويت، الأستاذ المنتسب في الاستراتيجية والتجارة الدولية بكلية إنسياد الدولية للأعمال، إن الشركات يجب أن تختار بين التخلّي عن جزءٍ من العالم وبين إلغاء المركزية في عملياتها بدرجةٍ تُحوّل الشركة إلى كيانين منفصلين أو أكثر.
ويبدو أن القائمين على Tik Tok يُحاولون تطبيق النهج الثاني. إذ إن التطبيق مملوكٌ لشركة ByteDance ومقرها بكين، لكنّه حاول جاهداً أن ينأى بنفسه عن الشركة الأم. ففي مايو/أيار عيّن التطبيق المسؤول التنفيذي السابق لشركة Disney كيفن ماير في منصب المدير التنفيذي، وقال القائمون عليه مراراً إن خوادم البيانات بالكامل موجودة خارج الصين، حيث لا تخضع البيانات للقانون الصيني.
وربما تحاول الشركة تحقيق تباعدٍ أكثر دراماتيكية. إذ نشرت صحيفة Wall Street Journal الأمريكية يوم الخميس تقريراً، نقلاً عن مصدر مطّلع على المسألة، قالت فيه إن شركة ByteDance تدرس إقامة مقرٍ رئيسي لتطبيق الفيديو خارج الصين أو تشكيل مجلس إدارة جديد للفصل بين الخدمة وبين البلاد. في حين أكد متحدث باسم Tik Tok لشبكة CNN الأمريكية أن الشركة الأم تدرس إجراء تغييرات على هيكل الشركة.
لكن ذلك قد لا يكون كافياً. إذ تحامل النواب الأمريكيون باستمرار على Tik Tok خلال الأسابيع الأخيرة. وفي حين تقول الشركة إنها لا تُمثّل أيّ تهديدات على الأمن القومي، لكن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو تطرّق إلى تلك المخاوف هذا الأسبوع حين طرح فكرة حظر التطبيق.
وقال ويت: "المشكلة هنا في وجهة نظري هي أن الأوان قد فات بالنسبة لهم. فضلاً عن أن اهتمام الرأي العام مُسلّط بالكامل عليهم. ولا أعتقد أن الأمور ستنتهي على خير بالنسبة لهم".