يبدو أن الاحتجاجات التي يشهدها العالم الغربي تحت شعار "حياة السود مهمة" قد أثارت قضايا تتخطى مجرد العنصرية تجاه السود إلى نظرية "تفوق الرجل الأبيض" التي كانت أساساً للاستعمار الأوروبي للعالم، وهي النظرية ذاتها التي صاغت العلاقات بين الدول ولا تزال، فهل حان الوقت لمراجعة شاملة لتلك النظرية بشكل فعلي؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "لماذا العرق مهم في العلاقات الدولية؟"، ألقى الضوء على النظرية التي تم على أساسها تصنيف دول العالم؛ ومن ثم بناء هيكل العلاقات الدولية منذ عهود الاستعمار، وكيف أنها لا تزال المحرك الأساسي لتلك العلاقات حتى الآن.
متى نعترف بالحقيقة ونواجهها؟
ليس العرق منظوراً يمكن من خلاله رؤية العلاقات الدولية، بل خصيصة مركزية منظِّمة للسياسة العالمية. لقد قادت العنصرية ضد اليابانيين إلى -وحافظت على- انخراط الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، وأثَّرت العنصرية ضد الآسيويين على تأسيس منظمة حلف شمال الأطلسي وتكوينها، وفي الحرب الباردة، كانت العنصرية ومناهضة الشيوعية متداخلتين في استراتيجية الاحتواء التي وضعت ملامح تعامل واشنطن مع إفريقيا وآسيا وأمريكا الوسطى والكاريبي وأمريكا الجنوبية.
واليوم، يصوغ العرق إدراك المخاطر والاستجابة للتطرف العنيف، داخل نطاق "الحرب على الإرهاب" وخارجه، لكن التيار السائد في الدراسات الأكاديمية بحقل العلاقات الدولية ينفي كون العرق جوهرياً لفهم العالم، ويضر ذلك بنزاهة الحقل وتماسكه.
فلنأخذ النماذج الثلاثة الكبرى في العلاقات الدولية: الواقعية، والليبرالية، والبنيوية. هذه الأطر السائدة في فهم السياسة العالمية مبنية على أسس فكرية معنصرة وعنصرية تحد من قدرة الحقل على الإجابة عن أسئلة مهمة متعلقة بالأمن والنظام العالميين. فالمفاهيم المركزية، مثل الأناركية والهيراركية، معنصرة، إذ إنها تنشأ من خطابٍ يتمحور حول أوروبا والغرب ويفضّلهما، وهذه المفاهيم تحرِّض صراحة وضمناً "المتقدم" ضد "المتخلف"، و"الحديث" ضد "البدائي"، و"المتحضر" ضد "الهجمي"، واستعمالها عنصري من حيث أن هذه الثنائيات تُستعمل في الإخضاع والاستغلال في أنحاء الكرة الأرضية.
وفي حين بُنيت الواقعية والليبرالية على المركزية الأوروبية، وتم استعمالها في تبرير الإمبريالية البيضاء، فإن هذه الحقيقة لا تلقى اعترافاً واسعاً داخل الحقل، فعلى سبيل المثال، يرى الواقعيون الجدد وجود "توازن قوى" بين "القوى الكبرى"، وأغلب هذه القوى الكبرى دولٌ ذات أغلبية بيضاء، وليس هذا بمحض الصدفة، وهي تجلس على قمة التراتبية الدولية، وتتوزع قوى أصغر و"أقل بياضاً" أسفلها، وكذلك يتأسس مفهوم التعاون في الفكر النيوليبرالي على تراتبيات ومفاهيم معنصرة، فالقوى الكبرى تملك الطاولة، وترص المقاعد، وتجهز المكان.
أما البنيوية، آخر "المقاربات الثلاث الكبرى"، فهي على الأرجح أفضلهم في معالجة مسألة العرق والعنصرية، فالبنيويون يرفضون حالة الأناركية المعطاة مسبقاً، ويقولون بأن الأناركية والأمن والمشاغل الأخرى كلها بناءات مجتمعية قائمة على الأفكار والتواريخ والخبرات المشتركة، ولكن، بخلاف بعض الاستثناءات الملحوظة، نادراً ما يعترف البنيويون بكيفية صياغة العرق لما يتشاركه البشر.
كذبة السلام الديمقراطي
ورغم هيمنة تلك المقاربات الثلاث الكبرى في الدراسات الحديثة بحقل العلاقات الدولية، فإن العديد من الحجج التي تقدمها، مثل توازن القوى، لا تدعمها أدلة فعلية خارج نطاق أوروبا الحديثة، فلنتناول نظرية السلام الديمقراطي. تقدم هذه النظرية افتراضين: أولهما أن الديمقراطيات أقل عرضة للدخول في حربٍ من الدول غير الديمقراطية، وأن الدول الديمقراطية احتمالية محاربتها لدول ديمقراطية أخرى أقل.
يُظهر السجل التاريخي أن الديمقراطيات ليست أقل عرضة للدخول في الحروب، إن وضعنا الحروب الاستعمارية في حسباننا. وفي الوقت نفسه، نجد أن الدول المتحولة إلى الديمقراطية في مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تمر بنزاعاتٍ داخلية أكثر من الدول الأقل ديمقراطية في تلك المناطق. غير أن زعماء الغرب استدعوا نظرية السلام الديمقراطي لتبرير غزو البلدان الأقل ديمقراطية والأقل بياضاً بصورة ملحوظة واحتلالها.
وهذا من المكونات الأساسية للإقصاء العنصري في نظرية العلاقات الدولية: فالنظام الدولي الذي تسعى النظرية إلى تفسيره نشأ من معاهدة وستفاليا في عام 1648، التي أنهت حرب الثلاثين عاماً وأرست المبادئ الأوروبية للدولة والسيادة، وبعيداً عن الآثار الغابرة من القرن السابع عشر، فهذه المبادئ موجودة في وثيقة الأمم المتحدة، التي هي أساس الحوكمة العالمية منذ 1945. لكن الشعوب غير الأوروبية لم تتبنَّ المفاهيم الأوروبية للدولة والسيادة تطوعاً كما تذهب أساطير الأكاديميين في حقل العلاقات الدولية. لكن أوروبا، متذرعة بصلح وستفاليا، قسمت العالم بين الدول الحديثة "المتحضرة" واحتلت البلدان التي اعتبرتها لا تنتمي إلى النظام الدولي.
ويحاجج الباحث في العلاقات الدولية سناكاران كريشنا بأن الحقل، بسبب أن نظرية العلاقات الدولية تقدم التنظير على الوصف والتحليل التاريخي، يُتيح هذا النوع من التبييض. فالمفاهيم الغربية تُعطى الأولوية على حساب قابليتها للتطبيق في العالم، ويسمي كريشنا هذا "سياسات النسيان الممنهجة، وفقدان الذاكرة الاختياري فيما يخص مسألة العرق".
تفوق الرجل الأبيض
والأهم أن نظرية العلاقات الدولية لم تكن على الدوام متجاهلة للعرق. ففي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، صدرت نصوص تأسيسية تعتبر العرق المحور الذي يربط الإدارة والحرب الاستعماريتين. فالاعتقاد بأفضلية البيض بيولوجياً وسوسيولوجياً قدَّم ثنائية مناسبة بين المتحضر والهمجي بررت الاستغلال الدموي للثاني على يدِ الأول.
وقد اعتبر بول صامويل رينش، أحد مؤسسي نظرية العلاقات الدولية والسياسة الخارجية الحديثة، القرن العشرين "عصر الإمبريالية الوطنية". وخلص رينش إلى أن الدول "تسعى إلى زيادة مواردها.. عبر الاستحواذ على المناطق المتخلفة والأعراق الأدنى واستغلالها". غير أنه طمأن قُراءه بأن هذا "لا يتعارض مع احترام الشعوب الأخرى"، لأن الدول تتجنب فرض سيطرتها على "الأمم المتحضرة".
وقد انتشر انتباه المفكرين للعرق في تلك الفترة إلى الدوريات الأكاديمية والمؤسسات البحثية. على سبيل المثال، قدمت دورية تطوير العرق- وهي أول دورية أكاديمية عن العلاقات الدولية، تأسست في 1910- أطروحات عنصرية، من بينها عجز "أعراق السكان الأصليين" عن تأسيس دولة بغير استعمار. ومع ذلك، تضمنت صفحات تلك الدورية انتقادات حادة من عالِم الاجتماع ويليام إدوارد بورغارت دوبوا وباحثين آخرين انتقدوا المركانتلية الأوروبية. في 1919، تغيرت تسمية الدورية إلى دورية العلاقات الدولية دون تغيُّر كبير في المحتوى، وفي 1922، وُلِدت خلفاً لها مجلة Foreign Affairs (الشؤون الخارجية).
وقد جاء منتصف القرن العشرين ببعض التحولات في فكر العلاقات الدولية والسياسة الخارجية. فقد وضع باحثون سود في العلاقات الدولية، يعملون بالأساس من جامعة هاورد الأمريكية، تقليداً نظرياً متماسكاً يقاوم التفوق الأبيض الذي يفضّل الإمبراطوريات الأمريكية والأوروبية على غيرها. وقد أدت الثورات المناهضة للاستعمار في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات إلى زيادة إشكالية الوعد بالإمبراطورية في الأطر الواقعية ومثالية التعاون الأبوي المتأصل في الفكر الليبرالي.
تجاهل القضية لن يحلها
لكن التيار السائد في نظرية العلاقات الدولية لم يكيف موقفه بشأن العرق أو يطوره. فأغلب الباحثين في العلاقات الدولية توقفوا عن التعامل مع الموضوع من الأصل. بين عامي 1945 و1993، من بين الدوريات الخمس الكبرى في حقل العلاقات الدولية في ذلك الحين، لم تنشر سوى واحدة فقط مقالاً توجد كلمة "العرق" race في عنوانه. ونُشرت أربع مقالات فقط تضمنت كلمة "الأقليات" minorities، و13 تضمنت كلمة "الإثنية" ethnicity. ومنذ ذلك الحين، أهمل التيار السائد العرق في التنظير والتفسير التاريخي وفي التوصيات، وأزاح العرق (والجنس) جانباً باعتبارهما ضمن "المنظورات الأخرى". وحين يشتبك الباحثون بالفعل مع العرق، فإنهم يفعلون ذلك في نقاشات مسائل معنصرة متجهة إلى الخارج، مثل الاستعمار.
لكن لا يسع المرء فهم السياسة العالمية إنْ تجاهل العرق والعنصرية. فالمراجع والكتب الدراسية التي تُهمل العبودية التاريخية والحديثة في تفسيراتها للتنمية والعولمة تُعمي وقائع بناء الدول وتنكر الأذى المُرتكب بتلك العمليات. وبالمثل، حين تُخفق الأبحاث في الإشارة إلى الدور الذي يلعبه العرق في استعمال الأمم الغربية للقانون الدولي لتبرير التدخل العسكري، فإنها توفر غطاءً للمعادل الحديث لـ"بعثات التنوير والتحضر". وبالمثل، فإن دراسات التجارة وتسوية النزاعات كلها تقريباً تُغفل الجذور العميقة لآليات التحكيم الدولي في تجارة العبيد العابرة للأطلنطي. هذا التاريخ يضيع غالباً وسط تحليلات المكاسب والخسائر في المفاوضات.
إن العرق وعنصرية العمليات التاريخية لبناء الدول لا يمكن فصلهما عن الدراسة والممارسة الحديثة للعلاقات الدولية. وهما أيضاً ليسا نتاج عملية الاستقصاء: فالعرق ما زال يشكل الإدراك الداخلي والدولي للتهديدات، وبالتبعية يؤثر على السياسة الخارجية، والاستجابة الدولية للمهاجرين واللاجئين، بل إتاحة الاستقرار الصحي والبيئي.
كيف يمكن مواجهة قضية العرق؟
ولأن التيار السائد في حقل العلاقات الدولية لا يأخذ العرق أو العنصرية على محمل الجد، فإنه أيضاً لا يأخذ التنوع والاحتواء داخل الحقل بجدية. في الولايات المتحدة، كبرى الدول المنتجة لأبحاث العلاقات الدولية، لا تتعدى نسبة الباحثين السود واللاتينيين 8%، بالمقارنة بـ12% من الباحثين في السياسات المقارنة و14% في سياسة الولايات المتحدة. وهذا رغم أن القضايا التي يدرسها الباحثون في العلاقات الدولية، مثل الحرب والهجرة وحقوق الإنسان والتنمية والتغير المناخي، لها أثر أكبر على السود والسكان الأصليين والملونين.
هناك عدة أسباب لهذا الاختلال. أولاً، هناك ميل متفشٍّ في أوساط الباحثين البيض إلى افتراض أن الباحثين الملونين يدرسون العرق والإثنية وسياسات الهوية بالولايات المتحدة أو في سياق منطقة معينة. ومع أن الباحثين الملونين يدرسون هذه الحقول بالفعل، فإنه لا يوجد سبب فكري لتوقع أن كلهم يفعلون هذا. هذا الميل إلى افتراض، بل تحديد، أين تنتمي مجموعات مختلفة من البشر يوصل رسالة للباحثين الملونين في العلاقات الدولية بأنهم غير مرحب بهم.
إن طريقة تدريس العلاقات الدولية تُسهم في استمرار أوجه عدم المساواة البحثية والمهنية. في استطلاع رأي أجري عام 2014 لأساتذة العلاقات الدولية، قال 40% منهم إنهم ينظمون مقرراتهم بناءً على النماذج التقليدية لدراسات العلاقات الدولية. وبما أن كثيراً من الأعمال في هذه النماذج يهيمن عليها البيض وتُحركها المركزية الأوروبية، فإن المرأة وغير البيض، وقضايا العرق والعنصرية، تتعرض للتهميش في المقررات الدراسية.
والمثير للاهتمام أن تنظيم الأساتذة لمقرراتهم لا يُظهر بالضرورة منهجهم الخاص في دراسة العلاقات الدولية. في الاستطلاع نفسه، قال 25% من الخاضعين للاستطلاع إنهم لا يستعملون التحليلات النموذجية. وهذا يُلقي بمزيد من ظلال الشك على تلك النماذج باعتبارها أُطراً محورية لكنها إقصائية.
لا يمكن للباحثين في العلاقات الدولية التخلص من التاريخ الفكري للحقل، لكن لا يمكنهم أيضاً قبوله دون انتقاد. فالهيمنة الغربية والأفضلية البيضاء تتخللان الأبحاث والتدريس والاتحادات المهنية بالحقل، على حساب نزاهته العلمية، وعلى حساب صلته ومناسبته لتكوين نصيحة موجهة لواضعي السياسات. وللإسهام في حل هذه المعضلات، ينبغي أن يركز الباحثون جهودهم على ثلاث مبادرات.
أولاها أن مدرسي العلاقات الدولية ينبغي أن يتعرضوا للعرق والعنصرية في حقل العلاقات الدولية، ويعترفوا بفائدة المقاربات النقدية. يعني هذا إدماج الأعمال الأكاديمية عن العرق في المقررات ما قبل وما بعد التخرج، وليس تخصيص "أسبوع عن العرق" في نهاية الفصل الدراسي. فبرغم الإقصاء في هذا الحقل، ما زال هناك باحثون ممتازون يعملون على العرق في العلاقات الدولية.
ويمكن أيضاً تنظيم مقررات تقديمية عن القضايا، ومن بينها النزاعات بين الدول، وحقوق الإنسان، والسياسات البيئية، من أجل إيجاد مداخل أكثر تعدداً للأبحاث ذات الصلة وللطلبة من غير البيض. ثانياً، ينبغي أن تحسن الجامعات تمثيل الباحثين وتزيد من التنوع الفكري. وينبغي أن تسعى برامج العلاقات الدولية إلى تعيين وتدريب والاحتفاظ بمرشحين متنوعين من الخريجين وطاقم التدريس، ليقدموا منظوراً جديداً ويشجعوا الابتكار في الحقل. وثالثاً، ينبغي أن تصير الاتحادات المهنية أكثر شمولاً.
هذه الخطوات مباشِرة ويمكن تحقيقها. كل ما يتطلبه الأمر هو أن يمتلك أصحاب النفوذ رغبةً في تحقيقها، ويعملوا على ذلك.