للحرب قواعد ومبادئ يفترض أن تخفف من كارثيتها، وعندما يتم انتهاك تلك القواعد تقع جرائم الحرب، وهذا الأسبوع حلت الذكرى الـ25 على مذبحة سربرنيتشا في البوسنة التي يقضي من أمر بها عقوبة صادرة عن محكمة العدل الدولية، فماذا عن جرائم الحرب في سوريا واليمن وليبيا وميانمار؟ هل أصبح العالم أكثر قبولاً لمجرمي الحرب؟
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً تزامناً مع ذكرى المذبحة التي هزت العالم، عندما تم قتل أكثر من 8 آلاف من رجال وأطفال مسلمي البوسنة بأمر من الجنرال الصربي راتكو مالديتش، الذي تمت إدانته ويقضي عقوبة السجن مدى الحياة في أحد سجون لاهاي، لكن بعد ربع قرن على وقوع تلك المذبحة، يبدو أن جرائم الحروب قد ازدادت بشاعة وقسوة في مقابل ضياع الإرادة في محاكمة مرتكبيها لأسباب متعددة.
ماذا حدث في سربرنيتشا؟
سربرنيتشا أو سربرنيتسا هي مدينة تقع في جمهورية البوسنة والهرسك التي كانت جزءا من جمهورية يوغوسلافيا والتي تفككت في أعقاب انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، وكانت القومية المسيطرة داخل الاتحاد اليوغوسلافي هي الصرب بينما كانت جمهورية البوسنة والهرسك أغلبيتها مسلمون وبها أيضاً أقليات صربية وكرواتية.
وشهدت الفترة منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى منتصف التسعينيات حرباً بين الصرب والكروات والبوسنيين البوشناق المسلمين، والمذبحة المشار إليها هنا وقعت في شهر يوليو/تموز 1995، وتفاصيلها تحمل في طياتها ليس فقط جريمة الحرب بحق قادة صرب البوسنة الذين أصدروا الأوامر لتنفيذها، بل أيضاً لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (كتيبة هولندية من 400 شخص)، فقد طلبوا من الرجال المدافعين عن البلدة تسليم أسلحتهم واعدين إياهم بالحماية، ثم لم يحركوا ساكناً عندما دخلت القوات الصربية البلدة وقتلت الذكور بين 14 و50 سنة، واغتصبوا النساء بشكل ممنهج.
وعلى الرغم من أن قرار محكمة العدل الدولية قد أقر وجود معايير الإبادة الجماعية مع النية المبيتة لقتل المسلمين البوسنيين في سربرنيتشا وأصدر الحكم على مالديتش بالسجن مدى الحياة، فإن قرار المحكمة أقر أيضاً بأن الجرائم التي اقترفت خلال حرب 1992-1995 قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية حسب القانون الدولي، الذي يفرق بين "الإبادة الجماعية" و"الجرائم ضد الإنسانية" وجرائم الحرب.
لكن بعد ربع قرن من تلك المذبحة، يبدو أن العالم قد أصبح معتاداً بصورة مؤلمة على الفظائع؛ فالقتل الجماعي في سوريا أو اليمن لم يعد في كثير من الأحيان يحتل عناوين الأخبار، وقد وضعت الصين أكثر من مليون من مسلمي الإيغور في معسكرات اعتقال – تسميها إعادة تأهيل – وأجبرت النساء على تعاطي وسائل منع الحمل وعرضت البعض منهن لعمليات إجهاض وأجرت عمليات استئصال للرحم للبعض الآخر، فماذا فعل العالم؟
أما الحديث عن "جرائم الحرب" أو "جرائم ضد الإنسانية"، فنجد أن هناك "الكثير من أمثال الصربي مالديتش"، وهو ما يجعل محاكمة مالديتش وإدانته "حدثاً غريباً" بمعايير عالم اليوم، فالمجرم تمت مطاردته والقبض عليه ومحاكمته أمام محكمة العدل الدولية التي وجدته مذنباً في خمس اتهامات: ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب متنوعة منها التطهير العرقي والأمر بهجمات قصف وقنص على سراييفو وأخذ رهائن من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
ولم يكن مالديتش المجرم الوحيد في مذبحة سربرنيتشا الذي تمت إدانته، فهناك أيضا رادوفان كاراديتش أحد زعماء صرب البوسنة الانفصاليين و90 آخرون من الجنرالات والضباط الذين تم الحكم عليهم بعد إدانتهم بارتكاب جرائم حرب.
كما أدانت محكمة العدل الدولية أيضاً 93 شخصاً في المذابح والتطهير العرقي التي شهدتها رواندا عام 1994 وذلك في محاكمات دولية عقدت خصيصاً لتلك الجرائم ضد الإنسانية في الدولة الإفريقية. الأمر إذن يبدو وكأن العالم كانت "شهيته مفتوحة" في تلك الفترة قبل ربع قرن لمعاقبة "مجرمي الحرب" سواء كان ذلك في أوروبا أو إفريقيا.
وكانت تلك النوعية من المحاكمات هي الأولى من نوعها منذ محاكمات نورمبرغ وطوكيو التي انعقدت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لمحاكمة "مجرمي الحرب" من النازيين وحلفائهم المهزومين، وهنا نقطة أخرى لافتة تخص أيضاً توقيت إجراء محاكمتي يوغوسلافيا ورواندا، حيث انعقدتا في فترة انتهاء الحرب الباردة بين المعسكر الغربي الأمريكي والمعسكر الشرقي السوفييتي.
مبدأ حماية المدنيين
ويرى بعض المراقبين أن انعقاد المحاكمات الدولية لمجرمي الحرب يعكس اهتماماً بعدم السماح بتكرار جرائم من نوعية "الهولوكوست" التي ارتكبتها النازية بحق اليهود، فبالإضافة ليوغوسلافيا ورواندا، انعقدت أيضاً محاكمات بمساعدة الأمم المتحدة للنظر في جرائم قتل جماعي وقعت في سيراليون وتيمور الشرقية وكمبوديا بهدف إقرار العدالة بحق من تبقى على قيد الحياة من قادة الخمير الحمر هناك، كما عقدت الأمم المتحدة محاكمات منفصلة بشأن كوسوفو وأيضاً تم عقد محكمة خاصة ضمن محكمة العدل الدولية للتحقيق في اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري (والد سعد الحريري) في انفجار ضخم وسط بيروت عام 2005، ولا تزال المحاكمة مستمرة ويتوقع أن تصدر حكمها المنتظر قريباً.
وفي عام 2002، تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية لتتولى التحقيق في تلك النوعية من الجرائم بشكل دائم، وهو ما كان يفترض أن يمثل رادعاً أكبر لعدم تكرارها، لكن الواضح أن العكس تماماً هو ما حدث.
المبدأ الذي قامت على أساسه تلك النوعية من المحاكمات الدولية هو "حماية المدنيين" في أوقات الحروب والأزمات وهو ما كان محل توافق من الجميع.
وعن تلك الفترة قال دايفيد شيفير السفير الأمريكي السابق لقضايا جرائم الحرب في الفترة من 1997 حتى 2001، للغارديان: "تلك السنوات كانت مثيرة وكنت أسميها السنوات الذهبية لمحاكمات جرائم الحرب، فقد كان لدينا هيكل محاكمتي نورمبرغ وطوكيو فقط ثم أعدنا بناء ذلك الهيكل وأكملناه في بداية التسعينيات وواصلنا ضبطه لسنوات".
وأكدت نيرما جيلاسيتش، اللاجئة البوسنية التي عملت متحدثة رسمية لمحكمة جرائم الحرب في يوغوسلافيا على نفس المعنى بقولها إن الأمر بدا وكأنه "عهد جديد تتم فيه معاقبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مهما طال الزمن، وهو ما بعث برسالة واضحة مفادها أن هناك عقاباً".
ماذا حدث في ليبيا؟
ولم تكن الأمم المتحدة أيضاً بعيدة عن القضية وتم في عام 2005 إقرار مبدأ "مسؤولية المجتمع الدولي عن حماية المدنيين" إذا فشلت أو تقاعست الدولة عن حماية شعبها، وهو المبدأ نفسه الذي أصدر مجلس الأمن الدولي قراره بشأن التدخل في ليبيا عام 2011 أثناء الثورة الشعبية ضد معمر القذافي، بطلب من القوى الغربية، وتحديداً فرنسا وبريطانيا وأمريكا وتم تمرير القرار وامتنعت روسيا عن التصويت عليه، وما حدث بعدها كان له آثار عميقة بشأن جرائم الحرب وحماية المدنيين حتى اليوم.
فالذي حدث هو أنه بعد مقتل القذافي وسقوط حكمه، أصبحت ليبيا ساحة لاقتسام الغنائم بين الدول الأوروبية وأمريكا، وهو ما جعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – كان رئيساً للوزراء وقت اتخاذ القرار وعاد للرئاسة عام 2012 – لأن يعلن أن الغرب قد "خدع روسيا" واستغل "ذريعة حماية المدنيين" لتغيير النظام في ليبيا، ووعد بشكل واضح أن هذا لن يحدث مرة أخرى.
وأوفى بوتين بوعده وتدخل في سوريا لإنقاذ "النظام" برئاسة بشار الأسد والنتيجة لا تحتاج لكثير من التوضيح، وشنت السعودية في نفس عام 2015 حربها في اليمن "أيضاً لإعادة النظام الشرعي" من خلال تحالف دعم الشرعية، وأيضا الحرب التي لا تزال مستمرة لا تحتاج لمزيد من الشرح بشأن ما أحدثته وتحدثه هناك، وكلا النموذجين يحملان في طياتهما ردة واضحة عن "حماسة العالم" لمحاكمة مجرمي الحرب والجرائم ضد الإنسانية، رغم وجود عشرات التقارير الدولية والأممية التي ترصد وتسجل تلك المآسي.
هل سيفلت مجرمو الحرب إذن؟
وفي عام 2016 وصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للرئاسة، وهو الذي يحمل امتعاضاً واضحاً وتجاهلاً أوضح لجميع أشكال العمل الجماعي الدولي، وبالتالي أصبح من الصعب أن يتخيل أي شخص مناخاً أكثر رفضاً لمبدأ "مسؤولية حماية المدنيين" مما هو موجود الآن على الساحة الدولية، وبالتالي فإن فكرة عقد محاكمات لجرائم الحرب في سوريا أو اليمن أو ميانمار تبدو بعيدة تماماً.
وكما تقول جيلاسيتش، فإن الجميع "أصبحوا مترددين بعدما حدث من تدخل غربي في ليبيا، لكن تظل تلك المآسي سقطة ضخمة للضمير الإنساني، خصوصاً ما حدث ويحدث في سوريا من مجازر وتعذيب وقتل لدرجة أنها أصبحت أموراً عادية لا يتوقف أمامها أحد".
وفي الوقت نفسه، تتعرض المحكمة الجنائية الدولية – التي تتمتع بسلطات محدودة من الأساس بسبب التجاذبات السياسية التي صاحبت إنشاءها – لضغوط هائلة وصلت إلى حد تهديد ترامب لمحققي وقضاة المحكمة بل وأسرهم أيضاً بالتعرض لفرض العقوبات إذا ما واصلوا تحقيقاتهم في أفعال القوات الأمريكية في أفغانستان أو عمليات إسرائيل وجرائمها في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وعن ذلك يقول شيفير إن الأمور أصبحت توحي "بالهزيمة وتقوض مصداقيتنا في السعي لتحقيق العدالة ومنع جرائم الحرب وأهوالها وهو ما يجعل عبارة "لن يحدث أبدا" بلا معنى"، وهو ما أكدته المؤرخة إيفا فاكوزيتش من جامعة أوتريشت بالقول إنه "خصوصاً بعد ما حدث في سوريا أصبح مفهوم العدالة على المستوى الدولي بالنسبة لي فارغاً وبلا معنى".
ورغم ذلك، فإن ما قبل محكمة يوغوسلافيا قبل ربع قرن لن يكون أبداً مثلما كانت الأمور قبلها، كما تستدرك فاكوزيتش: " قبل محاكمات يوغوسلافيا ورواندا، كان الطبيعي لنا ألا نتوقع أي شيء بعد أن تنتهي حرب أهلية أو تسقط إحدى الديكتاتوريات، لكن الآن وبعد 25 عاماً، أعتقد أننا نشهد تغيراً في التوقعات نفسها، حيث يواصل الباحثون والناشطون والأكاديميون السعي نحو تحميل المسؤولية لمرتكبي الجرائم مهما طال الزمن والآليات أصبحت موجودة، وبالتالي لن تعود عجلة الزمن للوراء أبداً".
فهجوم ترامب على المحكمة الجنائية الدولية واجه عاصفة من الانتقادات من جانبي داعميها، وصحيح أنه لا توجد محاكمة دولية خاصة لجرائم الحرب في سوريا حتى الآن، لكن محاكم محلية في ألمانيا وهولندا والدول الاسكندنافية تحقق بالفعل في ادعاءات جرائم حرب تحت مبدأ السلطة القضائية العالمية، وبدأت في إبريل/نيسان الماضي محكمة ألمانية في محاكمة اثنين من المسؤولين السابقين في نظام بشار الأسد كانا قد انقلبا عليه وهربا إلى هناك.