يبدو أن محاولة حلِّ النزاع الحدودي الصيني الهندي صعبة، ليس فقط لأسباب سياسية، بل إن الطبيعة نفسها لا تريد حلَّ هذا النزاع القائم بين أكبر دولتين في العالم من حيث السكان.
وأدَّى قتالٌ نَشَبَ مؤخراً بين الجنود الصينيين والهنود على الحدود الغربية المتنازع عليها في الهيمالايا، إلى مقتل 20 جندياً هندياً وإصابة 20 بجروح خطيرة، وعدد غير معروف من الضحايا الصينيين.
وما تسبَّب في اندلاع هذا الصراع هو الطرق التي بُنيت بالقرب من الحدود، وربما السدود. وتؤكد هذه المشاريع جميعها على هشاشة البيئة في ارتفاعات شاهقة، وأهميتها العالمية، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Diplomat الأمريكية.
وركزت معظم التعليقات المتعلقة بهذه الخلافات على حزم الصين المتزايد في السياسة الخارجية، وطول أمد هذا الصراع. ولكن من المفترض أن يدفع هذا الصراع أيضاً إلى إعادة النظر في ضرورة أقلمة (تحديد النطاق الإقليمي) هذه البيئات الهشة والمعزولة، التي يغلب عليها الجبال الشاهقة والأودية السحيقة والأنهار والبحريات الجليدية.
الموت على قمم الجبال ليس خطراً يواجه الجنود الصينيين والهنود فقط
والاشتباك الذي وقع مساء يوم 15-16 يونيو/حزيران، يمثل المرة الأولى التي يلقي فيها جنود حتفهم في قتال بين الصين والهند في السنوات الأربعين الماضية.
لكن هؤلاء ليسوا الجنود أو موظفي الدعم الوحيدين الذين يلقون حتفهم في هذه المنطقة خلال تلك الفترة. إذ دخلت الصين والهند وباكستان في خلاف حول منطقة جبال الهيمالايا الغربية منذ أكثر من 70 عاماً. وخلال هذا الوقت، مات آلاف الجنود، ولحقت أضرار كبيرة بالبيئة الهشة لهذه المنطقة، مثل الكتل الجليدية التي تستقر عند منابع أحواض أنهار السند وبراهمابوترا وتاريم.
شعوب هذه المناطق لم تعرف الحدود أصلاً
ولا بد من تبني توجهات بعيدة عن الأقلمة، وبوسعها الحفاظ على البيئة وخدمة الشعوب الأصلية بشكل أفضل لإنهاء هذا الصراع.
ففي خلافهما الحدودي، تتهم الصين والهند بعضهما بالتعدي على الأرض أو فرض "حدود الحقبة الاستعمارية"، لكن المصادر التاريخية تشير إلى أن فكرة الحدود الخطية، المرسومة من قمة إلى أخرى في مناطق على ارتفاعات شاهقة، كانت في حد ذاتها اختراعاً استعمارياً.
إذ إن شعوب التبت، واللاداخ، والبالتي، والغلغت، الذين تربطهم أطول علاقة بهذه الأراضي، لم يتعاملوا مع الحدود بهذه الطريقة. والمعاهدات بين هؤلاء الشعوب، مثل معاهدة Tingmosgang بين التبت ولاداخ التي أُبرمت في القرن السابع عشر، أقرت الحدود عند الممرات الجبلية، حيث كان من الممكن الانخراط في التجارة، وإحباط حركة الجيوش.
وكان البدو وحدهم يتنقلون في الوديان الصحراوية الشاهقة، ثم أصبحوا يتنقلون فيها خلال الصيف فقط. ولا تزال شعوب المنطقة تنشر توعية ثقافية عن مخاطر الوديان الشاهقة والعواقب البيئية لتدمير مصادرها المائية.
جذور النزاع الحدودي الصيني الهندي.. البريطانيون هم من بدأوا هذه البدعة الجغرافية
وقد بدأ رسامو الخرائط الإمبرياليون البريطانيون في رسم خرائط المنطقة في القرن التاسع عشر، في سعيهم لرسم الحدود بين ولاية جامو وكشمير الأميرية والتبت. وأُجريت هذه العملية من خلال معاهدات مع أسرة دوغرا، التي كانت في جامو، لكنها كانت تسيطر على مناطق لاداخ، وبالتستان، وغِلغت المرتفعة خلال القرن التاسع عشر. وكانت التبت محمية لإمبراطورية تشينغ منذ أوائل القرن الثامن عشر، ولكنها في هذه المرحلة كانت تتمتع بمستوى عال من الحكم الذاتي.
وأراد البريطانيون خريطة تحدد منطقة نفوذهم من منطقة نفوذ تشينغ، حيث اعتبروا أن هذه الحدود هي الأضعف بين حدودهم، لكن التضاريس كانت صعبة، وكانت خرائطهم غير دقيقة. وحين حاولوا إشراك السكان المحليين في العملية قوبلوا بالتشكيك والمقاومة. وبدلاً من الإصغاء إلى هذه المعرفة المحلية مضوا في إعادة التشكيل الاستعماري للمنطقة.
لم يلجأ البريطانيون (من خلال أسرة دوغرا)، ولا تشينغ، ولا خلفاؤهم، الدولة الصينية الجمهورية، إلى أقلمة هذه المنطقة الشاهقة بين لاداخ وغرب التبت وجنوب شينجيانغ؛ وبدأت المطالبات بالمنطقة اعتماداً على الخرائط، لكنها لم تتحقق على الأرض.
خسائر في الأرواح جراء المفاجآت الجيولوجية
ولم تبدأ أقلمة المناطق المرتفعة إلا عندما أصرَّت دول الصين والهند وباكستان الجديدة على مطالباتها التي ورثتها عن الإمبراطوريات السابقة. وعلى مدار السبعين عاماً الماضية تكبّدت هذه الدول العديد من الأرواح جرّاء هذا المسعى الذي ألحق أيضاً الضرر بالبيئة، وعطَّل التجارة الإقليمية والحج والطرق البدوية.
كما ثبت أنها مهمة مستحيلة إلى حد ما، ففي حين أن رسامي الخرائط في القرن التاسع عشر وجدوا صعوبة بالغة في رسم الوديان العالية دون التكنولوجيا، تطرح المعرفة العلمية المعاصرة مشكلة أخرى لصانعي الحدود، وهي أن معالم هذه المنطقة النشطة زلزالياً والمنحوتة في الجليد كثيراً ما تتغير بالكامل.
إذ إن الحدود التي تميزها البحيرات والجليد والأنهار تتحرك مع تغير الفصول، والأرض نفسها تحوي ما أطلق عليه مهندسو الحكومة الهندية ذات مرة "المفاجآت الجيولوجية".
وهذه المفاجآت الجيولوجية لا تقوّض المحاولات العسكرية لتأسيس بنية تحتية دائمة فحسب، بل إنها تحرك الحدود أيضاً.
وقد يؤدي إنكار بيئة المنطقة المشحونة وتاريخها الذي كان بلا حدود إلى تعزيز هذه التوترات الجارية، ولكن الاعتراف بكليهما يمكن أن يساعد في تحقيق التقدم.
فإذا خلت القمم الشاهقة من الحدود والأقلمة (محاولة فرض نطاق إقليمي)، فسنتجنب الكثير من الخسائر في الأرواح التي لا معنى لها، وتدمير البيئة، وستتاح الفرصة أمام التبادل الاجتماعي والثقافي بين المجتمعات المحلية في المنطقة.
حديقة على أطول نهر جليدي خارج القطبين
وظهرت مقترحات باتخاذ خطوات كهذه من قبل، مثل إنشاء حديقة سلام على نهر سياشين الجليدي على خط السيطرة بين الهند وباكستان، وهو أطول نهر جليدي في كاراكورام، والثاني في المناطق غير القطبية.
وتوجد مناطق جليدية أخرى حول العالم تخضع للحكم من خلال مجالس ومعاهدات وليس الجيوش. وأحدها المجلس القطبي (الخاص بالقطب الشمالي)، يضم صوتاً للسكان الأصليين لهذه المناطق.
فبدلاً من الرجوع إلى المطالبات التي لا تتوقف بالقومية والأقلمة، لا بد أن تضع دراسة للعلم والتاريخ هذا الإحساس بأهمية رسم الحدود في هذه المنطقة موضع تساؤل.