جدَّد جنرال أمريكي تحذيرات بلاده مما سمَّاه "تركيزاً روسياً عسكرياً" في منطقة شرق المتوسط، وكيف أن ذلك يمثل خطورة على حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، فهل التورُّط الروسي في الصراع الليبي مجرد فرصة فرضتها الأحداث، أو سعي لتحقيق مكاسب اقتصادية، أم يأتي في إطار استراتيجية وُضعت قبل عقود؟
وجود عسكري لافت
أمس السبت، 27 يونيو/حزيران، قال قائد القوات البحرية الأمريكية في أوروبا وإفريقيا، الأدميرال جيمس فوغو، إن روسيا بدأت بالتركيز عسكرياً على منطقة شرق المتوسط، موضحاً أن المنطقة الآن تعتبر واحدة من أكثر المناطق التي تشهد تحركات عسكرية في العالم.
فوغو قال أيضاً إن روسيا بدأت تصبُّ اهتماماتها على هذه المنطقة، وإنها بدأت بنشر غواصات متطورة قادرة على إطلاق الصواريخ فيها، وتابع قائلاً: "هذه الغواصات قادرة على العبور إلى المياه الأوروبية، وتستطيع استهداف العواصم الأوروبية والإفريقية".
وذكر فوغو أن شبه جزيرة القرم والميناء الموجود في محافظة طرطوس السورية، أصبحا خط دفاع ومركزاً بحرياً بالنسبة لروسيا، وأردف قائلاً: "فكِّروا في الخطر الناجم عن فعاليات روسيا في القرم وطرطوس، وخطرها في حال نجحت في كسب مراكز دائمة في ليبيا".
هل هذه هي البداية فعلاً؟
ليست هذه المرة الأولى التي يحذر فيها جنرال أمريكي من سعي موسكو لإقامة قواعد عسكرية دائمة في ليبيا، فالأمر نفسه يتكرر بصورة متقطعة منذ وصول مرتزقة فاغنر الروسية، التي تعمل كمقاول عسكري لدى الكرملين إلى ليبيا، للقتال إلى جانب ميليشيات خليفة حفتر، ورغم نفي روسيا التورط في الصراع الليبي في بداية الأمر، فإن الأمور خرجت للعلن الآن، وأصبح "اللعب على المكشوف" كما يقال.
السؤال الآن: هل ما قاله الجنرال الأمريكي بأن روسيا "بدأت بالتركيز عسكرياً في شرق المتوسط" دقيق؟ والإجابة تستدعي العودة للخلف ربما لأكثر من عقدين من الزمان حتى تتضح الصورة أكثر.
في مارس/آذار 2014، وأثناء أزمة أوكرانيا التي اندلعت في أعقاب إقدام موسكو على احتلال شبه جزيرة القرم، وصف الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما روسيا بأنها "مجرد قوة إقليمية" تسعى لفرض هيمنتها على جيرانها، لكن اليوم وبعد مرور أكثر من 6 سنوات على هذا التصريح أصبح واضحاً أن التقييم الأمريكي لروسيا خاطئ، على أقل تقدير.
ولا أدل على خطأ ذلك التقييم من الموقف على الأرض الآن في شرق المتوسط، حيث إن التدخل الروسي العسكري في سوريا منذ 2015 -الأول من نوعه منذ انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق- جاء في سياق "بداية" تنفيذ استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الهادفة لاستعادة الدور الروسي كلاعب أساسي على الساحة الدولية، وهو ما حذرت منه دراسات صدرت عن مراكز بحثية غربية وقتها، لكن من الواضح أن أحداً في واشنطن لم ينتبه له إلا بعد انكشاف الدور الروسي في ليبيا دعماً لحفتر أواخر العام الماضي 2019.
البداية كانت من قبرص
أثناء الحرب الباردة، كانت جمهورية قبرص عضواً في منظمة عدم الانحياز، أي أنها رسمياً لم تكن متحالفة مع الغرب المتمثل في حلف الناتو، ولا الشرق المتمثل في حلف وارسو، لكن كانت هناك علاقات عسكرية بين قبرص والاتحاد السوفييتي، وأغلب تسليح الجزيرة كان روسياً، وبعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، وقعت عام 1997 أزمة دولية حينما تم الكشف عن شراء جمهورية قبرص نظام الدفاع الصاروخي الروسي إس-300.
تركيا -العضو في حلف الناتو- اعتبرت أن نشر نظام الدفاع الصاروخي الروسي بمثابة "إعلان حرب"، ومع الضغط تراجعت روسيا وقبرص، ولم يتم نشر النظام الصاروخي، وسخر المسؤولون الأمريكيون وقتها من تشبيه البعض للأزمة بأزمة الصواريخ الكوبية أثناء الحرب الباردة، فروسيا بالفعل كانت دولة ضعيفة، واقتصادها هش، ولا يمكن أن تمثل تهديداً للمعسكر الغربي المتمثل في حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي.
لكن بعد نحو عقد من الزمان وأثناء الأزمة المالية العالمية، ظهرت روسيا في الصورة مرة أخرى ووقفت بجانب قبرص، من خلال قروض ميسرة لإنقاذها من الإفلاس، وتم توقيع اتفاقية عام 2013، جعلت لموسكو وضعاً خاصاً في قبرص، التي نسبة السائحين الروس إليها أكثر من ربع من تستقبلهم سنوياً، وتشير التقديرات إلى أنه ما بين ثلث إلى نصف الاستثمارات في البنوك القبرصية أصلها روسي.
هذه الاستثمارات الروسية في قبرص هدفها الأساسي بالطبع هو أن يكون لموسكو موطئ قدم في منطقة شرق المتوسط، وعلى الرغم من أن روسيا لم تحصل على كل ما كانت تطمح إليه لأسباب تتعلق بالموقف الجيوسياسي في المنطقة، وارتباطات قبرص -التي أصبحت عضواً في الاتحاد الأوروبي- فإن موسكو وقعت اتفاقيات بالفعل تعطيها الحق في قاعدة أندرياس بابادوبلوس الجوية، وهي القطاع العسكري في مطار بافوس الدولي، إضافة لقاعدة إيفانجيلوس فلوراكيس البحرية قرب ساحل الجزيرة الجنوبي في ليماسول، بهدف "إجلاء المواطنين الروس حال اندلاع أزمة في الشرق الأوسط"، ويقتصر الاستخدام الروسي على "حالات الطوارئ والحالات الإنسانية".
أهداف روسيا في شرق المتوسط
كل تلك التحركات الروسية في قبرص سبقت التدخل في سوريا، والذي بدأ يأخذ شكلاً علنياً منذ بدايات 2015، تحت ذريعة إنقاذ بشار الأسد الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الإطاحة به، لكن الصورة الآن أصبحت أكثر وضوحاً، فالقصة أبعد من الملفات المنفردة والتدخلات العشوائية التي تفرضها الظروف والفرص، والشهر الماضي، نشر المعهد البولندي للشؤون الدولية دراسة بعنوان "سياسة روسيا في شرق المتوسط"، ألقت مزيداً من الضوء على الصورة الأكبر للصراع.
تتعامل روسيا مع شرق المتوسط على أنها منطقة تنافس مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتريد السيطرة على أمن تلك المنطقة واستخراج ونقل مواردها من الطاقة إلى أوروبا، ومن أجل تحقيق هذا الهدف قامت بزيادة مستوى اتصالاتها السياسية مع جميع الدول المطلة على شرق المتوسط، بما فيها تركيا واليونان وإسرائيل، على الرغم من التناقضات في المصالح في بعض الملفات.
ومنذ التدخل في سوريا عام 2015، أصبحت منطقة شرق المتوسط عنصراً هاماً في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الدولية، وذلك من خلال استغلال الخلافات البينية داخل المعسكر الغربي، سواء بين أمريكا وحلفائها التاريخيين في أوروبا وحلف الناتو ومنطقة الشرق الأوسط، أو من خلال تقديم موسكو نفسها كوسيط في جميع ملفات الشرق الأوسط.
هل انتبهت أمريكا بعد فوات الأوان؟
الصورة إذن أصبحت واضحة الآن، وروسيا لم تعد "لاعباً إقليمياً" كما تمنى أوباما أو زعم، بل هي أشبه بالقوة العظمى التي لها وجود عسكري على الأرض في ليبيا، ولها مصالح اقتصادية وأطماع توسعية -شأنها شأن الدول الكبرى التي ترى خريطة العالم مناطق نفوذ ومصالح تسعى لأخذ النصيب الأكبر منها- لكن النقطة الأكثر تعقيداً هي العلاقات التي تشكلت فيما يخص ملفات الشرق الأوسط وشرق المتوسط، وجعلت بعض دول الناتو تقف في صف الدب الروسي وتقويه.
لم يكن لواشنطن وجود يذكر على الأرض في ليبيا منذ الإطاحة بمعمر القذافي، وجاء مقتل السفير الأمريكي في ليبيا خلال الهجوم الإرهابي الذي استهدف المجمع الدبلوماسي في بنغازي عام 2012 كضربة أخرى لذلك الوجود الرمزي، ثم فاز دونالد ترامب بالرئاسة تحت شعاره "أمريكا أولاً" لتظل واشنطن بعيدة عن البلد الذي كان مسرحاً للنفوذ الروسي طوال عهد القذافي.
ساحة الصراع في ليبيا إذن كانت متروكة للأوروبيين والأمم المتحدة، ومع توقيع الاتفاق السياسي عام 2015، وتشكيل حكومة شرعية معترف بها هي حكومة الوفاق، بدا أن الأمور في طريقها للاستقرار ولو شكلياً، لكن انقلاب خليفة حفتر على المسار السياسي المدعوم أممياً وأوروبياً، وشن هجومه على العاصمة طرابلس طمعاً في فرض حكم عسكري قلب أوراق الصراع تماماً، وانكشفت المواقف التي كانت مختفية وراء التصريحات الدبلوماسية في المحافل الأممية.
وبينما أخذت فرنسا صف حفتر مع داعميه الإقليميين مصر والإمارات، وقفت إيطاليا على الحياد مع ميل واضح نحو الحكومة المعترف بها شرعياً، وأصبح التنافس بين شركات الطاقة (إيني إيطاليا وتوال فرنسا) جزءاً من المعادلة وتحديد المواقف السياسية، بينما وقفت تركيا مع حكومة الوفاق وحتى بداية عدوان حفتر كان يبدو أن موسكو بعيدة عن الملف الليبي، شأنها شأن واشنطن.
وبعد أيام من هجوم حفتر على طرابلس في أبريل/نيسان 2019، جرى اتصال بينه وبين ترامب كان بمثابة دعم سياسي هائل، وهكذا دس ساكن البيت الأبيض أنفه في الملف الليبي مدفوعاً على الأرجح بالطمع في نصيب الأسد من كعكة النفط الليبي الدسمة، التي لوح له بها ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، طمعاً في دعمه السياسي لإقرار حكم عسكري في ليبيا، وأسباب ولي العهد والرئيس معلومة ومعلنة.
وعلى عكس الموقف الأمريكي العشوائي، جاء التدخل مدروساً وتدريجياً، فمرتزقة فاغنر يقاتلون بجانب حفتر مقابل المال، والسلاح الروسي تدفع ثمنه أبوظبي، بينما الهدف ليس دعم حفتر أو مساعدته على دخول طرابلس بقدر ما هو ضمان الحصول على قواعد عسكرية في ليبيا، بغض النظر عمن يحكم أو طبيعة الحكم ذاته، وهذا السيناريو كشفت عنه مجريات المعارك على الأرض، وتطور الموقف حتى اللحظة.
هل يكون التقسيم المخرج الوحيد؟
الموقف الآن على الأرض كالتالي: تجمّع قوات حكومة الوفاق المدعومة تركيّاً على أبواب سرت استعداداً لدخولها، والأمر نفسه في قاعدة الجفرة على نفس خط الطول تقريباً، بينما سياسياَ تتواصل المشاورات بين الأطراف المعنية بالصراع، وهي روسيا من جهة (تساندها فرنسا وبعض دول أوروبا التي تدور في فلك الرئيس إيمانويل ماكرون)، مقابل تركيا التي تدعم الحكومة الشرعية، ومعها إيطاليا، ودخلت واشنطن على الخط بعد أن أصبحت الاستراتيجية الروسية أمراً واقعاً.
مواقف دول الجوار ربما لا يكون لها تأثير يذكر في حال التوصل لصفقة سياسية يتفق عليها اللاعبون الدوليون، سواء حافظت تلك الصفقة على وحدة ليبيا -ولو من حيث الشكل- أو أدت لتقسيمها شرقاً وغرباً، لكن في حالة الفشل في الاتفاق وتكرر السيناريو السوري -وهذا ما لايتمناه ليبي أو عربي بالطبع- على الأرجح ستتورط دول الجوار أكثر في الصراع، وربما يكون الأمر أقرب لليمن منه إلى سوريا.