عكست تصريحات وزير الري السوداني ما يمكن وصفه بالانحياز لمصر في أزمة سد النهضة بعد سنوات من الانحياز لإثيوبيا، وهو ما يطرح تساؤلات حول حيثيات الموقف السوداني "المتذبذب" في قضية جوهرية مثل مياه النيل، ولماذا تبدّل الموقف الآن، وهل يمكن أن تعود الخرطوم إلى الصف الإثيوبي مرة أخرى؟
ماذا قال وزير الري؟
أمس الثلاثاء 23 يونيو/ حزيران، قال وزير الري والموارد المائية السوداني ياسر عباس إن "الآثار الإيجابية المحتملة لسد النهضة على السودان يمكن أن تتحول إلى مخاطر، دون اتفاق حول الملء والتشغيل"، بحسب بيان للوزارة، عقب لقاء عباس ممثلين لقوى الحرية والتغيير في بلاده بمقر الوزارة بالخرطوم.
وأقر عباس بـ"وجود احتمالية أضرار تتعلق بالتشغيل غير الآمن للخزانات السودانية حال عدم التنسيق وتبادل البيانات مع الجانب الإثيوبي"، مجدداً تأكيد بلاده "أهمية الوصول إلى اتفاقية ملزمة قانوناً في قضية ملء وتشغيل سد النهضة دون التطرق إلى توزيع حصص مياه النيل الأزرق".
وفي السياق ذاته، كانت وزارة الخارجية السودانية قد أرسلت مطلع يونيو/حزيران الجاري خطاباً إلى مجلس الأمن الدولي طلبت فيه تشجيع جميع الأطراف المعنية بملف سد النهضة على الامتناع عن أي إجراءات أحادية تؤثر على السلم والأمن الإقليمي والدولي.
ووقتها قال حيدر صادق، المتحدث باسم الخارجية لقناة "سكاي نيوز عربية"، إن "موقف الخرطوم حيال سد النهضة الإثيوبي لم يتغير"، وفي الرسالة، التي بعثت بها أسماء عبدالله، وزيرة الخارجية، لمجلس الأمن طالب السودان بدعم جهوده الهادفة لاستئناف التفاوض حول ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبى "بحسن نية وصولاً لاتفاق شامل ومُرضٍ لكل الأطراف".
موقف السودان غير ثابت
لكن المعلوم أن موقف السودان، حتى وقت قريب، لم يكن حتى "محايداً" بل كان منحازاً للجانب الإثيوبي، وخرج هذا الموقف للعلن في 4 مارس/آذار الماضي عندما تحفظت الخرطوم على قرار تبنته جامعة الدول العربية يؤكد حقوق مصر التاريخية في مياه نهر النيل، ويرفض أية إجراءات إثيوبية أحادية.
تحفظ الخرطوم على القرار أثار وقتها جدلاً واسعاً بشأن تحول موقف السودان التوافقي، حيث إنه منذ انطلاق المشاورات بشأن السد (قيد الإنشاء)، قبل سنوات، حرص السودان على البقاء في نقطة المنتصف بين مصر وإثيوبيا، وظل يؤكد تقديمه رؤية تخدم الأطراف الثلاثة، من حيث سنوات ملء وتشغيل السد، وأكد السودان، في أكثر من مناسبة، أنه يرى الحل في الاتفاق الشامل، بحيث تكون المصلحة من قيام السد الإثيوبي لصالح الدول الثلاث.
رفض ثم ترحيب
بالعودة إلى بداية الأزمة، نجد أن السودان منذ بدأت أديس أبابا أعمال تشييد السد عام 2011، كان موقفه متوافقاً مع الموقف المصري الرافض للسد تخوفاً من تأثيره على كميات المياه التي ستصل لدولتي المصب، لكن في مايو/أيار 2013 قالت إثيوبيا للسودان إنها قررت تغيير مجرى النيل الأزرق، كخطوة فاصلة في تشييد هيكل السد، فأعلن السودان وقتها أنه لن يتضرر من بناء السد.
ومنذ توقيع إعلان المبادئ في الخرطوم مارس/آذار 2015 بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والرئيس السوداني المخلوع عمر البشير ورئيس وزراء إثيوبيا السابق ديسالين، ظل موقف الخرطوم أقرب للوسيط منه لصاحب المصلحة المباشرة، لكن واقع الأمر أن الموقف السوداني كان منحازاً لأديس أبابا دون أن يعلن ذلك بشكل صريح، حتى جاء الموقف في الجامعة العربية كما أسلفنا.
هل السد في صالح السودان؟
الموقف السوداني بالطبع كانت له مرتكزاته وأسبابه المتعلقة بالمصلحة بشكل مباشر، والتي لخصها أكثر من محلل وخبير سوداني مثل خبير المياه عثمان التوم الذي قال للأناضول قبل فترة إن "السودان يرى ضرورة استمرار الحوار بين الدول الثلاث للوصول إلى توافق بشأن السد"، مضيفاً أنه "يجب إبعاد المنظمات الدولية والإقليمية عن ملف سد النهضة، تفادياً للاستقطاب"، على أساس أن "90% من القضايا الخلافية حول السد بين الدول الثلاث تم التوافق بشأنها، وبالاستطاعة إيجاد حلول لما تبقى من قضايا خلافية".
سامي محمد أحمد، خبير المياه والأستاذ بجامعات سودانية، كان أكثر وضوحاً، حينما قال إن "التفاوض بشأن السد يجب أن يمضي بتغليب المصلحة الوطنية والأمن المائي السوداني"، حيث يرى أن "السودان سبق أن قدم تنازلات في اتفاقية 1959، وهي اتفاقية ظالمة للسودان ودول حوض النيل"، مضيفاً أن "تفاوض السودان يجب أن يمضي أبعد من ذلك، بحيث يطالب بزيادة حصته من المياه؛ لأنه مجابه بفقر مائي".
لماذا تحول الموقف الآن إذن؟
الإجابة عن هذا السؤال تتطلب توضيح سبب الخلاف الأساسي بين مصر وإثيوبيا وهو رفض أديس أبابا توقيع أي اتفاق ملزم يتعلق بملء وتشغيل السد، على أساس أن الجانب الإثيوبي يصر على أن "المياه ملك له وحده يتصرف فيها كيف يشاء".
وهذه النقطة في حقيقة الأمر ربما لا تتعلق بسد النهضة ذاته وسنوات الملء والتشغيل بقدر ما تتعلق بالمبدأ نفسه المتعلق بأحقية إحدى دول المنبع على نهر دولي في إعلان امتلاكها للمياه والتحكم فيها بشكل أحادي، وهو موقف ينتهك قواعد القانون الدولي التي تحكم الأنهار العابرة للدول، وهذا هو لب الموقف الآن.
مصر، من جانبها، أعلنت ترحيبها بالسد ووقعت على إعلان للمبادئ أعطى إثيوبيا كل ما أرادت وأثار هذا الإعلان حفيظة كثير من المسؤولين المصريين ومنهم رئيس وفد التفاوض الذي استقال قبل التوقيع، كما وافقت مصر على الاتفاق الذي رعته واشنطن ووقعت عليه بالأحرف الأولى، لكن إثيوبيا رفضته ورفضت أي التزام من أي نوع، كاشفة عن نواياها الحقيقية وهي التحكم في مياه نهر النيل الذي يمثل "الحياة" نفسها لمصر والسودان معاً.
فتش عن نوايا أديس أبابا
وحتى جولات مفاوضات واشنطن، كان السودان لا يزال أقرب للموقف الإثيوبي، حيث تحفظ على الاتفاق الذي قبلته مصر ورفضته إثيوبيا، وتلا ذلك تحفظ آخر على قرار الجامعة العربية، فما الذي أدى لتغير موقف الخرطوم؟
الإجابة تكمن في جولة المفاوضات الأخيرة التي دعت إليها السودان ووافقت عليها مصر ولم تفض إلى أي جديد في موقف أديس أبابا، وهو ما وضع الخرطوم أمام "الحقيقة العارية" كما يقال، وهي أن التعنت الإثيوبي ليس مرتبطاً بقصة ملء وتشغيل سد النهضة بقدر ما هو مرتبط بملكية المياه، وهذه النقطة جعلت هناك تطابقاً في وجهتي النظر الخاصتين بالقاهرة والخرطوم.
وهذه النقطة موجودة ضمناً في كلام وزير الري السوداني الذي لم ينف وجود مصلحة سودانية وآثار إيجابية من تشييد سد النهضة، حيث قال "الآثار الإيجابية المحتملة لسد النهضة على السودان يمكن أن تتحول إلى مخاطر، دون اتفاق حول الملء والتشغيل"، والحديث هنا عن سد الروصيرص السوداني على النيل الأزرق والذي يبعد فقط 100 كيلومتر عن سد النهضة.
ومن هذا المنطلق، رفضت الحكومة السودانية مقترحاً من إثيوبيا بتوقيع اتفاق ثنائي جزئي للملء الأول لسد النهضة، مبدية تمسكها بالاتفاق الثلاثي الموقع بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا.
السر وراء التحول في موقف السودان إذن يرجع بالأساس للتعنت الإثيوبي على الأرجح، وهو ما عبر عنه المفكر السياسي المصري مصطفى الفقي الذي قال أمس الثلاثاء في لقاء تلفزيوني إن السودان تبنى موقفاً مغايراً في أزمة سد النهضة وتحول تماماً، لأنه يخدم مصالحه، وإن التعنت الإثيوبي "استفز أطرافاً كثيرة".