بَلَغَ التوتُّر الآخذ في التصاعد بين حلفاء تركيا بحلف الناتو وفرنسا مستوىً جديداً حين ادَّعَت باريس أن فرقاطات تركية استهدفت باستخدام راداراتها سفينةً تابعة للبحرية الفرنسية، قبالة الساحل الليبي الشهر الماضي يونيو/حزيران، وهي الخطوة الأخيرة قبل الإطلاق الفعلي للصواريخ، بينما كانت الفرقاطات تسعى لتفتيش سفينة شحن يُشتَبَه في أنها تحمل أسلحةً إلى ليبيا.
وفي وقتٍ لاحق، قدَّمَت فرنسا شكوى رسمية لحلف الناتو من أجل التحقيق. لكن ما أثار فزع وصدمة باريس أن 8 من أصل 30 دولةً عضوةً هي فقط التي أيَّدت نقدها لتركيا، مع اصطفاف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى جانب تركيا. وبعد أن خلُصَ الناتو في 1 يوليو/تموز إلى أنه لا يمكن التحقُّق من المزاعم الفرنسية، أعلنت باريس الأسبوع الماضي أنها قرَّرَت الانسحاب من مهمة الناتو، "عملية حارس البحر" في البحر المتوسط.
يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي للدراسات الاستراتيجية، إن الحادث الأخير سبقه العديد من الخلافات الثنائية الأخرى، مثل إلقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اللوم على أنقرة، في نوفمبر/تشرين الثاني، بعد عملية عسكرية تركية في شمال سوريا ضد منظمات كردية تصنفها أنقرة إرهابية، إذ وصف ماكرون حينها الخطوة التركية بأنها "جعلت حلف الناتو ميتاً إكلينيكياً"، والرد الذي صدر من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حين قال: "إن ماكرون هو الميت إكلينيكياً". ولعلَّ النزاع في أوضح صوره في ليبيا، حيث تدعم فرنسا أمير الحرب خليفة حفتر، الذي يحاول إطاحة فايز السراج، رئيس الحكومة الليبية المُعتَرَف بها من جانب الأمم المتحدة والمدعومة تركياً.
لماذا تحاول فرنسا إقصاء أي دور لتركيا في ليبيا؟
خوفاً على مصالحها الخاصة في إفريقيا، تشعر باريس بقلق من الدور التركي في ليبيا، وترى أن صعود أنقرة في الشرق الأوسط بشكلٍ عام، يطرح قدرةً مُحتَمَلة على إفساد المصالح فرنسا الاقتصادية والجيوسياسية بالقارة السمراء التي كان جزء كبيراً منها مستعمرات قديمة لها.
يقول الموقع الأمريكي، إنه بالنسبة لفرنسا، فإن السيطرة على ليبيا لها أهمية قصوى، لأنها تشكِّل بوابةً حاسمة لمستعمراتها السابقة في غرب إفريقيا. في العام 1945، أسَّسَت فرنسا هيكلاً مالياً من أجل الهيمنة على مستعمرات غرب إفريقيا، يُدعى "المستعمرات الفرنسية في إفريقيا". انتُقِدَت العملة المُتداوَلة، وهي الفرنك الإفريقي، الذي استخدمته 14 دولة غرب إفريقية حتى العام 2019، لكونه أداةً للاستعمار الجديد الذي جرَّدَ هذه البلدان من السيطرة على عملاتها، ضامناً هيمنة باريس على الثروة في المنطقة.
في ذلك الوقت، كان الحاكم الليبي آنذاك، معمر القذافي، يمثِّل تهديداً مباشراً على الفرنك الإفريقي. وتكشف مراسلات أبريل/نيسان 2011، بين وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون، ومساعدها الأقرب لفترةٍ طويلةٍ من الزمن سيدني بلومنتال، أن القذافي امتلك "143 طناً من الذهب، وقدراً مماثلاً من الفضة.. وكان من المُقرَّر استخدام كل ذلك لإنشاء عملة إفريقية على أساس الدينار الذهبي الليبي، الذي من شأنه أن يزوِّد الدول الإفريقية الفرانكفونية ببديلٍ عن العملة الفرنسية". ومن غير المُفاجئ أن التدخُّل العسكري الفرنسي في ليبيا، "عملية هارماتان"، قد أسفر عن إطاحة القذافي.
الغرق في وحل الساحل الإفريقي
غير أنه، بالنسبة لفرنسا، لا تسير الأمور على نحوٍ جيِّد في غرب إفريقيا. يتزايد عدد الجثث في "عملية برخان" الفرنسية، وهي الحملة العسكرية في غرب إفريقيا/منطقة الساحل، حيث أرسلت باريس ما يُقدَّر بـ4500 فرد عسكري بهدفٍ مُعلَن يتلخَّص في القضاء على التطرُّف.
ومنذ العام 2013، قُتِلَ ما لا يقل عن 44 جندياً فرنسياً. وفي الآونة الأخيرة، اصطدمت مروحيَّتان فرنسيَّتان في الجو، ما أسفر عن مقتل 13 جندياً، فيما زَعَمَ مقاتلون على الأرض أنهم أسقطوا الطائرتين. كانت تلك أعلى حصيلة تشهدها فرنسا من القتلى منذ العام 1983، حين قُتِلَ 58 من المِظلِّيين في تفجير شاحنةٍ في لبنان. ويترك العدد المرتفع من القتلى الفرنسيين في إفريقيا انطباعاً بأن ماكرون يغرق في "حروبه التي لا نهاية لها". والأسوأ من ذلك أن المشاعر المعادية لفرنسا قد تنامَت بشكلٍ كبير بين شعوب أكبر 5 دول في منطقة الساحل الإفريقي (بوركينا فاسو، وتشاد، ومالي، وموريتانيا، والنيجر)، حيث فشلت فرنسا في منع فقدان آلاف المدنيين في الهجمات الإرهابية.
وأرسل ماكرون، المُحبَط من هذه الخسارة، دعواتٍ لقادة الدول الخمس الكبار (يجادل البعض بأنه استدعاهم) من أجل مناقشة المشاعر المتنامية المناهضة لفرنسا. ومن المثير للسخرية أن الاجتماع، الذي كان مُقرَّراً في 2020، قد أُلغِيَ بعد مقتل 71 جندياً نيجيرياً على يد إرهابيين في هجومٍ مُروِّع على معسكر حربي يقع بالقرب من حدود النيجر مع مالي. وقد أجبرت هذه الكوارث ماكرون على مطالبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعدم سحب القوات الأمريكية من إفريقيا.
استهداف الماضي الاستعماري لفرنسا
وكما لو أن رسوخ تركيا في ليبيا لا يكفي لقضِّ مضجع باريس، فقد وَضَعَ الرئيس رجب طيب أردوغان أولويةً بالنسبة له تتمثَّل في تعزيز النفوذ التركي في غرب إفريقيا. وباستهدافه الماضي الاستعماري لفرنسا في إفريقيا، أعلن أردوغان في الغابون في العام 2013 أن "إفريقيا للإفريقيين، نحن لسنا هناك من أجل الذهب".
وفي القمة التركية-الإفريقية في غينيا الاستوائية في 2014، قال أردوغان: "سوف تنحاز تركيا إلى الأمم الإفريقية بينما يُشيَّد نظامٌ عالميٌّ جديد". ويُعَدُّ سلاح أنقرة الأقوى ضد فرنسا في غرب إفريقيا هو خلفيتها الثقافية والتاريخية. على سبيل المثال، افتتحت الحكومة التركية، في غانا في العام 2019، أحد أكبر المساجد في إفريقيا، وهي منخرطةٌ بنشاطٍ في توزيع الغذاء عبر المنطقة. وفي 2018، زار أردوغان موريتانيا والسنغال ومالي، بهدف تعزيزٍ أكبر للوجود التركي في غرب إفريقيا.
ركَّزَت تركيا أعينها على المستعمرات الفرنسية السابقة تونس والمغرب والجزائر. وفي ديسمبر/كانون الأول 2019، زار أردوغان تونس لكسبها بشأن ليبيا. وفي الشهر التالي، زار أردوغان رئيس الجمهورية الجزائرية عبدالمجيد تبون، الذي أطلق على حكومة السراج "خط أحمر لا يمكن لأحدٍ أن يتجاوزه".
وبعد الإحباط من زيادة الوجود التركي في ساحتها الخلفية، أخذت باريس تفعل كلَّ شيءٍ لإيقاف مكاسب أنقرة في ليبيا، أو إرجاعها إلى الوراء إذا أمكن ذلك، إذ قد يعني انتصار تركيا بداية تفكُّك الأطماع الفرنسية في إفريقيا. ورغم خطابها بشأن دعم حظر الأسلحة الليبي، من المعروف أن باريس قدَّمَت أسلحةً إلى العدو اللدود لتركيا، خلفية حفتر.
وحاولت حاملة الطائرات النووية الفرنسية الوحيدة شارل ديغول في ردع التقدُّم التركي في ليبيا، رغم أنها فشلت في ذلك نتيجة ظهور حالات إصابة بفيروس كورونا المُستجَد على متنها. وكانت فرنسا الراعي الرئيسي لـ"عملية إيريني"، وهي مهمة الاتحاد الأوروبي التي تهدف إلى وقف عمليات نقل الأسلحة إلى ليبيا. وهنا أيضاً، ثبت أن محاولات فرنسا لردع تركيا غير فعَّالة، إذ قرَّرَت مالطا، العضوة المتوسطية الاستراتيجية بالاتحاد الأوروبي، سحب دعمها من العملية، وتمكَّنَت الفرقاطة التركية فعلياً من منع فرقاطةٍ يونانية من تفتيش سفينةٍ في طريقها إلى ليبيا من تركيا.
العودة لاستجداء الحلفاء الأوروبيين
وبعد نفاد جميع أوراقه، عاد ماكرون إلى حشد ضغوط سياسية على تركيا، من خلال استجداء دعم الاتحاد الأوروبي، ولم يكن صعباً على فرنسا الحصول على دعم من الاتحاد الأوروبي، الذي يقدم شتى أنواع الدعم لليونان وجزيرة قبرص التابعة لها.
ونتيجة لجهود باريس، تم إدراج "المسألة التركية" في جدول أعمال مجلس العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي، المقرر في 13 يوليو/تموز الجاري. وسعت فرنسا إلى ضمان مشاركة تركية في "قمة الميزانية" (أوروبية)، وهي مقررة يومي 17و18 يوليو/تموز الجاري، لاتخاذ قرارات وتدابير اقتصادية تتعلق بمواجهة فيروس "كورونا"، إلا أن تركيا رفضت المشاركة في القمة التي دعت إليها باريس.
ويرى مراقبون أن موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المناهض لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتصاعد المواقف العدائية الفرنسية ضد أنقرة، يرجع إلى تضرر مصالح ماكرون بالدرجة الأولى.
ومنذ أن تولى ماكرون الرئاسة، في 14 مايو/أيار 2017، اهتزت فرنسا على وقع احتجاجات مستمرة بسبب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية العميقة، في وقت يحاول فيه ماكرون التعامل مع حالة عدم الاستقرار السياسي، وأحدث حلقاتها استقالة رئيس الوزراء إدوار فيليب، و15 وزيراً، الأسبوع الماضي.
كما تشير نتائج الانتخابات المحلية في فرنسا إلى انخفاض كبير في شعبية ماكرون في الشارع الفرنسي؛ بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية، التي طبقها خلال السنوات الثلاث الماضية، وقوبلت باحتجاجات عارمة.
لجوء ماكرون للعدو اللدود للأوروبيين.. روسيا
في النهاية، يظلُّ من غير الواضح بعد كيف ستسير صداقة ماكرون مع روسيا ضد تركيا في ليبيا. الأمر الأكيد هو أن ماكرون يغازل بوتين في وقتٍ تُعزِّز فيه روسيا وجودها في ليبيا. وقد أزعج هذا البنتاغون، ويؤثِّر بصورةٍ سلبيةٍ على الطريقة التي ينظر بها غالبية أعضاء الناتو إلى فرنسا، مثلما يتبيَّن من قرار الناتو الأخير، حيث انحازت أغلبية الدولة الأعضاء إلى جانب تركيا.
ومع معدلات تأييدٍ أقل من أيِّ وقتٍ مضى (33%)، وغرقٍ في الهزيمة الأخيرة في الانتخابات المحلية، وضغطٍ من قضايا شائكة مثل احتجاجات السترات الصفراء وإصلاح نظام المعاشات المثير للجدل، يكافح ماكرون جاهداً أن يطفو على السطح بمحاولة لإحراز أي نقاطٍ في السياسة الخارجية، لكنه ما زال يفشل حتى الآن.